ثقافة

الطَّرْحان/ سردية البحث عن المعنى الضّائع.

بيدر ميديا.."

الطَّرْحان/ سردية البحث عن المعنى الضّائع

واسيني الأعرج

 

مازلت عند ظني الأول الذي يحاذي اليوم القناعة المترسخة. هناك تجربة روائية نبتت داخل الصمت قبل أن تفرض نفسها من خلال عملين مكتملين مؤهلين للذهاب بعيداً، والآتي حتماً لن يكون إلا أجمل. بعد سنوات التكوين والمثابرة الثقافية ومحاولات الظل، أصبحت الرواية الصحراوية حقيقة في الجزائر. الأغراض التقليدية الأخرى فرضت نفسها بسهولة في وقت متقدم، فقد وجدت المناخ الملائم لها، كالشعر، والشعر الشعبي تحديداً الذي عرف مجده وجسد بقوة ذلك العالم الغامض الذي يتخفى تحت الصمت والكثبان الخادعة التي تتغير باستمرار لغة وإبداعاً وتخييلاً. ليس بنڨيطون إلا تجربة صغيرة معبرة عن تلك القوة الشعرية الصحراوية الكبيرة. الموسيقى الصحراوية عرفت مجدها ونقلت صوتها الشجي الصافي ونشيجها العميق وجبروت الطبيعة وأنماط الحياة، نحو المستمع من خلال صوت خليفي أحمد، وخاله، والبار أعمر، لكن الرواية بوصفها عالماً تركيبياً معقداً احتاج إلى وقت أطول، إلى صوتين مميزين ليعلن عن نفسه بقوة من منبر الجوائز الوطنية والعربية متخطياً عتبات الرواية السجينة في التاريخ القديم دون لمس واقع هو جزء مهم من رهانات أي كتابة. كتابة متوغلة في إنشاء وإعادة تركيب صحرائها التي يحضر فيها التاريخ، والأنثروبولوجيا، وعالم الخرافة، وشطط العيش ومتعة الشاي الصحراوي. تحضر الصحراء، إضافة إلى ذلك، بوصفها حياة يومية لبشر يعيشونها كما هي بأحلامها وقسوتها. ربما كانت هنا نقطة الاختلاف والقوة أيضاً مع ما يكتب هنا وهناك عن الصحراء. لم تعد الصحراء مجرد أصداء لزمن مضى ونقوش صخرية على قيمتها، ولكنها عواصف رملية تتحرك بقوة حيث لا أحد ينتظرها. صحراء هؤلاء الكتاب حياة ممتلئة، ومقابر أجداد حقيقيين، عادات وتقاليد شديدة القسوة والرفعة. الصحراوي في كتاباتهم يحمل الشمس تحت جلده، والعطش في حلقه قبل أن يرتسم على جفاف شفتيه اليابستين، وجسده المغطى برمل العواصف والممتلئ بالأناشيد الغامضة التي رواها الأجداد.
سلكت رواية «الطرحان» هذا الطريق الذي نحن بصدده الأمر، مما أعطاها صدى واسعاً محلياً وعربياً. مع أنها صدرت منذ فترة قريبة، فبراير/ شباط 2022، عن دار خيال للنشر والترجمة، فازت بأهم جائزة جزائرية «آسيا جبار للرواية»، النص العربي. تعني كلمة «الطرحان»، كما حدد معناها منذ الثلاثينيات، في توات بوصفها «حيلة ربوية تنتهي برهن الأموال ونهبها في حالة عدم التسديد». ستتحدد حركة الرواية كلها سردياً من خلال هذا العنوان نفسه. مأساة السباعي ورحلته الطويلة، كان مصدرها الأساسي «الطرحان».
نشأ السباعي ولد نجّوم، السارد الأساسي للرواية، في منطقة توات. في بيت جده أحمد الكعوي الواسع الذي ضم بين حيطانه ثلاث عائلات: والده الذي سماه «السباعي» لأنه ولد في اليوم السابع. ورقم سبعة هو رقم أسطوري استعارته القصص الخرافية والأديان التوحيدية. عرف من كتب أجداده الأولى السر المخفي، والفتنة التي كانت بين قبيلة سيد الحاج المأمون وقبيلة النّعيمي. إضافة إلى عائلته، فقد سكنت في البيت نفسه عائلة عمه لخضر، وزوجته، وعائلة عمه الثاني الفضيل. تخترق الصراعات الخفية والظاهرة هذه العائلات الثلاث بسبب الميراث ومصالح أخرى. اختارت الرواية مكانها الطبيعي، المجتمع الصحراوي بكل تفاصيله، قبل أن يتعدد بحسب حركة السباعي داخل البنية السردية التي لم تنغلق على مكانها الأساسي، توات أو أدرار، ولكنها اخترقت القارات حتى وصلت إلى فيتنام (الحرب الهند الصينية) من خلال تيه السباعي الذي فُرض عليه بالقوة. قدر صنعته الظروف التي أحاطت به منذ أن اضطر إلى مغادرة أرضه بسبب كارثة «الطرحان» الذي سرق منه كل شيء حتى حميمياته: الياقوت بنت النّعيمي التي لم يتمكن من الزواج منها، إذ اضطر إلى رهن كل ما كان يملك لوالدها، من أجل أخته التي كانت تعاني صحياً، لكنه بعد الخمسة أشهر المتفق عليها لم يتمكن السباعي من إرجاع ديونه الموثقة إلى النعيمي. أذعن في النهاية لقانون الطرحان بحضور الطالب الموثق قلوش، يفقد نتيجة لذلك