رأي

تحسين معلّة الطبيب الذي ادركته السياسة وغيبته الخلافات  (2-3).

بيدر ميديا.."

تحسين معلّة الطبيب الذي ادركته السياسة وغيبته الخلافات  (2-3)

ربع قرن في سبيل البعث وآخر ضدّ السلطة

عبد الحسين شعبان

وكم من مرّة اجتمعنا وتناقشنا مع المفكّر البريطاني اليساري الفريد هوليداي الذي اصطحبه نوري عبد الرزاق ليسمعنا رأيه بخصوص: هل ستبدأ حرب قوات التحالف ضد العراق العام 1991م أنها مجرّد ضغوط وتهديدات، وأن الغرب لا يغامر بشنّ هذه الحرب؟ وكان هذا رأيه،  أما رأينا وهو ما جادلنا به هوليداي وهو الرأي الغالب مع بعض الملاحظات ، نوري وإياد علّاوي وصلاح عمر العلي وتحسين معلّة واسماعيل القادري وكاتب السطور، أن الغرب جهّز كل شيء وينتظر الإعلان فقط، وقد دخل في حرب مفتوحة ومعلنة… أمّا نتائجها فكنّا نختلف بشأنها.

أول لقاء لندني

وكان أوّل لقاء لنا في لندن في حفل تأبين الشخصيّة اليسارية سليم الفخري تشرين الأول / أكتوبر 1990وحين سألني عن وجهتي بعد انتهاء حفل التأبين، قلت له إلى موردن Mordenحيث سكنت أوّل مرة منذ انتقالي إلى لندن، فقال أنّك على طريقي وإذا لم يكن لديك سيّارة سأوصلك معي، وكان هذا ما حصل، واستمرّ الأمر على هذا المنوال بعد كلّ لقاء أو اجتماع يوصلني إلى منزلي، وغالبًا ما كنّا نكمل حواراتنا فيه.

كان اللقاء الأول قد فتح أبواب الصداقة، خصوصًا من خلال المعرفة العائلية، وفي الطريق سألني عن خالي رؤوف شعبان، قلت له أنه النائب الأول لرئيس غرفة تجارة بغداد، فقال لي أنه زميله وكانا في ذات المرحلة الدراسية ومعهما حسن عوينة صديقنا الثالث (في ثانوية النجف)، ثمّ أضاف حتى حين كنت في كليّة الطب وهو في كليّة التجارة كنّا نلتقي أيضًا ومعه ابن عمّه معين شعبان أحيانًا. وسألني إن كان شقيق معين قد تخرّج من كليّة الطب وأين هو الآن؟ فقلت له أن ناهض شعبان أصبح طبيبًا منذ العام 1965 ولديه عيادة في الكاظميّة.

أخبرني أن خالي المحامي جليل شعبان أوصل له رسالة من شقيقه المحامي فاضل بعدم عودته إلى العراق، حيث كان ينوي العودة، وكان جليل قد حصل على قبول دراسي لاستكمال دراسة الحقوق في لندن العام 1962وحين عرف فاضل معلّة شقيق تحسين ذلك يقول جليل شعبان: زارنا في بيت الوالد (الكاظمية – مقابل سوق حمّد) ويبدو أنه كان لديه شغل مع جدّك الحاج حمّود شعبان، فكلّفني بتوصية خاصة وشديدة، إبلاغ تحسين عدم عودته إلى العراق تحت أي سبب كان، حيث كان اعتقل أكثر من مرّة، الأولى بسبب عملية اغتيال عبد الكريم قاسم في رأس القرية وحوكم أمام محكمة الشعب (المهداوي)، واعتقل مرّة أخرى بعد كبس أحد الأوكار الحزبية العائدة إلى حزب البعث في منطقة الطوبجي، حيث كان رقم سيارته معروفًا، وكانت زوجته تعمل في مؤسسة قريبة من هناك وهو يتردّد عليها، الأمر الذي أثار شكوكًا، لاسيّما بسبب تاريخه البعثي.

