ثقافة

نِيرانٌ حاقِدةٌ بَغِيضَةٌ تَلتَهِمُ أَمالَ وَعَقلَ سَلمان.

بيدر ميديا.."

نِيرانٌ حاقِدةٌ بَغِيضَةٌ تَلتَهِمُ أَمالَ وَعَقلَ سَلمان

 

 

                                                            

يَحيَى غَازِي الأَميريّ

كانت السَّاعة تُقاربُ العاشِرةَ صباحاً، وصل الضيوف بالوقت المحدد لمكان اللقاءِ في(مَقهى الأيمان) حيث كان(سَلام) يقف أَمام واجهة المقهى بانتظارهم ، بناءاً عَلَى طلبهم، أجلسَ(سَلام) ضيوفه(الثلاثة) في أحد أركان المقهى الشَّعبي، وطلبَ لهم ما يودون تناوله من المشروبات، الحارة أو الباردة، والمعلوم أن في مثل هذا الوقتِ تقل فيها حركة رواد المَقهى، الضيوف (مجموعة من المدونين) المهتمة بتوثيق بعض من مآسٍ ومعاناة لا حصر لها لأكبر مدينة في (بغداد) والتي يرافقها منذ تأسيسها الجور والفقر والخراب، المدينة التي أطلق عليها في بداية أنشاؤها (مدينة الثورة) والتي بنيت في فترة العهد الجمهوري الأول (1958- 1963م) لإسكان آلاف العوائل العراقية النازحة من مختلف مناطق جنوب العراق للعاصمة بغداد والتي كانت تعيش في مجمعات عشوائية كبيرة جداً في(صرائف) بيوت بدائية تشيد من القصب وسعف النخيل والطين.  

عدلَ(سَلام) من جلسته عندما طلب منه أحد(المدونين) أن يلتقط لهم صورة جماعيَّة، قبل بدأ الحديث.

وَابتدأ حديثه مرحباً بضيوفه: أصدقائي الأعزاء ألف أهلاً وسهلاً بكم دعوتكم في هذا اليوم بالذات لمرور سبعة أيام فقط على  مأساة عائلة (سَلمان) صديقي وزميلي وَ جاري وَ ورفيق عمري لقرابةِ نصف قرن؛ سأقص لكم شيئاً عن أهم محطات ومعاناة هذه العائلة التي مزقتها و شردتها وأحرقتها السنون العجاف، الحروب والحصار وفوضى الانتصار.

 بُرهَةَ صمتٍ ثُمَّ  باشر (سَلام) حديثه مُجدداً: بيت عائلة صديقي (سَلمان) يبعد عن هذا المكان حوالي (50) متراً، بعد انتهاء جلستنا، سآخذكم بجولة لمشاهدة الدار التي أصبحت(حطاماً وَركاماً).

 هذه(المقهى الشعبية) التي نجلس فيها قديمة الآن عمرها أكثر من سنين عمري تعد من أشهر مقاهي الحي الذي نسكنه، كنا أنا وَ(سَلمان) نتردد عليها بأستمرار ، فنحن قد ولدنا معاً بهذا الحي.

أخرجَ (سَلام) صورة قديمة من محفظته تجمعه بصديقه (سَلمان) بحركةٍ توحي بأهمية الصورة وضع بعناية الصورة أمامهم على الطاولة، في الصورة (شابان اسمران رشيقان) بطول متوسط وملابس انيقة بشعرهما الطويل الأسود، وبابتسامة مرحة راح يحدثهم : هذه الصورة عندما كُنا في سن المراهقة، في الصورة (سَلمان يحمل بيده مجموعة من الكتب المدرسيَّة) كنا في مرحلة الدراسة الثانوية التي لم يتمكن (سَلمان) من اتمامها، لكنه تميز بمجموعة من الصفات كان ودوداً، كريماً، هادئ الطباع، قليل الكلام، متزن اللسان محباً كثيراً للمطالعة وخصوصاً للأدب مولع بقصص وروايات (نَجيب مَحفوظ).
وأستطرد بحديثه: بَعْدَ أن أنهى(سَلمان) خدمته العسكريَّة الإلزاميَّة والتي امتدتْ لما يقارب مِن عشر سنوات، مشاركاً رغم أنفه بالحروبِ المدمرةِ التي خاضها سُلطان البلاد، ليتلقفه بعدها حصار اقتصادي ثقافي اجتماعي سياسي، لا تقل وطأته وقسوته ومدته من سنوات الحروب الماضية.

