مجتمع

نقدنا الأدبي وحيف المسلمات.

بيدر ميديا.."

نقدنا الأدبي وحيف المسلمات

 نادية هناوي

 

في نقدنا الأدبي العربي جملة ظواهر صارت من كثرة المداومة عليها بمثابة مسلمات أو قناعات، تحتاج منا أن نبذل جهداً في النظر إلى موجباتها والتساؤل عن جدواها وتفحص أبعادها والتدقيق في مدى فائدتها للعمل النقدي. أما الفيصل في التعامل مع تلك المسلمات أو رفض بعضها وتأكيد غيرها فهو الناقد الذي يملك من الأدوات والقدرات ما يجعله حصيفاً وهو يوظف المناهج ويستقرئ الأبنية ويتحصل مخرجاتها.
ومما نذكره من مسلمات نقدنا الراهن المتوجب علينا رفضها وخلخلة برمجياتها المتحجرة، مشتغلين بعيداً عنها ما يأتي: 1) مسلمة العشوائية في انتقاء الناقد لأعمال أدبية ونقدية؛ 2) مسلمة المصالحة في النأي عن المصارحة عما في أدب الأدباء ونقد النقاد من هنات أو سلبيات؛ 3) مسلمة دبلوماسية العريكة اللينة بمعنى أن الناقد لا يؤاخذ إلا وهو يمدح، ولا يمدح إلا وهو يجامل، ماسكاً عصا النقد من الوسط؛ 4) مسلمة السير على منوال السابقين محتذياً طرائقهم مقلداً عناوينهم، مجتّراً اصطلاحاتهم؛ 5) مسلمة إيثار العزلة كأن الناقد في جزيرة نائية، لا تعنيه سوى نفسه ولا شأن له بمشتركات تجمعه مع غيره، بل هو لا يكترث لما يكتبه النقاد الآخرون ولا يهمه كيف يعملون؛ 6) مسلمة العرائضية أعني عرض الكتب مفسراً الماء بعد الجهد بالماء، ناثرا النصوص إن كانت شعراً أو ملخصا إياها إن كانت قصصاً أو روايات؛ 7) مسلمة التعالي على النصوص باستعمال عبارات ملتوية ومستغلقة ومفاهيم مخلوطة ومغلوطة، بمنهجية لا خطة فيها أو بخلطة لا منهجية، والمحصلة أنه لا يرحم حاله ولا ينفع قارئه؛ 8) مسلمة الوقار المتصنع والغرور الواهي بالانتماء إلى منابر أدبية مرموقة أو مرافقة أسماء كبيرة أو ثقيلة الوزن ومسؤولة، مدعياً الشيخنة مقرباً المصفقين بوصفهم (شبابا) حتى لو تخطت أعمارهم الستين وهم بتصوره أدنى منه لأنه امتلك ناصيتي العلم والأدب؛ 9) مسلمة التوسل بالنقد لمصالح نفعية وآنية، وبسبب سعة العمل بهذه المسلمة فَقَد كثير من نقدنا الراهن هيبته وضاعت ضروراته الجمالية وتوهم كثير من الكتبة أنهم نقاد. ولعل خطر هذه الأخيرة يعادل خطر المسلمات أعلاه أو غيرها مما لم يسعفنا الإحصاء من ذكرها.
وليس أمر معالجة هذه المسلمات بالهين كي نصحح مسارات نقدنا العربي الراهن؛ ليس لأن الحبل في نقدنا متروك على الغارب بلا مؤسسات، ولا هو اليأس من تصحيح ميدان هو جزء من منظومة حياتية كاملة ينخر التراجع في أساساتها، ولا هو التسليم لحال ننتظر منه أن يُصحِح نفسه بنفسه، وإنما السبب متموضع في أنفسنا نحن النقاد وقد أحجمنا عن العصف بهذه المسلمات انتفاضا لذواتنا ونقدنا الأدبي، مضحين بهناءاتنا متنازلين عن مواقعنا ومتحملين أعباء ومجاهدات ومتطامنين مهما كانت العقبات في سبيل حفظ ماء وجه الناقد العربي وكي يظل بسمعته التي كان عليها بين أوساط الأدباء والمثقفين داخل عالمنا العربي وخارجه.
وليس العصف سوى التحلي بالضمير الحي بوصفه العلاج الناجع الواجب استعماله وعدم نسيانه، وبه يظل الناقد امتداداً للسلف من الرعيل الأول من النقاد والأكاديميين الأفذاذ الذين وضعوا نقدنا الحديث على جادة العلمية والمنهجية والمعرفية.
ولا مراء في أن الضمير الحي قادر على العصف بأية مسلمة مهما كانت ركائزها غائرة في أرض الواقع العربي وأياً كانت دعائم موجباتها صلدة تفرض نفسها وتلقي بظلالها على عاتق من ينبري للعمل النقدي. وبهذا وحده ستتجلى صورة النقد الصافية التي معها تفقد تلك المسلمات رسوخها فتُخترق وتنخرم ثم تدريجيا تتهرأ وتتلاشى.
أقول هذا وأنا استذكر قول أستاذي القدير علّامة التنظير السردي الدكتور شجاع العاني الذي شرّفني بوصف أفخر به كل الفخر وأسعى إلى صونه والاتصاف به، ونصه: (تثبت الدكتورة نادية هناوي في كل ما تنشره أنها قادرة على خرق المسلمات النقدية العراقية والاتيان بما هو جديد ومختلف). وهذا الوصف بمقدار ما شكّل بالنسبة إليَّ حافزاً للمواصلة ومدعاة للاعتزاز، فإنه أيضا حملَّني مسؤولية مضاعفة وكبيرة.