 ويقول جليل شعبان، ما أن وصلت لندن حتى سألت عن عنوانه ورقم تلفونه واتصلت به عبر طالب من آل شمسة كان يدرس هناك وقد سبقنا إلى الدراسة في لندن، وأبلغته برأي فاضل وتوصيته الشديدة اللهجة.

وكان عمّي ضياء شعبان صديق تحسين معلّة مع أن الأول يميل إلى اليسار، وكم أبدى أسفه لوفاته وهو شاب، لكنه لم يسمع بخبر وفاة عمّي الدكتور عبد الأمير شعبان، وهو من أقدم الأطباء في العراق وأكبر من شقيقه فاضل الذي كان صديقًا لخالي ناصر شعبان وعمّي ضياء كذلك، وهم من أعمار متقاربة.

سيسيولوجية النجف

            للنجف سيسيولوجية خاصة تجمع المتناقضات، فهي على طرف الصحراء بالقرب من نهر الفرات الذي يمرّ بالكوفة، ومن أسمائها “النجف الأشرف” تأكيدًا على قدسيّتها وتقدير الناس لها، “والغري” “ووادي السلام” و “المشهد” و “النجف السعيد”، وتكنّى ? “خد العذراء”، وهي ملتقى الأطراف المحيطة بها من حضر وبدو وقبائل ووافدين ومللٍ ونِحلٍ، وفيها الحرم العلوي لحضرة الإمام علي بن أبي طالب، أي “الروضة الحيدرية” كما فيها أكبر مقبرة في العالم تسمّى مقبرة “وادي السلام” أو “مقبرة الغري”.

            ويتجاور فيها الأضداد فتجد في البيت الواحد وفي الزقاق الواحد، متديّنون وشيوعيّون وقوميّون يتجادلون ويتحاورون ويتعايشون خارج دوائر الصراع المعروفة، وبعيدًا عن التخوين والتأثيم.

            تمتدّ صحراء النجف إلى البادية الشاسعة الموصلة إلى المملكة العربية السعودية، وفي الوقت نفسه فالنجف هي الحلقة الموصلة إلى العمق العراقي بما يضمّه من حضارات في أور وبابل وآشور وأكد، حيث تمتدّ الحضارات إلى سبعة آلاف عام في التاريخ، وقد ظلّت النجف ميدانًا لصراعات البداوة والحضارة حتى وقت قريب باستعارة تعبير العلّامة الكبير علي الوردي وباستلهام الفكرة الخلدونية التي عمل على تطويرها.

            والنجف هي رابع المدن الإسلامية بعد مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة والقدس الشريف، وهي دار هجرة الأنبياء ومواطن الأوصياء، وبها نزل النبي ابراهيم الخليل، ودُفن فيها النبي هود والنبي صالح.

            وفي النجف تأسست أول الجامعات في العالم، وتضاهي جامعتها جامعة الأزهر (القاهرة) وجامعة الزيتونة (تونس)، وهي امتداد لمدرسة الكوفة الشهيرة، وحسب ابن الأثير أن دراسة العلم في النجف بدأت منذ القرن الثالث الهجري. ووفقًا لبعض الدراسات المعاصرة تُعتبر النجف من أقدم الجامعات العالمية وأعرقها وأكثرها حريّة في البحث العلمي حسب محاضرة ألقاها رئيس الوزراء الأسبق محمد  فاضل الجمالي في جامعة أكسفورد العام 1957 فمدرسة بولونيا (إيطاليا) وهي أشهر وأعرق جامعات أوروبا تأسست في العام 1119م، في حين التحق الشيخ الطوسي بجامعة النجف التي كانت قائمة العام 1027 المصادف 448 – 449وحسب تقديرات المؤرخين كانت جامعة النجف نشأت في حوالي العام 250أما الأزهر الشريف فقد شرع بتأسيسه العام 359أي بعد أكثر من مئة عام على قيام جامعة النجف.

            في هذه الأجواء الروحانية العروبية نشأت وترعرعت العديد من الشخصيات النجفية التي أصبح لها شأن كبير ومن بينها الدكتور تحسين معلّة.