سبخة عومر، والمخزن البراني. على الرغم من أنه اشتغل بقسوة، لكن الجراد الذي قاومه مع صديقه بازا التهم المحصول في مجمله، ولم يترك له حلولاً كثيرة سوى الإذعان. يقرر الارتحال إلى رڨان رفقة صديقه بازا، بعد أن رهنت أمه ضبلونتها (دبلون Le Doublon) الثمين لدى القايد في تيطاوين، ومنحته قيمته المادية. فيفترق عن صديقيه؛ بازا نحو القنادسة ببشار، والحساني نحو وهران، بينما يرتحل هو نحو حموديا حيث وجد عملاً عند الفرنسيين الذين اختبروا طاقة تحمله للأعمال الشاقة. ينتهي به المآل إلى العمل في حديقة الضابط العسكري الرائد جونسون وزوجته نادين، التي سرعان ما تسقط في حبه بسبب إهمال زوجها لها. علمته الإيتيكت، واللغة الفرنسية، وتنام معه كلما اشتهته. ساعد والدته على استعادة دبلونها من مخالب القايد. يقرر بعدها العودة إلى قريته بحثاً عن حبيبته الياقوت، لكن بسبب وشاية جونسون، يلقى عليه القبض ويقتاد إلى «لاندوشين» اعتماداً على قانون التجنيد الإجباري، للمشاركة في حرب فيتنام. يقاتل هناك في الصفوف الأولى، في حرب لم تكن له، فيجرح ويلقى عليه ويسجن في انتظار صفقة مبادلته بسجناء فيتناميين. يتعرف على الديانة البوذية التي كان يسمعها من خلال تراتيل الراهب دالاماتشو برأسه الحليق ولباسه البرتقالي. لكن الفرنسيين لم يبذلوا أي جهد لإخراجه من هناك. يبقى في فيتنام. بعد أن يئس من العودة إلى أرضه الأولى، يتزوج بفيتنامية سو لونغ. وعندما تمكن من العودة إلى أرضه الأولى برفقة زوجته وابنه أحمد، ركض نحو ذاكرته بكل أمكنتها قبل أن يصطدم بالياقوت التي ذكرته بخيانته لها، وهي في حالة جنون كلي، لم يبق لها من وسيلة للتعريف بنفسها إلا ذاكرتها الشعرية.
اختار الروائي عبد الله كروم، وسيطاً سردياً استرجاعياً سبق أن مارسه الكثير من الروائيين العرب، بالخصوص الطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال» الذي تقاطعت معه الرواية كثيراً من حيث الخيارات السردية. يضعنا منذ البداية أمام نهاية القصة بحيث يخف فضول معرفة النهايات بالمعنى التقليدي لأن الكاتب وضعها تحت أعيننا من لحظة القص الأولى، وتصبح عملية البناء هي رهان الكاتب للإقناع. وقد أفلح عبد الله كروم في ذلك كثيراً. استطاع أن يجعل من روايته رحلة قاسية وعظيمة في الحياة مكنت السّباعي من اكتشاف، ليس العالم خارج توات فحسب، ولكن النفس وقوتها الداخلية. علاقته بنادين كانت أكثر من علاقة جنسية وتلبية رغبات متوحشة وانتقامية ضد جونسن، ولكنها كانت أيضاً اكتشافاً لعالم آخر ظل مجرد يوتوبيا بعيدة المنال. هناك تعلم الفرنسية التي كانت عتبته الأولى في حياة أخرى سينشأ جزء منها خارج مدارات توات ورڨان. في فتنام يكتشف جزءاً روحياً لم يكن يعرفه في نفسه. فيعيش حباً ثالثاً ليتخطى عتبات المنفى الفيتنامي، قبل أن يعود إلى نقطة البدء، مصب ساقية هنّو. مما يجعل رحلته تتحول إلى رحلة البحث عن المعنى الضّائع. لقد ذهب الروائي نحو زاوية قليلاً ما تناولها الأدب الجزائري، وهي اشتراك جزائريين كثر في حرب فيتنام. الكثير من العائلات موجودة اليوم في الجزائر من زواج مختلط جزائري-فيتنامي، وكانت زيجات مليئة بالأصداء التي لا يعرفها إلا من عاشها. من هنا، فهي أكثر من كونها رحلة فردية، ولكنها رحلة جيل. الجميل في الرواية هو أننا نصدق كل الأحداث التي تدور أمامنا وكأننا أمام شاشة سينمائية كبيرة تتوالى فيها الأحداث والوقائع كما لو أنها حقائق موضوعية. بهذا الجهد الإبداعي، ارتقت الرواية نحو مراتب عليا سمحت للنص أن يقول تاريخاً واسعاً يتخطى حدود الثورة الوطنية 54-62. الذي حكته الرواية من خلال ساردها السّباعي هو أيضاً تاريخ وطني سبق الثورة، وساح فيه دم جزائري في المنافي والأراضي القاسية في حروب خاضها مجبراً. لقد جعل الكاتب من شخصيته وسيلته لكشف جزء مهم من تاريخنا المنسي. نكتشف صحراء تقع خارج المدارات السياحية، صحراء الخوف والموت والتاريخ المظلم، صحراء اللامعنى الظالم حيث كل شيء يكبر إلا الإنسان الذي يحتاج إلى إعادة تركيب حياته مثل البوزل Puzzle ليتمكن من العيش.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com