صدر حديثا

ما الذي أضافه الأمير هاري إلى الدراما التي تعيشها بريطانيا؟

بيدر ميديا.."

ما الذي أضافه الأمير هاري إلى الدراما التي تعيشها بريطانيا؟

مثنى عبد الله

 

شهد العام الماضي تحديات شائكة للمملكة المتحدة في عدة مجالات، فقد واجهت البلاد أزمة اقتصادية ما زالت تلقي ظلالها الكئيبة على حياة الكثير من الناس، منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلى الحرب الروسية على أوكرانيا، مرورا بجائحة كورونا، إلى الحد أن الخبراء الاقتصاديين يرون أنها مدخل لحالة ركود اقتصادي تستمر حتى عام 2024. وقد وصلت نسبة التضخم العام إلى 11%، بينما بلغ التضخم في أسعار المواد الغذائية 26%، والديون تخطت 2 ترليون استرليني.
كما أن سلسلة الإضرابات تشير بوضوح إلى اتساع الفجوة بين الذين يملكون والذين لا يملكون، وأصبحت كُلف الحياة المعيشية للناس صعبة جدا، مع ارتفاع أسعار فواتير الغاز والكهرباء، ما دفع قطاعات واسعة للقيام بسلسلة إضرابات لم تشهدها المملكة سابقا. وقد دفع هذا الوضع الاقتصادي الصعب السلطات للدخول إلى الاتحاد الاوروبي من الباب الخلفي، من خلال محاولات عقد اتفاقيات تجارية والعودة إلى السوق المشتركة.

المذكرات تلقي حزمة ضوء ساطع على كل عورات المؤسسة الملكية من الداخل وتفككها، ومن يقوم بهذا الدور هو أحد أضلاع العائلة