            والشخصية النجفية ومن بينها تحسين معلّة على الرغم من تمسكها بعروبتها وتأثرها بالمناخ الإسلامي بشكل عام إلّا أنها شخصية منفتحة في داخلها ولا ترفض الآخر، وخصوصًا الغريب، بل تقبله وتسعى إلى إقامة العلاقة معه وافدًا أو دارسًا أو زائرًا وقد عبّر السيّد مصطفى جمال الدين في كتابه “الديوان” بوصف أجواء النجف الاجتماعية والثقافية بقوله “الفكر المنفتح في المجتمع المنغلق”، فعلى الرغم من الطابع الاجتماعي المحافظ، إلّا أن الحريّة الفكرية والجدل والانفتاح على الآخر وقبول الجديد والسعي للتغيير كان دائمًا سائدًا فيها، بل يمثّل جزءًا من حياتها اليومية.

            وهذا الجدل لم يقتصر على النخبة فحسب، بل كان لدى العامة أيضًا، ومن تأثيراته كان انتقال بعض دارسي الحوزة إلى الميدان المدني، مثل سعد صالح جريو وأحمد الصافي النجفي والجواهري والخليلي وغيرهم، فضلًا عن بعض اللبنانيين الذين درسوا في الحوزة ومنهم: حسين مروّة ومحمد شرارة وآخرين.

            ولهذا لا يمكن اعتبار النجف مدينة دينية فحسب، فهذه نصف الحقيقة، لأنها مدينة مدنية تتطلّع إلى الحداثة والتجديد، على الرغم من الطابع العام الذي يُظهر محافظتها، وتتشابك هاتين الصفتين المتصارعتين (التقليد والحداثة) على نحو متعاشق فيها وفي إطار هارموني منسجم ومتناسق، وبفضل ذلك احتلّت هذه المكانة وتبوأت هذه المنزلة منذ أكثر من 1000 عام، فهي حاضرة للفكر الإسلامي مثلها مثل الأزهر الشريف.

            والنجف ككل هي عبارة عن معهد دراسي وسوق عكاظ شعري، حيث يتنزّه الشعر في شوارعها ويندلق من مياه الشرب المنتشرة في أزقّتها وحول مرقد الإمام علي بالقرب من الصحن الشريف. والشعر في النجف فاكهة لكل المواسم والمناسبات في الأفراح والأتراح، وترضعه الأم مع الحليب لأبنائها، وقد أحصى الشيخ محمد رضا الشبيبي نحو 200 شاعر في مدينة لم يكن يزيد عدد نفوسها قبل 200 عام ونيّف عن 30 ألف نسمة، وذلك في موسوعة الغري الشعرية.

حضرة الإمام علي

            السبب والاعتبار الثاني – أن العائلتين تنتميان إلى فئة واحدة وهي التشرّف في خدمة الإمام علي منذ قرون في الحضرة العلويّة وهو حقّ حصريّ لعدد من العشائر والبيوتات العربية دون غيرها، وإن كانت كوكبة لامعة من أبنائهما اختارت طريق العلم والدراسة الرسمية والمدارس الحديثة، فأصبح يُشار إليهم بالبنان في شتّى الفروع والاختصاصات. جدير بالذكر أن العوائل العربية المعتبرة والتي تختصّ بالخدمة هي آل الرفيعي ” الكليدارية”، أمّ رئاسة الخدمة فهي ? آل شعبان ، حيث لهم “السر خدمة” (وهي كلمة تركية وتعني رئيس الخدم – أمين السر)، وخدم الحضرة هم من آل الحكيم وآل كمونة وآل شمسة وآل الخرسان وآل زوين وآل القابجي وآل عنوز وآل الخياط وآل شريف وآل الكيشوان وآل معلّة ( وللعائلتين الأخيرتين القيام بمقام الكيشوانية أي تقديم الخدمة للزائرين بحفظ أحذيتهم ومقتنياتهم أثناء زيارتهم لحضرة الإمام علي).