عندما بلغ سن (الأربعين) من العمر كان (أباه وأمه) يلحان عليه كثيراً بضرورة الزواج، فهو أبنهما الوحيد المتبقي إذ قتل أو فقد أو وقع بالأسر، شقيقه الأكبر(قاسم) خلال سنوات الحرب المنسية  كما كانت تسميها وسائل الإعلام العالمية، في أحدى المعارك الطاحنة من عام (1987) بمنطقة (نهر جاسم). لِمْ يتم العثور  عَلَى جثته، أو عَلَى أي دليل يوثق أسره أو وفاته، حتى بعد انتهاء الحرب، لَمْ تحسمْ قضية الأسرى،ولمْ يعرفْ بشكل صحيح أعدادهم وأسماؤهم، وكذلك لم تتمكن السلطات من دخول المنطقة – التي دار بها القتال- المليئة بآلاف من جثث القتلى من الطرفين المتقاتلين، لكون المنطقة مزروعة بآلاف الألغام، رغم أن السلطات آنذاك أخبرتهم انه (شهيد) في إحدى ساحاتِ القتال، لكن بقيت العائلة تتأمل عودته، بعد أن علموا علم اليقين أن عدة (آلاف) من الجنود قد وقعوا بالأسر.

عام(2000) رتب حاله ورمم داره وتزوج، كان عمره (أربعين) عاماً، بقيَّ يعمل عامل بناء، مهنة شاقة وتتطلب منه قوة بدنية، لكنه كان صبوراً لم يفت اليأس عضده، يعيش مع أهله في بيتهم المتواضع المتكون من غرفتين ومطبخ وحمام ومرافق صحية، وباحة صغيرة فيها التنور وقن للدجاج. رغم صغر الدار وقدمها لكنه كان فخوراً (بوالديه) فقد تمكّنا من تشييد هذه الدار، في هذه المدينة العجيبة، وسط العاصمة.

يضحك(سلام) ويتوقف لحظة من الحديث، ويعدل نظارته الطبية، ثم يعاود حديثه :

نعم أنها حقاً مدينة (عجيبة) كما كان يحلو لرفيق عمري(سَلمان) أن يسميها، فالمدينة يتبدل اسمها وكثير من معالمها كلما تغير نظام للحكم في البلد، المدينة مترامية الأطراف مهملة بائسة مكتظة بالبناءِ وَالسكان، لكنها كثيرة العطاء و منبع لا ينضب للطاقات والمبدعين،يالها من مدينة!

ثم يعاود الحديث عن صديقة وعائلته:

 رزق(سلمان) بطفلين الأول بنت والأخر ولد، الولد يشبه أباه كثيراً ، عندما سمع أن الله رزقه بولد، طار من الفرح، ونقل البشرى بلهفة إلى (والده) وهو مسرور فرحان سعيد، في الحال أطلق عليه جده (أبو قاسم) أسم (فرحان) والدته وهي بمنتهى الغبطة وزعت الحلوى على الجيران.

ولادة الطفل (فرحان) زادت من متاعبه وهمومه، جاء الطفل إلى الدنيا وهو عليل، لفَ فيه الأطباء والمستشفيات، كان الجواب دائماً أملاً ضعيفاً في شفائه؛ فيما نصحه بعض الأطباء بعد كثرة مراجعات وتوسلات بأن ابنه الصغير، لا يوجد له علاج يشفيه من مرضه في الوطن؛ لكن يمكن معالجته في خارج العراق، فالبلاد تمر بحصار دولي، وعلى مضض أقتنع بذلك.
كان يردد مع نفسه وكلما التقيتُ به:
–  من أين ليَّ المال؟

– كيفَ أجمعه؟

– كمْ أحتاج من المال للسفر والعلاج؟

– من يعيل عائلتي عندما أسافر؟

 أصبح هذا الهم الجديد شغله الشاغل واخذ كل تفكيره.

عام (2003) سقط نظام الحكم، في قمة الاضطرابات و الفوضى التي تجتاح البلد و بعد السقوط المدوي بشهر واحد، توفي والده (أبو قاسم) وهو بعمر يتجاوز الـ (70) عاماً تقريباً بعد أن أعياه المرض وهم التفكير بعودة أبنه المفقود( قاسم)!


زاد صديقي (سَلمان) من عزيمته وساعات عمله، بعد أن طور من مهنته فقد أصبح (بناء) أَو كما يقال في اللغة الدارجة (خَلفة) أَو (أسطة) وليس عامل بناء، كي يحاول جاهداً أن يجمع مبلغاً من المال ليعالج به طفله؛ زوجته هي الأخرى قررت أن تعمل كي تساعده و تجمع معه المال؛ حيث أفتتحت من سياج الدار باباً أخرى على الشارع وعملتْ منها شيئاً يشبه الدكان تبيع منه الخضار وما يحتاجه الصغار مِنْ الأطفال من حلوى.

