رأي

أنيمية السرد العلمي.

بيدر ميديا.."

أنيمية السرد العلمي

سعيد يقطين

 

كما نتحدث عن السرد الأدبي الذي يتحقق من خلال الإبداع، يمكننا الحديث عن السرد العلمي الذي يبدو من خلال الكتابات أو التقارير التي ينجزها علماء، أو من يضطلع بتبسيط المعرفة العلمية وتقريبها من القراء. لا تختلف كتابات العلماء عن كتابات الأدباء إلا في الطريقة التي يوظفون بها السرد لأن الخطاب العلمي بدوره لا يخلو من ممارسة سردية، بل إنه خطاب سردي بامتياز. يبدو ذلك في ما يذهب إليه بول فين من خلال قوله إن التفسير العلمي ليس سوى عمل سردي: فكل حدث في سلسلة يؤدي إلى ما يليه، ثم إلى الخاتمة المرجوة، حتى إن كانت تبدو لنا غير مستخلصة، استنباطيا أو استقرائيا، من الأحداث السابقة. ويرى لايبنتز أن عمل ديكارت لا يختلف عن أي عمل روائي، إن أي أثر سردي كيفما كان جنسه أو نوعه، أدبيا أو علميا، ليس سوى محاولة لفهم أو تفسير ظاهرة ما، سواء كان ذلك يتم من منظور علمي أو غيره، عن أسئلة تتعلق بـ»ماذا وقع؟ وكيف؟ ولماذا؟ وتختلف الخطابات السردية في الإجابة عن هذه الأسئلة تبعا لأنواعها، ومقاصدها، ومتلقيها.
أثار الإثنوغرافي إدوارد تايلور سنة 1871 قضية الشعوب «البدائية» وعبر من خلال أبحاثه عن أنها ليست «متوحشة» كما كانت تدعي الدراسات السابقة، مشيرا إلى أنها عرفت التدين الطبيعي بدورها من خلال إشارته إلى «الأنيمية» التي تعني إضفاء الروح على الحيوان والنبات والجبال، وكل الظواهر الخارجية الطبيعية. إن كل ما في الكون له روح لدى هذه الشعوب. وإذا كان البعض يعتبر الأنيمية نوعا من الوثنية، لأنها تؤنسن الأشياء، وتتخذها آلهة، ظل الآخر يتعامل معها على أنها نوع من الاعتقاد بالوحدانية، التي تتجسد في الروح الموجودة في كل شيء.
وفي دراسة اطلعت عليها إبان شبابي، أتذكر جيدا الإشارة التي وقف عليها فيكتور سيرج في كتابه حول «الأدب والثورة» الذي أبان فيه أن اللغة اليومية محملة بالكثير من «الأنيمية» التي عرفتها الشعوب القديمة. ويعطي أمثلة لذلك من أقوالنا: طلعت الشمس، وهطل المطر، وتكسرت الكأس. إننا إلى أبد الآبدين، سنظل نقول: طلعت الشمس، رغم أن معرفتنا «العلمية» تقر بأن الشمس لا تطلع ولا تغرب، وأن الأرض هي التي تدور؟ ويتعامل بعض اللسانيين اليوم مع بعض صور الأنيمية في اللغة، على أنها ضرب من الاستعارة، كما في التعبير الساخر: «صناديق القمامة ستذهب لتنتخب غدا».

يبدو لأي قارئ عادي أن السرد واضح من خلال تسلسل الأفعال والأحداث: «خرجت» «بدأت» «اتحدت». تتحقق هذه الأفعال من خلال فواعل: «المادة» و»الطاقة» الجزيئات، «الذرات» وتقع في زمان ومكان محددين من خلال إشارات زمنية، وروابط لغوية: قبل، ثم، وحيز الوجود.

أثارتني مقدمة العالم يوفال نوح هراري في كتابه «العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري» الذي ترجم إلى العربية، وتتصدره تقريضات استثنائية تنوه بقيمة الكتاب العلمية، وخصوصيته بالقياس إلى الكثير من المؤلفات التي تتناول تاريخ الحياة على الأرض، إذ وجدتني أمام عمل سردي لا يختلف عن أي رواية أقرؤها. يبدأ الكتاب على هذا النحو: « قبل حوالي 13.5 مليار سنة، خرجت المادة والطاقة والزمان والمكان إلى حيز الوجود فيما يعرف بالانفجار العظيم. تسمى هذه الملامح الأساسية لكوننا: الفيزياء. بعد ظهورهما بـ300 ألف سنة، بدأت المادة والطاقة بالالتحام في بنى معقدة تدعى الذرات، ثم اتحدت لاحقا مكونة الجزيئات. تسمى قصة الذرات والجزيئات والتفاعلات في ما بينها الكيمياء».
يبدو لأي قارئ عادي أن السرد واضح من خلال تسلسل الأفعال والأحداث: «خرجت» «بدأت» «اتحدت». تتحقق هذه الأفعال من خلال فواعل: «المادة» و»الطاقة» الجزيئات، «الذرات» وتقع في زمان ومكان محددين من خلال إشارات زمنية، وروابط لغوية: قبل، ثم، وحيز الوجود. لكن ما يثير الانتباه هو أننا لو قارنا تشكل العالم كما يقدمه لنا هذه العالم بما نجده في النصوص الدينية والأسطورية التي تنسب كل الأفعال والأحداث المتصلة بالخلق إلى الله، أو إلى آلهة، أو عنصر من عناصر الطبيعة، نجد العالم هنا يركز على «الانفجار العظيم» ويراه السبب وراء وقوع فعل مركزي هو «خروج المادة والطاقة والزمان والمكان إلى حيز الوجود» قبل 13 مليار سنة. وتلا فعل الخروج التحام المادة بالطاقة، ونجم عن ذلك بروز الجزيئات عن طريق اتحاد تلك المكونات.
إننا فعلا أمام «أنيمية» علمية تتحدث عن «الانفجار العظيم» كونه المسؤول عن الخروج والتحام واتحاد المادة والطاقة والزمان والمكان، وتشكل العالم الطبيعي. إن ما هو علمي في هذا التقديم يتعلق بصورة خاصة ببروز «مواد العلوم» التي ستهتم بالعناصر الناجمة عما طرأ بعد الانفجار العظيم: الفيزياء والكيمياء وبقية العلوم التي يرصدها في تتبعه للتطور الذي عرفه تشكل العالم. لا يمكن لقارئ السرد إلا أن يطرح أسئلة سردية عن الأفعال والفواعل. أما الزمان والمكان فهما محددان بدقة متناهية. من بين الأسئلة التي تغري بالطرح، وهي الأسئلة التي حاولت الأساطير والأديان طرحها، وتقديم أجوبة عنها، ولا عبرة باعتقادنا بها أو لا، يبدو السؤال: أين كان الانفجار العظيم؟ ولماذا وقع؟ وكيف تكونت المادة والطاقة؟ ولماذا كان الالتحام والاتحاد؟ سرديا نجيب للفواعل أرواح جعلتها تقدم على هذه الأفعال. إنها أنيمية جديدة.

كاتب مغربي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com