            وترتبط عائلتانا بوشائج صداقة عديدة، كما أرتبطُ شخصيًا بصداقة عدد غير قليل من آل معلّة المعروفون بميولهم القومية، في حين أن عائلتنا معروفة بميولها اليسارية. وكانت هذه العلاقات في الحضرة وخارجها، وهي مصدر اعتزاز واحترام متبادل، علمًا بأن الحضرة كانت بعيدة عن تداخلات الحكومة وهي أقرب إلى الاستقلالية وتدير نفسها بنفسها عبر تنظيم متوارث. والخدمة فيها كانت تاريخية وفقًا لفرامين سلطانية منذ قرون من الزمن  منذ عهد الدولة العثمانية. وعُرفت مؤسسة الروضة الحيدرية بعمقها الشعبي وهي أحد الروافد المهمة بعد الحوزة الدينية، إضافة إلى الرافد الثالث وهو أصحاب المنابر الحسينية، سواء كانوا خطباء وقرّاء وشعراء.

            واستمرّت الحضرة العلويّة والحضرات الأخرى في كربلاء والكاظمية وسامرّاء وغيرها في وظيفتها بتوارث الخدمة حتى الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 حيث جرى نقل العديد من المنتسبين إليها إلى وظائف أخرى في الأوقاف، وتشتّت شمل المجموعة العربية التي تولّت خدمة الحرم العلوي منذ قرون من الزمن، واستعيض عنها بما سمّي مجلس أمناء بعد تقسيم وزارة الأوقاف إلى ديوان الوقف الشيعي وديوان الوقف السنّي ودواوين للأوقاف المسيحية والإيزيدية والصابئة المندائية، حيث عملت الجماعات والأحزاب الإسلامية الشيعيّة والسنيّة للحصول على مواقع نفوذ في المراكز الدينية، وحصلت منافسات لا مشروعة وتجاوزات سافرة بشأن الأوقاف، بما فيها في مقامي سامرّاء (الإمامان علي الهادي والحسن العسكري)، علمًا أن مجلس النواب أقرّ قانونًا لإدارة العتبات المقدّسة والمزارات الشيعيّة في عام 2005 الأمر الذي فتح الشهيّة لضم هذا الجامع أو ذاك إلى هذا الديوان أو ذاك، لاسيّما بالغلبة (القانون رقم 1926 كانون الأول / ديسمبر 2005).

 وفي وقت لاحق أقرّ قانون جديد وضع عبارة “المرجع الأعلى” للمصادقة على الحق الذي منحه القانون لرئيس ديوان الوقف الشيعي في تعيين كبار مديري العتبات بعد الحصول على موافقته أي موافقة (المرجع الأعلى للطائفة الشيعية دون أن يذكره بالاسم) ، وقد أثير كلام كثير حول الأوقاف ووجّهت إليه اتهامات عديدة بالفساد وغيرها. ويمكن الاطلاع على كتابنا “دين العقل وفقه الواقع – مناظرات مع الفقيه السيد أحمد الحسني البغدادي”، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت، 2021.

وجدت في هذا الاستطراد توضيحًا لأسئلة كثيرة بشأن حضرة الإمام علي والعاملين فيها تاريخيًا، فهي إحدى الروابط التي قامت بين آل شعبان وآل معلّة، إضافة إلى الامتداد إلى ما هو أبعد من ذلك بين الآباء والأجداد، فقد كان والدي عزيز شعبان صديقًا لصالح معلّة والد الصديق حسين معلّة السفير لاحقًا، وإخوته وهم من الأصدقاء وأبناء المحلّة، وقد ذهبت والدته إلى الحج مع والدتي في حملة واحدة، وهو ما ذكّرني به خلال لقائي به في طهران العام 2001 في المؤتمر الخاص بمناهضة العنصرية، تمهيدًا لمؤتمر ديربن (جنوب أفريقيا)، وكان هو قادم من بغداد، في حين كنت أترأس وفدًا عربيًا وسُمح لي حينها من بين 5 شخصيات آسيوية أن ألقي كلمة باسم العرب، أمام اجتماع الحكومات الآسيوي الإقليمي الدولي، فشدّدت على عنصريّة الصهيونية وعنصريّة ولا إنسانية الحصار على العراق.

