ثقافة

كيف تفشل في كتابة رواية . .

مثل كثيرين ، نشرت برضا كبير عن نفسي، مجموعة قصصية أولى، اكتشفت بعدها بأقل من شهر، حجم الكوارث التي يمكن أن يقدمها للقارئ كاتب يصدر عملاً أول , وهكذا، مأخوذاً بالذنب وفي محاولة لتفادي كل الأخطاء، أتبعت المجموعة الأولى بثانية، فكانت النتائج أقل كارثية.

بعدها، شطبتُ من سيرتي للأبد، أي أعمال قصصية، وتوجهت لكتابة رواية، كما فعل كثيرون في تقليد عريق يبدأ فيه الكاتب متدرباً على كتابة القصة القصيرة، ثم ينتقل إلى كتابة الرواية.

بحثت لخمس سنوات في آلية الكتابة الروائية في سير الروائيين، ونصائح بعضهم التي تضمنتها كتب مثل «فنّ الرواية»1 و«كيف تكتب الرواية»، لكن دون أن أستطيع كتابة ولو فصل واحد من رواية.

هذه لائحة بأهم النصائح التي آمنت بها يوماً ، والتي يمكن في نهاية المطاف، أن تقود إلى التخلّي عن الكتابة الروائية أو ربما، إن حالفنا الحظ التخلّي عن الكتابة كلّها.

فبعد مسيرة طويلة في البحث، وجدت أنني كنت أبحث في المكان الخطأ؛ إذ كان الروائيون هم أكثر من يسأل عمّا كنت أسأل عنه، أنا المتدرّب في كتابة الرواية , ففي حين كنّا نسأل الروائيين كيف تكتبون رواية ؟ كانوا هم يتساءلون عن الأمر نفسه . . و بتعبير ماركيز، فقد تأكد له بعد سنوات طويلة أن «أكثر من يسألون أنفسهم : كيف تُكتب الرواية، هم الروائيون بالذات».

من أين نبدأ ؟

أكثر دوافع من كتبوا رواية، هي تلك المرتبطة بشعارات رنَّانة، مثل : التعبير عن معاناة البؤساء، وتحسين العالم، والتمرّد الفرديّ , وبخصوص الدافع الأخير يتساءل الروائي البيروفي ماريو باراغاس يوسا : «ما هو منشأ هذا الاستعداد المبكّر لاختلاق كائنات وحكايات ؟»، ويُجيب : «أظن أن الجواب هو التمرد , فأنا مقتنع بأنَّ من يستسلم لنسج حيوات من الخيال مختلفة عن تلك التي يعيشها في الواقع يُعلن بهذه الطريقة، غير المباشرة عن رفضه وانتقاده للحياة».

بعيداً عن أصوات الروائيين المُخلّصين، ثمة ضفّة ثانية، تتعلّق بدوافع أقلّ أهميّة، واحدة منها لروائيّ كتب أولى رواياته في عمر57 سنة (يُمكن اعتبار هذا العمر عزاء لكل الآباء الذين يتوقون يوماً لكتابة رواية)، نقصد هنا الإيطالي أمبرتو إيكو , في عام 1978 طلبت فتاة لطيفة، تعمل في دار نشر مغمورة في إيطاليا، من السيميائي “أمبرتو إيكو” ، ضمن مجموعة من غير الروائيين، كان من بين من ضمّتهم فلاسفة وعلماء اجتماع، أن يكتبوا قصة بوليسيّة قصيرة.

اعتذر إيكّو ، وكانت إجابته: «لا أهتمّ بالكتابة الإبداعيّة، وإنّني عاجز عن كتابة حوار جيّد» , لن يطول حكم إيكو على الكتابة الإبداعيّة طويلًا، فبعد أيام قليلة، سيفتح دُرج مكتبه حيث الأبحاث في السيميائيّات، وأخرى عن القرون الوسطى، التي غرق فيها لسنوات طويلة، وسيُفكّر بأنَّه «سيكون مُسليّاً تسميم راهب وهو يقرأ كتاباً غريباً».