الجدة والدته(أم قاسم) رغم كبر سنها تكبت أوجاعها و تحاول مساعدتهم في رعاية الأطفال والطبخ.
(سَلمان) لا يهدأ يعمل ويجمع التقارير ويحاول إنجاز معاملات السفر ويتصل بالمنظمات الإنسانية والطبية، العراقيل والمعوقات والمراجعات اصبح عددها كثير جداً بعد سقوط النظام ، ألتجأ إلى الوساطات بين المعارف والأقارب علها تعينه على بلواه، لكن دون جدوى؛ لكنه لمْ ييأسْ، وَلَمْ يفقد الأمل.
بَعْدَ مُراجعات مضنية قاربتْ السنة تمكن من الحصول عَلَى جواز السفر الجديد، له ولطفله العليل، إحدى المنظمات تكفلتْ بتزويده بمجموعة من التقارير الطبية، ووعدته بمساعدته بعلاج طفله خارج القطر، لكنْ يتطلب الأمر ان يكون في الدَّور” الطابور” فقبله مجاميع كثيرة تشبه حالة (ابنه) وقد راجعتْ وتنتظر دورها هي الأخرى؛ طلبوا منه أن يعطيهم رقم هاتفه، أعطاهم رقم هاتفه النقال” الموبايل”، أخبروه أنهم سوف يتصلون به عندما يحين موعده، بعد أن أكملوا له الفحوصات والتقارير الطبية.

وَما هيَّ إلا أشهر قلائل حتى دَخلتْ البلاد في أتون حرب أهلية دمويَّة طاحنة، مستعرة يغذيها عديمو الضمير بالمال والسلاح والخداع والكذب والنفاق، من مافيات الأحقاد والانتقام والتصفيات، أريقتْ فيها الدماء بالشوارع، وشلتْ الحياة بالبلاد وخصوصا في(العاصمة بغداد).

 

 ذات صباح من خريف عام (2006) رنَ هاتفه النقال، نظر إلى الرقم وفتح الموبايل بلهفة هيَّ نفسها المنظمة الإنسانية التي سوف تنقذ فلذة كبده، كان ينتظر هذه المكالمة على نارٍ أحرِ من الجمرِ فهيَّ أمل العائلة الوحيد:

  • ألو، نَعَمْ أنا سَلمان
  • حدثوه بلطفٍ وطلبوا منه التريث والانتظار إلى أن تنفرج الأَزمة التي تعصف في البلاد.
  • عندما أخبرني (سَلمان) بذلك كانتْ عيناه تغرقان بالدموع.
  • واخبرني كذلك أن (زوجته) قد أغميَّ عليها ونقلتْ إلى المستشفى، عند سماعها ما دار بالمكالمةِ، وضرورة التريث.


في ربيع عام (2008) لمْ يَزَلْ البلد يغلي والاضطرابات مستمرة كما المد والجزر تهدأ ساعة و تزداد ساعات أخرى، المعاناة والمشاكل والفوضى تعم البلد، تتراكم الهموم عَلَى الهموم، أعلن الإنذار في المدينة، المدينة محاصرة، أصوات المدفعيَّة وأزيز الرصاص يسمع ليل نهار، قصف عشوائي، وقتل عشوائي، الطيران يجوب السماء القصف لا عَلَى التعين، الجميع في حالةِ هلعٍ وَ خوفٍ، أحدى المنازل التي بالقرب مِنْ دارهم وفي نفسِ شارعهم، في أحدى زخات القصف سقطتْ عَلَى دارهم قذيفة مدفع، هدمت الدار على مَنْ فيها، كانوا (خمسة) ضحايا جميع افراد الأسرة الزوج وزوجته وثلاثة أطفال، أخرجتْ أشلاؤهم من تحت الأنقاض.


كنت شاهد (عيان) عما حدث بهذا اليوم الدموي، في مساء ذات اليوم زرت بيت صديقي (سَلمان)، للاطمئنان عليهم، والحديث معه عن أخر الأخبار، أستقبلتني ( (أم قاسم) بأبتسامتها وكلماتها المعهودة (هله يمه، كل الهلا بسلام)، كركرات الأطفال وصخبهم يبدد الخوف المحيط بالمكان.