أحزاب شمولية

            السبب والاعتبار الثالث – أننا انتمينا إلى أحزاب شمولية، هو إلى حزب البعث وأنا إلى الحزب الشيوعي، وكان ذلك ديدن الجيل الذي سبقنا، وهو جيل معلّة وجيلي الذي سار على ذات الاتجاه، وحسب سيرته وما سمعته منه، فقد تململ كثيرًا وحاول التمرّد وعاد وواصل وانقلب، ثمّ اختار المنفى، حيث لا خلاص ولا إمكانية في الحفاظ على النفس إلّا عبر ذلك، وأنا الشريد كنت أيضًا أطيق ولا أطيق الشموليّة والالتزامات الثقيلة والأوامرية والقرارات الفوقية، وأبحث باستمرار على ما يرضي عقلي وضميري أوّلًا قبل أي اعتبار آخر، وذلك عبر فسحة الحريّة التي أعطيتها لنفسي وللآراء التي أحاول التعبير عنها بما يدعو للنقد والاعتراف بالتنوّع وقبول الآخر، فمن الاعتقال إلى الفصل، ثم الاختفاء، ثم المنفى، وبعدها العودة، والاعتقال والاستدعاءات المتكرّرة، ثم إلى المنفى مرّةً أخرى، ومنها إلى كردستان نصيرًا وكاتبًا ومنشغلًا بالعمل الفكري والحقوقي، ومنه إلى المنفى كذلك.

            وفي فترة النفي داهمتنا الحرب العراقية – الإيرانية بتعقيداتها وتفريعاتها وتعارض المواقف بشأنها، ثم غزو الكويت وما رافقه من اصطفافات جديدة للمعارضة وهي الفترة التي توطّدت فيها علاقتي مع تحسين معلّة.

مراجعة التجربة

            كان بودّي لو أسعف العمر تحسين ليُجري مراجعات لتجربته، فهو يمتلك جُرأة أدبية وثقة بالنفس وكان قادرًا على قول الكثير من الحقائق بما فيها بعض الخفايا والخبايا عمّا عرفه وما اختزنه وما حصل عليه من معلومات وما اكتنزه من وقائع وما اطّلع عليه من حقائق ما يزال الكثير منها طي الكتمان، لأن كثيرين يحجمون عن قول كلمتهم لاعتبارات كثيرة. ولاحظت ذلك في العديد من المذكرات التي كُتبت، فهناك الكثير من التردّد وعدم الإفصاح بما فيه المرور سريعًا على محطات مهمة.

وبودي أن أنوّه إلى الكتاب الذي أعدّه الصديق سيف الدوري والموسوم “تحسين معلّة – من الذاكرة”، دار الحكمة، لندن، 2018 وردت فيه إشارات أولى هي أقرب إلى عناوين، وكلّ عنوان منها يصلح لفصل أو لكرّاس أو حتى كتاب، فتحسين معلّة يملك الكثير من الأسرار والمعلومات.

دعوة عفلق

عاد تحسين من لندن التي توجّه إليها بعد إطلاق سراحه العام 1962? عبر بيروت إلى بغداد، وذلك إثر انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 والتقى فيها بميشيل عفلق الذي كان يناديه “بالحكيم” كونه طبيبًا على عادة أصحابنا الشوام، وعرض عليه المجيء إلى بغداد، لأن “الجماعة” تجربتهم محدودة وهم ما زالوا شبابًا وسوف يتعرّضون إلى أخطاء كثيرة وربّما خطيرة… وهم لا يقبلون نصيحة أحد سوى من قبلك ، أنت ميشيل عفلق، واقترح عليه فتح منزله للناس في بغداد وتقديم النصح والتوجيه، وهو ما دوّنه في كتابه الخاص بمذكّراته، الذي أعدّه سيف الدوري.