بعدها بأشهر قليلة، وبدافع من الرغبة في التسلية ظهرت إحدى أكثر روايات النصف الثاني من القرن العشرين سحراً : «اسم الوردة»، ستتوالى بعدها كتابة الروايات عند إيكو لدوافع عديدة؛ فيلهمه مثلاً سؤال صحفي فرنسيّ عن دقّة وصف الروائيين للفضاءات أفكاراً لكتابة رواية جزيرة اليوم السابق , وستوحي له صورة بندول ليون فوكو في باريس قبل 30 سنة، وذكرياته عن لعبة تروبيت في مراسم دفن مقاوم كتابة رواية بندول فوكو , كما ستعمل الرغبة بالتزييف والولع به دافعاً لكتابة رواية باودولينو.

دعونا نعقّد الأمور أكثر لهؤلاء الأشخاص الذين يفضلّون مفاهيم مثل «الكينونة» و «ثيمات وجودية» و «تاريخ الفن» و «الروح الحديثة» على التسلية والتمرّد، ويرغبون كذلك في كتابة رواية.

يرى الروائي التشيكي ميلان كونديرا، في مجمل ما أنتجه، أنَّ الرواية رافقت الإنسان منذ العصر الحديث في أوروبا؛ هذا العصر الذي طُبع برغبة «المعرفة»، التي عدّها هوسرل جوهر الروحانيّة الأوروبيّة , حمت رغبة المعرفة هذه الإنسان الأوروبيّ من (نسيان الكينونة) , لذا و بالتشارك مع نظرة هيرمان بروخ، فإنَّ السبب الوحيد لوجود الرواية، برأي كونديرا، في كتابه فن الرواية، هو اكتشاف ما تستطيع الرواية وحدها اكتشافه , بعبارة أخرى فإنَّ أيّ رواية «لا تكتشف عنصراً مجهولاً في الوجود هي رواية لا أخلاقيّة؛ فالمعرفة هي السمة الأخلاقيّة الوحيدة في الرواية» والتي تعمل على الدوام ضدّ (نسيان الكينونة) , من هنا فإنَّ أيّ رواية لا تقدّم المعرفة، يُمكن عدّها، أيّ شيء؛ ثرثرات، اعترافات، أو بيانات سياسيّة، لكن ليس رواية.

لشرح هذه الفكرة، سنروي هذه القصّة.

في ربيع عام 1974 دُعي أحد الأساتذة لتدريس مادة عن الوجوديّة في جامعة روتجرز بكامدن في نيوجرسي. جرى تغيير المنهج إلى الكتابة الإبداعيّة بدلاً من الوجوديّة في اللحظات الأخيرة , ولم يُعارض الأستاذ . . انتظم في الفصل عشرة طلاب أبدوا استعداداً وقابليّة للإخلاص لهذا المساق , وبعد المضي قُدماً في الفصل وصف الأستاذ هؤلاء الطلبة : «كانوا جميعاً ممتازين من الناحية الفنيّة ، بلّ إنّهم لدى المقارنة كانوا أفضل من أيّ مجموعة من الكتّاب الإنجليز الشباب , وكانت كتاباتهم ذات مستوى يُعادل مستوى الكتّاب المحترفين , وتعلّموا كيف يُمكن الكتابة مثل : جيمس جويس و إرنست همنغواي و وليم فوكنر وفرجينا وولف».

في نهاية الفصل الدراسيّ، طلب الأستاذ من هؤلاء الطلبة «الكتابة عن شيء يعرفونه» ولهذا كتبوا بالطبع عن أنفسهم . . وكانت النتائج أفضل ما يكون؛ فقد كتبوا بشكل جيّد، لكن كانت لديهم مشكلة واحدة، لم يستطع هذا الأستاذ التعبير عنها إلّا باستحضار جواب وليم فوكنر حين سئل عن رأيه في جيل نورمان ميلر حين قال : « إنَّهم يكتبون كتابة جيّدة، غير أنَّه ليس لديهم ما يقولونه» , لقد كان الأستاذ هو كولن ويلسن وبعد كل تلك السنين على ذلك المساق فإننا لا نعرف ما إذا كان من بين هؤلاء الطلبة العشرة اسم روائيّ واحد.

