مجتمع

كان صاحب تأثير واسع على الشعر العربي: ت. س. إليوت مالئ دنيا الشعر.

بيدر ميديا.."

كان صاحب تأثير واسع على الشعر العربي: ت. س. إليوت مالئ دنيا الشعر

 عبد الواحد لؤلؤة

 

هو الشاعر الأمريكي المولد البريطاني التجنّس توماس ستيرنز إليوت (1888-1965) الذي بدأت دنيا الشعر بالاهتمام به دراسةً وترجمةً منذ بدايات القرن العشرين. والذي جذب اهتمام المتأدّبين والمعنيين بالشعر هو هذا التوكيد الشديد من الشاعر على الثقافة بمعناها الواسع، والعودة إلى منابع الثقافة بجميع اللغات، بدءاً من السنسكريتية ومروراً بالثقافة الكلاسية من إغريقية ورومية وعبوراً على الثقافة القروسطية إلى العصور الحديثة. وكان بمقدور إليوت أن يطلب ذلك، فهو الذي تخرج في جامعة هارفرد العريقة، وتلمذ َعلى كبار أساتذة عصره، وكان يتقن عدداً من اللغات الأوروبية ويقرأ بها، ثم راح يطلب مزيداً من المعرفة والثقافة في جامعات باريس وأكسفورد وماربورك الألمانية. وكان يحسب أن الثقافة الواسعة ضرورية للشاعر الذي عليه «أن يحمل في نخاع العظم منه أفضل ما قاله الشعراء من هوميروس إلى شعراء عصره». كان هذا التصريح وأمثاله مما صدَم معاصريه من الشعراء والمثقفين عموماً، لأنه أعلن أن «ليس من شاعر أو فنان في أي مجال يستطيع بمفرده إيصال معناه كاملا، فمغزاه وتقديره هو تقدير علاقته مع الموتى من الشعراء والفنانين».
على امتداد نصف قرن، من 1915-1965 يوم رَحَل في الرابع من كانون الثاني/يناير، نشر إليوت 20 كتاباً بين مجموعة شعرية وكتب في النقد، ومثل هذا العدد من مجاميع شعرية وكتب نقدية لآخرين من معاصريه، قدّم لها أو علّق على ما فيها من قصائد أو دراسات نقدية. وربما كان من أهم كتبه النقدية المُبكِّرة بالنسبة للمتأدِّب العربي كتاب «الغابة المقدسة»(1920) الذي يحوي دراسات عن دانته والشعر الماورا طبيعي، والتراث والموهبة الفردية. لكن أبرز مؤثرات إليوت في شعراء الحداثة العرب هو أسلوب «الصُوَرية» وليس «التصويرية» كما شاع خطأً، وهو تقديم صورة عن فكرة أو شخصية بدل التعبير عن تلك الفكرة بالأسلوب التقريري، الذي يحتمل الصدق والكذب، كما يقول البلاغيون، فتكون الصورة بذلك «معادلاً» للموضوع، مما صار يدعى «المعادل الموضوعي» أو «الترابط الموضوعي» بالترجمة الحرفية، أي الترابط بين الصورة والفكرة. وقد أبدع في ذلك الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب، وبخاصة في قصائد الخمسينات من القرن الماضي، مثل قصيدة «المومس العمياء» وغيرها:

«الليل يُطبق مرّةً أخرى فتشرَبُه المدينة
والعابرون إلى القرارَةِ مثل أغنيةٍ حزينة
وتفتّحت كأزاهر الدِفلى مصابيحُ الطريق
كعيون ميدوزا تُحَجِّرٌ كُلّ قلبٍ بالضَغينة».

