قصة

ليست عذراء.

بيدر ميديا.."

ليست عذراء

نوال السعداوي
———————————–
أقفل الحاج بدوى دكانه بالقفل ، ونفض يده من التراب ثم أدخلها في جيبه وأخرج قرن قرنفل وضعه تحت ضرسه الذي يؤلمه من ثلاثة أيام، ولم يخرج ورقة النشوق كعادته ليشم ويعطس ، فقد كان مهموما حزيناً.. نفسه مصدوده عن النشوق وعن كل شئ..
حتى أنه حينما مر فى طريقه على قهوة بيومى ، التي يجلس عليها كل ليلة مع الحاج محمد ليشرب الجوزة ويدردش، ويراقب الست حمدية وهي تجلس وراء الشيش الموارب.. وعلى رأسها المنديل الحرير الأحمر الذي يلتهم حاجبها الأيمن ، ويترك حاجبها الأيسر متدلياً على عينيها العسلية المنكسرة.
لم يستطع الحاج بدوى أن يعرج على القهوة ، ولا حتى أن يلتفت إليها ، بل لا يريد أن يراه أحد.. ولا أن يرى هو أحداً. يكفيه ما سمعه من الناس ، الذين ليس لهم عمل منذ ثلاثة أيام إلا الحديث عن الحاج بدوى .. وشرف الحاج بدوى.. وسيرته على كل لسان منذ ليلة الفضيحة.. ولولا تجارته وحاجته الى القروش التي يكسبها من بيع البهارات والقرنفل والجنزبيل .. لولا ذلك لبقى في بيته لا يبرحه أبداً.
ووصل الحاج بدوى الى بيته وهو يلهث، لم يتعود المشي السريع هكذا، وأخرج المفتاح من جيبه وفتح الباب ، ودخل حجرة النوم.. وأخذ يخلع ملابسه في تثاقل ثم وثب على السرير.. وحينما وضع رأسه على الوسادة ، سمع شخير زوجته الخافت وهو يعلو على أنفاسها . فالتفت اليها غائبة كالموتى فى نوم عميق، وأخذ يتأمل بشرتها ذات التجاعيد وشفتيها اليابستين.. ومصمص شفتيه بازدراء، وأعطاها ظهره وهو ينفخ، وغطى رأسه باللحاف لينام .. لكن صورة سعدية بملابس العرس ظهرت أمامه وهى تجلس في وسط كوشة من البنات والأزهار وعلى رأسها تاج أبيض. والعريس ببدلته الكحلى يروح ويجي بين الناس.. والناس يبحلقون في الناس ويشربون الشربات بالأربعة أكواب.. والصوان الفخم مقام.. وصوت الميكروفون يذيع الأغانى والزغاريد وإيقاع الرقص والصاجات .. وحي السيدة زينب الذى يبيت كل ليلة بعد صلاة العشاء ، ساهر يطل من النوافذ على ذلك العرس النادر ، ويحكى قصة العريس والعروس مئات المرات.
وقلب الحاج بدوى فجأة وجهه ناحية زوجته. ولمعت عيناه الضيقتان كعينى الصقر وهو يتأمل عظام فكيها البارزةالبدينة .. إنه لا يذكر أن رأى لزوجته وجها غير هذا الوجه.. ولكم دعا فى كل ليلة بعد زفافه على أم يوسف الخاطبة .. ولعنها ولعن أجدادها وبصق عليها وعليهم.. عشر سنين مضت وهو في كل ليلة ، يصب اللعنات على رأسها كلما رأي وجه زوجته..
وكانت سعدية طفلة فى العاشرة تجرى وتلعب.. أحياناً تقفز فيرى ساقيها وفخذيها السمينتين. ولم يدر لماذا كان يطيل النظر إليها.. وحينما كان يستدرجها إلى ” البلكونة ” ويجلسها الى جواره.. ويمر بأصابعه على ساقيها يتحسس بشرتها الناعمة ، كأنه يقول لنفسه : عيب يا حاج بدوى .. ده أنت خالها. وبتربيها بعد موت أبوها .. عيب يا راجل .. ياللى حاجج بيت الله ..
لكنه كان لا يستطيع أن يقاوم هذه الرغبة المخلة ، كلما رآها وهى تقفز .. فرق كبير بين ساقيها الناعمتين ، وبين ساقى زوجته الرفيعتين اليابستين ..
وأحياناً حينما كان يفقد السيطرة على رغبته يضمها إلى صدره .. ويداعب بشاربه الكثيف وجهها الناعم النضر ، ولا يتركها إلا بعد أن تخنقها رائحة التبغ فى أنفاسه فتصرخ .. أو تعض أصبعه ..
وفى مرة .. لم يكن البيت سواها .. وكان مستلقياً على السرير يعربد بأنفاسه مع الجوزة ويراقب سعدية وهى تلعب كعادتها ، وأحس برغبة جارفة ، وشعر كأن دمه يغلى فى عروقه .. ولم يستطيع المقاومة .. وقام إليها وحملها . ووضعها على السرير. وأحس الحاج بدوى بالعرق يتصبب من جسمه ، فأزاح عن نفسه اللحاف ، وتذكر منظره وهو يلبس ثيابه ويضع عمامته على رأسه وينزل مهرولا إلى السوق .. ثم يعود إليها فيجدها كفت عن البكاء . وحينما يعيطيها الحلوى الكثيرة ، تبتسم فى سذاجة وتنسى كل شىء .. وأحس بالراحة أنها لم تفهم شيئا. لن تقول لأمها .
وجف عرق الحاج بدوى فأحس بالبرد. وسحب اللحاف ليغطى نفسه ، فتعرت زوجته وظهرت ساقاها الرفيعتان ينظر إليها بضيق . انه يكره زوجته من أول ليلة. ولقد كرهها أكثر بعد حادثة سعدية .. وأحس بالندم ..