كيف نبدأ ؟

مرّت كتابة الرواية الأوروبيّة بعدّة مراحل، يرصد كونديرا بعضها: مرحلة الارتجال، التي يضع ضمنها: رابليه، سرفانتس، ديدرو وشتيرن. ثم مرحلة التحوّل إلى فنّ التأليف المعقّد و الصارم، الذي صار ضرورة إلزاميّة في النصف الأول من القرن التاسع عشر , ويصف شكل الرواية في هذه المرحلة وفق التالي : حدث مركّز على فترة زمنية قصيرة، وفي بؤرة تتقاطع فيها سير عديدة لشخصيات عديدة.

كانت هذه المرحلة تتطلّب مخططًا محسوباً بدقة للأحداث والمشاهد , وصار الروائي قبل أن يبدأ الكتابة «يضع مخطط الرواية ويُعيد وضعه، يحسبه ويعيد حسابه، يرسمه ويعيد رسمه، كما لم يحدث ذلك من قبل قطّ» , وهنا للمفارقة يستعين كونديرا، لشرح الطريقة السابقة، بمثال غير أوروبي، هو الروسي فيودور دوستوفسكي، في روايته «الشياطين».

في الدفاتر السبعة لملاحظات كونديرا على الرواية، والتي تشغل في إحدى الطبعات 400 صفحة، في حين تقع الرواية نفسها في 750 صفحة، يطلق كونديرا حكمه : لا يمكن لروائي هذا القرن، الذي يحنّ إلى فنّ معلمي الرواية القدماء، أن يستأنف السياق من حيث انقطع , لا يمكنه أن يقفز عن تجربة القرن التاسع عشر الضخمة، أي عن التخطيطات والرسوم اللانهائية.

خارج أوروبا، بالقرب من العاصمة المكسيك، كانت أجواء بيت غابرييل غارسيا ماركيز أثناء كتابة مئة عام من العزلة، بحسب ما رصدها كاتب سيرته الأكاديميّ الكولومبيّ، داسو سالديبار، على النحو التالي: «أثناء الدردشة مع الأصدقاء، كان القصّاص يُطلق بعض الأسئلة المتعلقة بالموضوعات التي لا حصر لها مما يدور في رواية مائة عام من العزلة من أحداث، بدءاً من الجنس بين الجمبري أو برغوث البحر، وعادات بعض الحشرات، إلى الوسائل المتعددة لقتل الصراصير في العصر الوسيط، وعادات بعض الشخصيات التاريخيّة , لقد رأوا أسبوعاً تلو الآخر، نصوصاً لا حصر لها في الكيمياء، وروايات البحارة، ووصفات إعداد الوجبات الغذائية، وكتباً في الطبّ المنزلي، وأخباراً عن الأوبئة في العصور الوسطى، وكتباً في السموم وأدويتها، وأنباء عن بلاد الهنود الحمر , كلّ هذا كان يتراكم على مكتب غارسيا ماركيز».

وبالمثل، ستقود هذه الطريقة إيكو ( الذي كتب أوّل مرّة بدافع التسلية) إلى فكرة مفادها : «تعلّمت أشياء كثيرة وأنا أكتب روايتي الأولى، منها أنَّ الإلهام كلمة سيئة، عادة ما يستعملها بعض الكتاب اعتباطاً كي يلبسوا لبوس الفنانين المحترمين».

لذا، في الفترة التي كان فيها يحضّر لكتابة رواية بندول فوكو، قضى إيكو ليالي بأكملها يتجوّل في ردهات معهد الفنون والحِرف في باريس، حيث تدور بعض أحداث القصّة، إلى أن يُغلق أبوابه , ومن أجل وصف تجوال إحدى الشخصيات في الليل قضى إيكو ليالي كثيرة يتجول في المدينة بين الثانية والثالثة صباحاً، وهو يهمس في مسجَّل، مدوناً الملاحظات، كي لا يُخطئ في أسماء الأزقة والشوارع , وللتحضير لكتابة جزيرة اليوم السابق، زارَ بحار الجنوب، وقضى سنتين أو ثلاثة لدراسة الرسوم ونماذج البواخر التي كانت تستعمل في الماضي «من أجل معرفة أبعاد حجرة القبطان، وكيف يُمكن أن يتحرّك داخلها شخص ما».