أما على الصعيد السياسي فلم يكن حاله أفضل من الحال في الشأن الاقتصادي، فقد تساقط ثلاثة رؤساء حكومات من الحزب الحاكم نفسه. أولهم بسبب المضاعفات السياسية الناتجة عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. والثاني كان يقيم حفلات شرب في حين يدعو الناس إلى التباعد الاجتماعي بسبب الجائحة. كما كان يتغاضى عن تحرشات جنسية وسلوكيات غير لائقة في حكومته. أما الثالثة فكانت تسعى لإنقاذ الاقتصاد، لكن خطتها ضربت الاقتصاد بالصميم، فاضطرت للاستقالة بعد 45 يوما في السلطة. ولم تشهد الحياة السياسية البريطانية فترة غليان وتخبط سياسي كالذي شهدته في العام الماضي، إلا في فترة السبعينيات من القرن المنصرم في عهد رئيس الوزراء الأسبق جيمس كالاهان، وكذلك في فترة الثمانينيات في عهد رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر. ويبدو أن مرد الوضع السياسي الرث في المملكة المتحدة، يعود إلى التراجع الحاد في مفهوم رجل الدولة، الذي كانت تشتهر به بريطانيا في تاريخها. حتى النقاشات التي تدور في البرلمان البريطاني لم تعد بتلك الجدية، وكأنها لا تخص حاضر ومستقبل البلاد. لذلك وجد البريطانيون أنفسهم أمام رؤساء حكومات يفتقرون إلى النموذج الجاذب، وإلى القدرة على وضع رؤى تنهض بالاقتصاد الوطني وبالمجتمع أيضا. وهذا يتعلق بشكل رئيسي برؤية الساسة اليوم إلى السياسة على أنها مجرد مهنة، وطموحهم الوحيد هو الترقي في هذا الحقل، من خلال مراعاة الاعتبارات التي تساعد على الترقي، وزادت أهمية الاعتبارات الشخصية من ناحية، والاعتبارات الأيديولوجية للقوى السياسية. أما المتغير الآخر الذي حصل في المملكة المتحدة فهو نهاية حقبة الملكة اليزابيث الثانية، التي رحلت بعد جلوس على العرش امتد لنحو 70 عاما. واللافت للنظر أن استمرارية النظام الملكي في بريطانيا بعد رحيل الملكة، بات ليس سهلا في ضوء ما يثيره الأمير هاري، خاصة بعد صدور مذكراته الأسبوع الماضي، وقبلها ظهوره في برنامج وثائقي على شبكة نتفليكس وبرامج أخرى. وكان القاسم المشترك الأعظم بين هذه اللقاءات والمذكرات هو الحديث عن التظلم الذي عاناه وزوجته من العائلة المالكة. كما حفلت هذه المذكرات بتهم كبيرة مسّت سمعة والده الملك وقرينته، كما تناولت أخاه الأمير وليم ولي العهد وزوجته أيضا، وقد بين بعض المؤرخين المختصين بالمؤسسة الملكية البريطانية، إلى أن هاري أدخل العائلة المالكة البريطانية بأزمة، هي الأكبر والأثقل منذ مقتل والدته الأميرة ديانا في أواخر التسعينيات من القرن المنصرم، حيث كان هنالك عمل دؤوب من قبل مختصين في المؤسسة الملكية، على إظهار أن هذه العائلة متجانسة ومتماسكة ومتفانية في خدمة الأمة، وأن جميع أفرادها يترفعون عن الخلافات الشخصية، كي تبقى الملكية نموذجا يُحتذى به، وأسطورة تعزز ديمومة العائلة المالكة. لكن يتبين اليوم أن كل ذلك كان مجرد أسطورة وخرافة، عاش عليها البريطانيون عقودا طويلة من الزمن، فقد واصل هاري نشر الغسيل القذر للجميع، وذهب بعيدا في التوصيف إلى حد المساس بالأمور الشخصية جدا، التي لا تهم المواطن البريطاني، ولا الذي يعيش على أراضيها أو خارجها. كما لم يُبق على أية خطوط حمر، ومنتهكا خصوصية الجميع حتى والده الذي قال إنه يحبه، في حين أنه انتهك الهشاشة النفسية لوالده الملك تشارلز. فقد أشار إلى أن الملك لديه دُمية صغيرة على شكل دُب، لا يذهب إلى أي مكان دون أن تكون هذه اللعبة معه، في حين أنها أصبحت متسخة ومتهرئة ومليئة بالبقع. فبماذا تهم المواطن البريطاني وغير البريطاني هذه التفاصيل الشخصية جدا؟ إن خطورة مذكرات وأحاديث الأمير البريطاني تكمن في أنها تتزامن مع الفراغ المؤسساتي الذي تعانيه بريطانيا حاليا، خاصة بعد رحيل الملكة التي كان ينظر على أن لا غبار على مشروعيتها، وأنها كانت تقف فوق كل الخلافات، فتدفع الآخرين من العائلة المالكة لاتخاذ مسارها نفسه. أما اليوم فالملك تشارلز الثالث شخصية خلافية في المجتمع، ويفتقر إلى الثقة الشعبية، وبالتالي فإن هذه المذكرات قد تُجهض تماما المشروعية الشعبية للملك الجديد، كما أن هذه المذكرات تلقي حزمة ضوء ساطع على كل عورات المؤسسة الملكية من الداخل وتفككها، ومن يقوم بهذا الدور هو أحد أضلاع العائلة. وقد لمس الجميع في بريطانيا خطورة هذا الحديث المباح، فاجتاحت الصحف البريطانية عموما، بشتى توجهاتها السياسية نظرة سلبية للأمير، واستهجانا تاما لما ورد على لسانه. كما تصدت الشرائح المؤيدة للملكية إلى الاتهامات، منطلقين من إيمانهم بالهيكل السحري والخرافي الذي تمثله هذه المؤسسة في حياتهم. لكن السؤال الأبرز هو ما الذي أكده الأمير البريطاني لنا نحن العرب؟
ببساطة تامة وبكل وضوح، لقد تأكد للعراقيين والأفغان ما كانوا قد لمسوه من نظرة دونية لهم، من قبل القوات البريطانية التي احتلت البلدين في بداية الألفية الثالثة. فها هو الأمير البريطاني الذي شارك في القتال في أفغانستان، يقول بصراحة تامة إنه قتل 25 أفغانيا، عندما شارك في القتال ضمن قوات بلاده. ويضيف أنه تدرب في المؤسسة العسكرية البريطانية، على عدم النظر إلى المقاتلين الأفغان على أنهم بشر، بل هم ليسوا من هذا الصنف، ولا يمثلون جزءا من المجتمع البشري، لذلك تعامل معهم على أنهم قطع من أحجار الشطرنج ضمن اللعبة الدولية ويجب إزاحتهم بالقتل، على حد قوله. وهذا يُشير إلى النمط الهيكلي داخل المؤسسة العسكرية للدول الاستعمارية. إن أحد المعنيين بتدوين تاريخ العائلة الملكية البريطانية يقول، إن هذه الأزمة يمكن أن تشكل بداية نهاية العائلة المالكة في بريطانيا، وإذا ما وضعنا هذا القول إلى جانب آخرين قالوا بعد وفاة الملكة، إن المملكة المتحدة ذاهبة إلى التفكك، يصبح المستقبل المجهول هو النفق الذي دخلت فيه بريطانيا.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com