 ولعلّ تحسين أدرك ثقل المسؤولية، مثلما كان يعرف حماسة واندفاع رفاقه وربّما رغبتهم في الثأر والانتقام وحكم البلاد بالحديد والنار، فحاول باقتراحه مجيء عفلق الحد من ذلك، لكنّ عفلق كما يقول (خيّب آماله حسب ما دار بيننا من حوار العام 1993 في لندن) ورفض الفكرة وتعذّر بوجود بعض الأمور التي تحول دون ذلك، ولكنه قال في النهاية سأتوجّه إلى بغداد، وسأله إذا كان مناسبًا أن يرافقه صلاح البيطار، فأجابه لا تجلبه معك لأنهم لا يرغبون رؤيته بسبب توقيعه على وثيقة الانفصال (انتهى الاقتباس).

            ويتحدّث تحسين عن التجاوزات غير المقبولة من قيادات حزبية كما يسمّيها، ومنها كيف صفع منذر الونداوي، باسل الكبيسي زعيم حركة القوميين العرب، وقد شعر إثر ذلك بحالة من الغضب والاستهجان، وذهب محتجًّا إلى مقر المجلس الوطني لقيادة الثورة والتقى محسن الشيخ راضي وأبلغه بالحادث فنفى علمه، لكنه بعد النقاش قال له ربّما عاد منذر الونداوي من مجلس فاتحة أقيمت للضابط وجدي ناجي الذي قُتل أمام وزارة الدفاع، وكان منفعلًا فضرب الكبيسي سطرتين (كفّين).

حكاية قصر النهاية

            لكن القصّة الأهم لم تتم روايتها كاملة، فقد طلب منه حمدي عبد المجيد (أصبح أمينًا لسر القيادة القطرية لفترة قصيرة) أن يتوجّه إلى “قصر النهاية” لفحص المساجين الشيوعيين، والمقصود بذلك “قصر الرحاب” الذي كانت تسكن فيه العائلة المالكة والذي تحوّل بعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958 إلى دائرة السياحة، ثم إلى مقر  مكتب التحقيق الخاص أو “اللجنة التحقيقية العليا” وترتبط بها المكاتب الفرعية مثل مركز تحقيق قاعة الشعب (محكمة الشعب سابقًا)، ومركز المأمون والنادي الأولمبي ونادي النهضة ومركز الجعيفر، وهكذا تحوّلت الكثير من المرافق العامة والنوادي الرياضية إلى مقرّات للتعذيب، وكان أكثرها بشاعةً “قصر النهاية” الذي اعتبر معتقل العذاب والموت وأعدم فيه العديد من القيادات الشيوعيّة وفي مقدّمتهم أمين عام الحزب “سلام عادل”.

جدير بالذكر أن دائرة السياحة (قصر الرحاب) تولّاها رشيد مطلك، صديق الزعيم عبد الكريم قاسم، والذي كان وسيطًا بينه والضباط الأحرار، وبين الحركة الوطنية العراقية، بما فيها الحزب الشيوعي، حيث كان يتّصل بعامر عبد الله، وتحوّل المكان بعد 8 شباط / فبراير 1963 إلى “قصر النهاية”.

            كان المشرف على قصر النهاية مدحت ابراهيم جمعة، أما المسؤول عن مكتب التحقيق الخاص فكان محسن الشيخ راضي يعاونه هاني الفكيكي، وتشكّل هذا المكتب كما عرفت من الصديق القيادي البعثي عبد الستار الدوري، إثر شكاوى كثيرة على مدحت ابراهيم جمعة، لكن الأمور استمرّت في غاية السوء، فقد كان المشهد السائد هو الثأر والإنتقام، خصوصًا بتفشّي ثقافة الكراهية والإقصاء والإلغاء وتحطيم الآخر.

            حين ذهب تحسين إلى قصر النهاية وجد العديد من قيادات الحزب الشيوعي، في مقدّمتهم سلام عادل (الأمين العام) وعدد من أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية والكوادر المتقدّمة، وهم جميعهم تعرّضوا إلى تعذيب بشع.

            يقول تحسين معلّة: وجدت سلام عادل (حسين أحمد الرضي) نائمًا وسط القاعة طاويًا نفسه على الأرض معصوب العينين ومدمّى (وقد لملم بعضه على بعضه)، وعبد الرحيم شريف العاني بنفس الحالة وكذلك حسن عوينة الذي كان صديقه وابن صفّه ومدينته وعبد القادر اسماعيل وحمدي أيوب وآخرين لا يتذكّرهم كما قال لي، وكان الجميع بحالة يرثى لها وينامون بشكل مباشر على أرضية السرداب، كما يذكر في أوراقه التي أعدّها للنشر سيف الدوري.