ولعل أستاذي كان ينظر إلى هذا الخرق من خلال ما قمت به من مسعى يهدف إلى رفع الحيف عن كثير من الأسماء المبدعة شعراء أو قصاصين أهملهم النقد العراقي أو نسيهم وغفل عنهم أو أشار إلى بعضهم إشارات لا تناسب كبر تجاربهم أو من الذين تحامل عليهم النقاد لأسباب شخصية أو نفسية أو آيديولوجية فأساؤوا إليهم وأبعدوهم عن صدارة يستحقونها مثل محمد روزنامجي وجيان وفاروق أوهان وسميرة المانع وسهيلة داود سلمان ومنير عبد الأمير وغيرهم.
إنّ إشارة أستاذي إلى خرق المسلمات تعني الإتيان بالجديد، ولا جديد من دون وعي لحقيقة الفعل النقدي، ولا بيان للحقيقة إلا عند من امتلك الضمير الحي. وفي تاريخ الأدب كثير من الأمثلة التي تؤكد أن الحقائق وحدها هي التي تبقى وكل زائف مصيره إلى الذواء. وأي نقد أدبي يأتي عن نوايا غير حقيقية سينكشف زيفه أيا كانت النظريات والمفاهيم والمستويات الموظفة فيه. وكم عدد النقاد الذين راهنوا على المصلحة والنفعية في إعلاء أسماء شعرية وروائية بفذلكات شتى في الاجتراح والتمرير وتحين الفرص وانتهازها، مترعين بالاخوانية والشللية لكن تاريخ الأدب لفظهم بمجرد انتهاء أوان تلك المصالح والنفعيات.
ولنا في أقلام مبدعينا الإجلاء الذين سبقونا خير مثال على الضمير الحي كأمثولات وقدوات بعقول نيرة فترسخت نقودهم مترعة بالعلمية ومكتسبة بنفعها الجمالي العميم قيمة تاريخية على مر الأجيال.
الضمير الحي هو الجذوة التي بها يخرق الناقد جدران المسلمات مهما كان تحجرها عصياً على الخرق ومستعصياً على الفناء. وما دام للناقد ضمير حي فلا بطر ولا ترف أو تهاون يعتريه إزاء مسلمات وقناعات بعينها، بل هو مهموم بلا اضطراب ومغامر بلا استسهال.
وما العصف الذي يحققه الضمير الحي سوى جعل النقد في حالة حركة دائبة بلا هوادة في العمل ولا استكانة في الإنتاج وقد وجد الناقد في الأدب عيشه ودوامه، يفكر في الخالدين من أرسطو إلى محمد مندور فيدرك أن النقد حياة خالدة وحقيقته جذوة باقية.
وما من خرق أشد هولا وقوة يعصف بالمسلمات مثل خرقها من لدن ناقد ذي ضمير حي محمل بالأهداف القيّمة، فلا يرى في النقد وسيلة لبلوغ الشهرة أو سوقا يعرض بضاعته فيها، بل النقد ضرورة تحتاج منه صلابة في التأني ومرونة في التقصي وحذرا مع الاقتحام وشجاعة مع النبل بلا إفراط ولا تفريط.
وللضمير الحي من اليقين والصدق ما يجعله قادرا على المغالبة والصمود كضرورة من ضرورات حياتنا الأدبية والثقافية لا بد أن نبحث عنه إن شَعَرنا أنه مفقود، ونصرُّ على إحيائه إن كان ميتا حتى إن اقتضى الأمر أن ندفع الأثمان كي نظفر به عاجلا أو آجلا.
وإذا تساءلنا بحسن نية أين هو الضمير النقدي؟ وهل هناك ضمائر نقدية استطاعت الصمود أمام إغراء المادة والشهرة، فأمِنت جانبهما وتحصنت من شرورهما؟
أظن أننا لن نختلف على الإجابة لا على طريقة المثل القائل سوء الظن من حسن الفطن وإنما من باب ما نلمسه ونشهده يوميا من وجود أزمة ضمير نقدي في أغلب ما ينشر من نقود شعرية وسردية لكن ذلك لا يعني أن المسلمات لا زعزعة لها وأننا متشائمون من قدرتنا على تغيير قناعات تحجرت داخل نقدنا، بل بالعكس نحن متفائلون بوجود نقاد حازمين وصارمين لا تأخذهم في الحق لومة لائم فلا يهملون ولا يمهلون، لهم حضور واضح يشبه حضور العملة الأصيلة بين مثيلاتها المزيفات. ومهما ازداد عدد المزيف فان الأصيل على ندرته قادر على طرده والقضاء على غثه وفقره ورداءته.
نعم الضمير الحي في النقد عملة نادرة لكنها فاعلة تعصف بالمسلمات بكل جرأة، فيغدو الناقد غير متحفظ وغير محتاط، لأنه يعلم أن في العصف نفعاً للأدب وأهله، متحليا بأخلاق هي بمثابة دروس يقدمها للآخرين بالمجان فلا يَهدي له الأديب كتابه وينتظر منه مكافأة على الإهداء بنقد سطحي إخواني. وإذا ما قدح الناقد بأديب ولام آخر أو آخذه على نصه، فينبغي على الأديب أن يقتنع أن في ذلك فائدة له تتطلب منه عدم السخط أو العداء.
شبابية النقد هي في استقامة الضمير، واستقامته في حياته، وحياته في خرق مسلمات ظواهره غير الموضوعية، وبالخرق والنبذ والعصف، تدوم عجلة النقد وترتقي الأذواق وتنتفع العقول علما وإنتاجا، فتبقى روح الأدب غضة طرية نضرة.

كاتبة من العراق

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com