النصيحة الأخيرة لكتابة رواية تتعلّق بمعرفة تاريخ الرواية , لمعرفة جزء هام من تاريخ الرواية لا بدَّ من فهم الفكاهة، وهي نصيحة مبسطّة للصيغة المعقّدة التي قدّمها، وما يزال يقدّمها، الروائي العابس كونديرا، (يُمكن ملاحظة أنه يظهر في أغلب صوره على جوجل بعقدة على الجبين ودون ابتسامة).

يستعين كونديرا بنظرة أوكتافيو باث للفكاهة، الذي يرى أنها لم تتشكل إلَّا مع سيرفانتس , وفق باث: «الفكاهة هي الابتكار العظيم للروح الحديثة» وبما أنَّ كونديرا يعتبر أنَّ الرواية هي النتاج العظيم للمجتمع الأوروبيّ الحديث، فإنَّ الفكاهة ليست ممارسة عريقة للإنسان، «إنَّها ابتكار مرتبط بولادة الرواية» لذا ووفق هذا المعنى، فمن لم يفهموا فكاهات بانورج في رباعيات فرانسوا رابليه (1483-1553) أو مغامرات الدون كيخوته وسانشو عند سيرفانتس مثلاً، «لنّ يفهموا شيئاً أبدًا في فنّ الرواية».

كيف ننتهي ؟

النصائح الباقية المتعلقة بتفاصيل كتابة رواية؛ مثل إضافة الغرابة، تكوين الشخصيات، الحبكة، الانتقال الزمنيّ وغيرها الكثير، يُمكن تعلّمها في ورشة أو مساق للكتابة الإبداعيّة من تلك المنتشرة في العالم، لكن دون ضمانة من أحد للخروج بنفس نتائج مساق عام 1974 بجامعة روتجرز.

لكن ثمة قصّة جديرة بأن تُروى بعد الانتهاء من كتابة رواية، وهي تتعلق برواية أنجزها ماركيز في شبابه، وعرض مخطوطتها على عرّابه الدون رامون , حصل اللقاء داخل مقهى , قدّم ماركيز المسودات لدون رامون، الذي عرف من اللحظة الأولى أنَّها مادة خام، لكنّها جيّدة كرواية.

أبدى رامون بعض التعليقات الهامشيّة: «يجب أن تكون واعيًا بأنّ الدراما قد حدثت، وأنَّ الشخصيات ليست موجودة» وأضاف بعض التفصيلات التقنية الدقيقة , لكن كان هناك نصيحة يقول ماركيز إنه التزم بها لبقيّة حياته, لقد قال له الدون رامون: «أشكر احترامك لي، وسأكافئك عليه بنصيحة: لا تعرض على أحد أبداً مسودة ما زلت تكتبها».

في نهاية المطاف، كما تلاحظون، فإنَّ أغلب من قرأت وأعدتُ قراءة نصائحهم في كتابة الرواية لم يكونوا روائيين عرباً، (ربّما كان ذلك أحد أسباب فشلي في كتابة ولو فصل واحد في رواية) , بينما يُمكن أيضًا إرجاع سبب هذه المعضلة لقصور ذاتيّ : لم أقرأ كتاباً لروائيّ عربيّ عن تقنيات كتابة الرواية، أو ربّما لا يوجد، في الأصل، كتابٌ على هذه الشاكلة على أيّة حال، من أجل العودة للقراءة في هذا الموضوع، وعلى طريقة ماركيز في الانتهاء من كتابة المقال، فهذا اقتراح لكل ّمن يعثر على كتاب في هذا الشأن أنّ يُزودني بعنوانه.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com