درس وعبرة

يقول معلّه أنه شعر بالخجل والضآلة، وقد تحاشى الحديث مع حسن عوينة زميله وابن مدينته في الصف الدراسي بثانوية النجف، بل والنظر إليه، ولم يستطع مواصلة الحديث مع عبد الرحيم شريف لأنه عديل عبود معلّة، وعبّر عن شعوره بأنه لم يكن يتمنى رؤية هذا المشهد أو حضور هذه الاستباحة الجماعية للكرامة الإنسانية، حيث اهتزّت كلّ القيم المبدئية التي آمن بها، فما قيمة المبادئ حين يكون الطريق لتحقيقها عبر وسائل دنيئة، وكما أخبرني بأن ثمّة كوابيس كانت تزوره وتكدّر عليه نومه، وظلّت تطلّ عليه بين الفينة والأخرى.

حاول تضميد جراح المعذّبين في الردهات المختلفة وكتب أدوية لبعضهم واستمرّ في زيارتهم لمدّة أسبوع كامل. وحسبما قال لي كان تتنازعه فكرتان أولّهما أنه يقوم بواجبه كطبيب، وثانيهما كيف ينظر إلى المعتقلين؟ ثم كيف كانوا ينظرون له؟ وعلى الرغم من الجانب الإنساني والتعامل الطيّب وتقديم الرعاية، إلّا أن عيون المعتقلين كانت تنظر إليه بريبة، وتعتبره منهم وأنه مسؤول أيضًا، حتى وإن شكره عبد القادر اسماعيل وحمدي أيوب أثناء إجبارهما على الظهور في ندوة تلفزيونية.يقول معلّة “كانوا جميعهم قد تعرّضوا إلى تعذيب وحشي للغاية، كان رأس أحدهم مضروبًا وقد غطّته الدماء فأعطيته الأدوية، وآخر مجروحًا فقمت بتضميد جراحه ومنهم من يعاني آلام في المعدة، فوصفت له الأدوية الضرورية…”.

ويتذكّر بألم شديد وحزن كبير تلك الأيام العصيبة التي لا يريد أن ينساها، وردّد على مسامعي أكثر من مرّة قوله في لوم نفسه: لماذا لم أترك كلّ شيء وأتّجه إلى الطب فقط، على الرغم من أن السياسة والمبادئ التي آمنّا بها كما يقول لا تتّفق مع ما قام به الحرس القومي، ولات ساعة مندم، وذلك حين التقى د. محمد الجلبي زوج بثينة شريف التي سبق لي أن رويت معاناتها ومأساتها في مقالة بعنوان ” بثينة شريف: سلاماً للروح الحيّة” والتي نشرت في صحيفة الزمان العراقية في 14 تشرين الثاني / نوفمبر 2018? وكان قد عاد لتوّه من شهر العسل في البصرة وهو أحد قيادي الحزب ومسؤولًا عن ماليته، وكان قد تعرّض لتعذيب رهيب وهو جالس على الأرض ويداه معقوفتان وجروح تنزف منه من الأعلى والاسفل فقال لي: دكتور افحصني لأنني بحاجة إلى غذاء، يجيبه تحسين أنه طبيب وليست لديه مسؤولية في التحقيق، وقضية الطعام من صلاحية المحقّقين وليست من صلاحية عملي، فأجابه الجلبي: عفوًا، وقد أعاد وسرد ذلك في مذكّراته المشار إليها، ولعلّ هذه الحادثة كانت الأكثر ألمًا لديه كما يروي كيف جلبوا هاشم جواد وزير الخارجية الأسبق ووجد وجبة عشاءه، خبز وتمر.