وأصبح يفر من البيت الى القهوة ، ليشرب الجوزة ويدردش مع الحاج محمد ، في الوقت الذى يبحلق فيه الى ” سيقان ” النسوة وهن يجتزن الشارع أمامه.
وانتشلته من ضياعه الست حمدية، تلك الأرملة السمينة التي تسكن في مواجهة القهوة، وكان يراها وهو يجلس على القهوة تنظر بعين واحدة من فتحة الشباك ويرى يديها البيضاوين السمينتين وهي تمسك بضلفة الشيش. وساعدته الست حمدية فى التعرف عليها.. وفي زيارتها … وفي كل شئ… واستعاض بها عن زوجته ” الكركوبة ” ونسى بها سعدية..
لم يعد يثيره منظر ساقيها وفخذيها وهى تقفز .. حتى بعد ما كبرت واستدارت وبرز صدرها بشدة ، لم يشعر نحوها بأى شئ ، لولا تلك الحادثة المؤلمة التي وقعت منه .. والتى كانت تطفو على ذاكرته كلما فكر في زواجها.. ولقد اختار لها حسين أفندى عريساً ، لأنه رجل طيب.. كان المرحوم أبوه رجلاً غبياً ولا يمكن لحسين أفندى أن يرث الذكاء عن أمه.. لأنه فشل في تجارة الطعمية بعد أبيه .. ونظره ضعيف.. ولم يصلح إلا في وظيفته الحقيرة ، التي توسط له فيها أحد أقاربه ..
وانتفض الحاج بدوى فى فراشه ، وعاد الى ذاكرته صوت حسين أفندى ذلك الرجل الغبى الطيب كما كان يظن، وهو ” يجعر” بأعلى صوته ، ويسب الشرف ويبصق على العرض.. ويصر على أن يطلق ” بالثلاثة ” قبل ظهور ، الشمس وأن يسترد مهره وكل هداياه. وأن يتنازلوا عن المؤخر وعن النفقة ، وأن ينهوا الموضوع في السِر ، والا جعلهم فضيحة الحى ..
وأحس الحاج بدوى بنار تتقد في بدنه ، فقذف اللحاف عن جسده ورماه على جثة زوجته وقام يتمشى في الحجرة.
لقد أصبحت رقبته في” قصر” السمسمة. وهو لا يستطيع أن يرفع رأسه في الحى.. ولا أن يجلس على القهوة ، ولا حتى أن يرى الست حمدية . إنه الآن فى نظر الناس كلهم ، رجل بلا شرف حتى يغسل شرفه، والرجل عندهم لا يغسل شرفه الا بالدم…
وصعد الدم الى وجهه ، إن سعدية تنام الآن في حجرتها ، ولا يفصله عنها سوى باب غير مقفول ..
وتصور نفسه مرة أخرى الحاج بدوى الذي يمشى رافعاً رأسه، وجلس على القهوة ، مع الحاج محمد يشد أنفاسه مع الجوزة ويدردش. وكل رجل يمر عليه يقرئه السلام … والست حمدية .. أه… مرة أخرى يذهب إليها ، وتأخذه بين أحضانها الدافئة.. ثلاثة أيام مضت وهو محروم من كل هذا ..
ووضع الكوفية على رقبته ، وأدخل ” المطوة ” في جيبه، ثم مشى على أطراف أصابعه ودفع باب سعدية ببطء.
وفي الظلام الدامس أخذ يتحسس بيديه حتى وصل سريرها.. كان كل جسمه يرتعد وأنفاسه تتلاحق بسرعة ، وكاد يفر من الحجرة بسرعة لولا أنه تخيل سرير الست حمدية وهى راقدة عليه تفتح ذراعيها لأحضانه، وألهبه الحماس فأخرج ” المطوة ” من جيبه ، ومد يده على السرير يتحسس رقبة سعدية . ولكن يده لم تصل الى شئ. فاستعان بيده الأخرى.. ولم يعثر فى الظلام عليها.. ففتح النور ونظر على السرير ليجده خالياً. ونظر تحت السرير. وفى الدولاب ووراء الشماعة.. لكن سعدية لم تكن هناك.
وعاد الى حجرته والعرق يتساقط من كل جسمه، وزحف على السرير بجوار زوجته.. لقد هربت سعدية قبل أن يقتلها.. قبل أن يثبت للحى أنه رجل يغسل شرفه بالدم.. كان يحب أن يقتلها أول ليلة.. سيقولون أنه جبان ، لن يستمتع باحضان الست حمدية الساخنة.. وجحظت عيناه في غيظ وحيرة.. وكانت ” المطوة ” لا تزال في يده ورأى زوجته راقدة ، كأنها ميتة..
ولم يدر لماذا أخذ يبحلق فى رقبتها الرفيعة المعروقة ، وهي تصعد وتهبط مع شخيرها.. واهتزت ” المطوة ” في يده وخيل اليه أنه رفع يده بها وأسقطها على رقبتها .. وانفجرت دماؤها في وجهه.. واختلطت بعرقه . لكنه كان لا يفعل شيئا .. وترك ” المطوة ” فى يده وأعطاها ظهره.. حينما أغمض عينيه وراح فى غيبوبته ، ظهرت له صورة سعدية .. طفلة صغيرة في العاشرة تمسك صرة ملابسها ، وتسير في الشوارع ليس لها مأوى.. وفتح عينيه.. وأحس بشئ ساخن سخونة الدم يسيل على وجهه.. وسمع صوت محشرج وهو يعلو.. ويعلو.. على صوت أنفاسه.
من المجموعة القصصية ” حنان قليل ” 1958

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com