كانت في الدار ثلاثة (فوانيس) نفطية موزعة في البيت، تبدد عتمة الظلام وَتخفف من الرعب الرعب، يجلسون كالمذعورين بالقرب من طباخٍ نفطيٍّ صغير، ينفثُ (القدر) الذي فوقه بخار حساء العشاء؛ في هذه اللحظة رن الهاتف النقال ألتقط(سَلمان) التلفون وفتح ( مكبر الصوت الجميع في البيت يسمع ما يدور من حديث) المكالمة من قريب له في طرف المدينة الأخر، من أبن عمه (جبار) أخبره أن حريقاً هائلاً يضرب الأسواق والمخازن وأسواق الجملة قرب منطقتهم التجارية، فيما هو يهاتف قريبه؛ صوت انفجار مدوي هائل يقتلع الأبواب والشبابيك، تتهاوى أجزاءٌ من البيت، تعيق الحركة، حاول عبثاً إنقاذ(زوجته وأمه) بعد ان تمكن من إنقاذ طفليه، الحريق أمتد ليلتهم عدة أجزاء من الدار، تجمهرت الناس في محاولة لإنقاذ العائلة المنكوبة مثل ما يحدث في مثل هذه الظروف التي تحتاج الغيرة والنخوة العراقية، وما هي إلا دقائق حتى أخرجوا (زوجته) وهي تصرخ بهستريا وأثار الحروق على وجهها… لكن للأسف الشديد رغم المحاولات التي بذلها الجيران لإخماد الحرائق والإتصال بسيارات الإطفاء لكن دون جدوى فخط مديرية الدفاع المدني/ الاطفاء(مغلق) فالمدينة ساحة حرب محاصرة منذ ثلاثة أيام والقصف على أشده عليها.

 

(أم قاسم) بقيت محاصرة داخل البيت تصرخ وتتوسل وتستغيث لنجدتها؛ فقد حاصرتها النيران، وَالجدران المتهاوية التي راحت تضيق الخناق عَلَى تلك المرأة المنكوبة سلفاً، رويداً رويداً خفتَ صوتُ استغاثتها وَتوسلاتها، ثمَ تلاشى صوتها الخارج من تحت ركام الغرفة المتهاوية المحترقة، بعد ساعتين من محاولات نجدتها، أخرجت من تحت الانقاض جثة هامدة تشوهها الحروق المتفحّمة، صراخ وبكاء وعويل الجمهرة الكبيرة من رجال الحي وشبابها وأطفالها ونسوتها يشق عنان السماء، وهو يختلط مع أصوات الإنفجارات و أزيز الرصاص ونباح الكلاب المذعورة هي الأخرى.

وقف(سَلمان) مذهولِاً، مذعوراً، عيناه تذرفان دماً بدل الدموع، وأحتبس لسانه فأصبح لا يجيب الناس عن استفساراتها وأسئلتها الكثيرة، كأنه يَعيش في عالمٍ أخر لكنه لا ينقطع عن الحديثِ بصوتٍ مسموعٍ يناجي به ربه، يداه وساعداه مفتوحتان مرفوعتان في الهواء بتجاه السَّماء وهو يردد نفس العبارات:

 

{رَباه لِمَ كلُّ هذا  العذاب

 أيّ ذنب اقترفناه

اِحترق البيت

اِحترق كلُّ ما في البيتِ أحلامنا، أمالنا،

المال الذي جمعناه

جوازات السَّفر الأوراق الثبوتيَّة

التَّقارير الطبيَّة

زَوجتي،

 حَتى أُمي

رَباه ما هذا البلاء،

رَباه ماذا أبقيتَ لَنا}

لَمْ نستطعْ تهدئته، بقيَّ يُردد نفس العبارات كأنها ترانيم درويش صوفيّ في محراب، يحفظها عَلَى ظهرِ قلب، إلى ان بزغتْ أول أنوار الفجر، فَبانَ وجهه شاحباً معفراً بالتُّرابِ وَالسُّخام وَبشعرٍ أشعثٍ مَشُوبٍ بالشَّيب، وهو يترنَح ذات اليمين وذات الشمال كمن أثمله الإسراف في شربِ الخَمر؛ حتى سَقط أرضاً مغمياً عليه…

سادَ الصمت، ورانَ الحزن والألم عَلَى الجميع، وَبصوتٍ خافتٍ متهدجٍ حزينٍ أختتم (سَلام) حديثه: لقد أنظمَ(سَلمان) إلى قافلةِ الضحايا الطويلة … لَقَدْ أحترقتْ أَحلامَهُ، وَلَمْ يَعد يشعر بشيء.

كتبتْ في نيسان/أبريل  2008

مالمو ــ مملكة السويد

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com