نشر إليوت أولى قصائده بعنوان «أغنية حب ج. الفريد بروفروك» في عدد نيسان- أيلول 1915 من مجلة «شعر» الأمريكية التي كانت تصدرها الشاعرة الأمريكية هارييت مونرو. والاسم في صيغة العنوان يوحي بأنه لشخص مُهم، لكن عند نهاية القراءة ندرك السخرية الكامنة في صيغة التعظيم لشخص يكاد أن يكون نَكِرةً غير مقصودة، لكنه يبحث عن الحب!
كان الذي بدأ هذا الأسلوب بتقديم الصوَر في كتابة الشعر هو الشاعر الأمريكي المولد، الأوروبي التسكّع إزرا باوند… لكن الأسلوب يعود في جذوره الأولى إلى شعراء الرمزية الفرنسية في أواخر القرن التاسع عشر، مثل لا فورغ وكوربيير، إذ تقوم بلوَرة الصورة أو الصوَر إلى التعبير عن الفكرة أو الأفكار. وقد سبق «قصيدة حب» عام 1900 أربع قصائد قصار بعنوان «مُقدمات» أشبه ما تكون بمقدمات موسيقية للّحن الرئيس الذي يتطور حتى يبلغ قصيدة «الأرض اليباب».
في المقدمة الأولى نجد صوراً عن «الخُواء» في حياة الإنسان المعاصر، وفي الثانية صوراً عن «الوحشة» وفي الثالثة صوراً عن «البَرَم» وفي الرابعة صوراً عن «التشوّف». وتجتمع هذه الصور الأربع لتظهر في صورة الإنسان المعاصر بروفروك، الذي يشبه «مريضا مخدّرا على منضدة عمليّات» لا هو بالحي ولا هو بالميت. ويستمر التطوير إلى أن نصل إلى صورة الإنسان المعاصر في قصيدة «الأرض اليباب» الذي فقد التواصل مع التراث والثقافة وفقد الإيمان أو كاد، فلما بدأ باسترجاعهما بدأ المطر بالهطول ليحرِّك الحياة والإيناع ويحل في الأرض السلام.
وقد كتب إليوت كل ذلك بأسلوب الشعر الحر وهو الكلام الجميل الذي «يفيد معنى» وهو أهم مطالب النقد التراثي وتأتي أهميته قبل الوزن والقافية. وفي قصائد إليوت بأسلوب الشعر الحر منذ «مقدمات» إلى آخر ما كتب نجد الشعر الحر يتشكل في أسطر تتفاوت في طولها حسب اقتضاء الصورة والفكرة. وقد نجد في بعض هذه الأسطر إيقاعا يشبه إيقاع التفعيلات في الشعر، وقد نجد في بعضها قافية، ولكن ذلك كله يأتي بشكل غير متقصّد، لأن اهتمام الشاعر هو تقديم الفكرة أو الصورة. هذه هي الفكرة التي أقامت عليها نازك الملائكة قصيدة «الكوليرا»: تقديم الصورة أو الفكرة بشطر من الشعر، يطول أو يقصر، ولكنه يلتزم إيقاع التفعيلة ولا يتخلى عن القافية التي تأتي على غير نظام الشطرين التراثي، وبذلك يكون «شعر التفعيلة» الجديد في حدود التراث ولكن بشيء من «التحرّر» وليس «الحرية» في التخلّص من الوزن والقافية. وهنا أطلقت الشاعرة الاسم الخطأ للسبب الصحيح. هذه ترجمه للمقطع الأول من مقاطع قصيدة «مُقدمات» أولى أمثله إليوت من الشعر الحر:
« يُخيِّم المساء الشتائي
مع روائح الشواء في المَمرّات
الساعة السادسة، أعقابٌ محترقةٌ لنهاراتٍ مُدخَّنة
وهذه زخّةٌ عارمةٌ تُغلِّف
البقايا المتَّسخة
من أوراقٍ ذاويةٍ حول قدميك
وجرائدَ من ساحات ٍخاويةٍ
الزخّات تصطفق
على ستائر مكسّرةٍ وأغطية مداخِن
وفي زاوية الشارع
حصانُ عربةٍ مُستوحِد ينفثُ البخارَ ويدقّ بحوافِره
ثم تُضاء المصابيح».
هذه هي صورة حياة شبه عقيم: نهار لندني يملأه الضباب والدخان ومساء يلتجئ الناس فيه إلى بيوت مزدحمة في عمارات كئيبة، نوافذها بأغطية الخشب قد كسّرتها الرياح كما كسّرت أغطية المداخن العالية، التي بقيت ترتعش مع ارتعاشة الريح، موسيقى تصاحب عشاء الشواء، والعشاء هو «المتعة» الوحيدة في حياة الإنسان المعاصر، يا لها من لا حياة!
هذه الصوَر تقول الكثير مما يقصِّر عن وصفه الأسلوب التقريري.
وهذا مثال من الشعر الحر المعاصر بالعربية، للمرحوم أستاذي جبرا ابراهيم جبرا بعنوان «لعنة بروميثيوس» وقد كتبها عام 1960 عن ثوره الجزائر قبل انتصار تلك الثورة بسنتين: «ما عدتُ أقوى يا سيدي/ على النهش من هذه الكبد/ ستُّ سنين شيّبتني/ أم أنها اللعنةُ التي ردّدها الجبل؟/ رفرف الصقر كسيراً بين يدي جنراله».
وثمة أمثلة من الشعر الحر لأدباء من أقطار عربية شتى مثل: توفيق صايغ الفلسطيني اللبناني الذي كان يكتب في خمسينات القرن الماضي وله «ثلاثون قصيدة» (1954) و«القصيدة ك» (1960) و«معلّقة توفيق صايغ» (1963). وقد لقي الشعر الحر لتوفيق صايغ اهتمام وإعجاب كبار الشعراء والكتّاب في بيروت الستينات، مثل سعيد عقل وميخائيل نعَيمه ومارون عبود. وفي شهادات أمثال هؤلاء الكبار دليلٌ على أن أمثلة الشعر الحر من أدباء تقوم على أرضية من الثقافة الرصينة، وهي ليست من إنتاج من يقصّر عن إدراك موسيقى الأوزان والقوافي في الشعر العربي التراثي. هذا مثال من «القصيدة ك» وهو الحرف الأول من اسم المحبوبة، والقصيدة هنا أشبه بابتهال وترنيمة كنسية: «أكلّما مَسمَر الوحلُ قدميَّ / وشلّني إلاّ يدين رفعتهما إليكَ/ تسمّرتَ وشَللتَ يديكَ/ وطالَبتني بالانبثاق بالارتقاء إليك/… عطفتَ َلكنما اكتفيتَ/ بتَدلية حبلٍ إليّ».
ويجب ان لا ننسى إبداعات السوري محمد الماغوط والمغربي محمد بنّيس وفي أعمال الاثنين من الشعر الحر ما يمتد ويتطور ويتخذ شكل «قصيده النثر» كما عرّفها شعراء الرمزية الفرنسيون في أواخر القرن التاسع عشر.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com