أما الحادثة التي أفقدته رشده كما يقول: كنت عند مدحت ابراهيم جمعة وجيء برفيق منكم اسمه كوركيس وأمر جمعة الحرس بأخذه ولا أعرف إلى أين؟  ثمّ سمعت صراخًا وتوجّعًا بصوت عالٍ فذهبت إلى الغرفة المجاورة ووجدته معلّقًا من يديه بمروحة السقف الهوائية وهم يتناوبون على ضربه دون توقّف وكانت الدماء تنزف من جسمه كالشلال.

يقول تحسين “أصبت بصدمة أفقدتني رشدي واختصمت مع مدحت وتركت المكان بلا عودة وأنا مصاب بالدوار، ولا أتذكّر كيف تمكّنت من الوصول إلى المنزل”. ويستمر تحسين في سرديّته: بعد أن يقرّ بأن عبد الرحيم شريف ومن عالجهم كانوا في غاية الصلابة ومنهم محمد الجلبي، وقد شاهد خلال وجوده حالات تعذيب نادرة وضرب مبرح للمعتقلين وإهانات وإساءات، فقرّر ألّا يعود إلى قصر النهاية، وظلّ الأسبوع الذي قضاه في زيارة المعتقلين “في ذاكرته لا يبرحها”.

وحين يتذكّر قصر النهاية يطلق عليه “المسلخ البشري”، وقلت له في أحد المرّات نحن كنّا من أطلقنا هذه التسمية، فقال وهو بحق مسلخ بشري.

لمن المُشتكى؟

وقد اشتكى ذلك إلى عفلق، بما فيها الأوضاع العامة التي أخذت تزداد سوءًا، لكن عفلق طمأنه بأنها ستتعدّل، وكان هو يعرف ما يجري وبدأ يفقد ثقته بأن الانهيار قادم لا محال، ولم يكن يرغب أن يتورّط في ذلك.

يقول تحسين “قلت لعفلق الذي التقيته مرّة أخرى في أيلول / سبتمبر 1963 في فندق الإمباسادور في بغداد، وكان قد ذهب إليه برفقة محمد محجوب الذي كان يشاطره الرأي بأن الحزب انتهى إلى غير ما دعا إليه وتلك كارثة كبرى، وهنا خاطب عفلق بقوله “إن نوري السعيد حكم العراق أربعين عامًا، ولكنه لم يوصل البلاد إلى المستوى السيء الذي أوصلوه إليه جماعتنا خلال شهرين، وأن هؤلاء لن يطول بهم الأمد في الحكم، وأفضل شيء تفعله هو أن تأخذهم معك إلى سوريا وتجعلهم وزراء أو ملائكة أو أنبياء عندك، لتنقذ العراقيين منهم”.

 وكان جواب عفلق: لنرى.. لنرى، و وبالمناسبة فعفلق هو دائمًا قليل الكلام ولا يعطي رأيًا، وإذا اضطّر إلى ذلك فلا يقول شيئًا يُذكر. وكان رأي تحسين أن القيادة القومية وإن لم تكن راضية على سلوك القيادة القطرية والقسوة التي استخدمتها وانتهاك القوانين واعتقال عشرات الآلاف وتعذيبهم، إلّا أنها لم تحرّك ساكنًا، وهي والحالة هذه مسؤولة أيضًا.

وقد نقل لي الصديق صلاح عمر العلي (1991الذي كان عضوًا في القيادة القطرية ومجلس قيادة الثورة ووزير الإعلام والثقافة، وفيما بعد ممثل العراق في الأمم المتحدة، أنه ذهب إلى عفلق في باريس أواخر الثمانينيات وطلب منه باسم مجموعة من البعثيين العراقيين والعرب أن لا يذهب إلى بغداد، لأن وجوده فيها سيكون تزكية لصدّام حسين شخصيًا، خصوصًا وأنه ازداد ارتكابًا ودمويّةً، لاسيّما بعد مجزرة “قاعة الخلد” بحق رفاقه، ثم جاءت الكارثة الكبرى،  “الحرب العراقية – الإيرانية”، التي راح ضحيّتها مئات الألوف من العراقيين، وقد وعده بذلك على أن يذهب لمرّة واحدة ولا يبقى هناك، ولكن بعد شهرين ألقى عفلق خطابًا في بغداد كان أقرب إلى “الصاعقة التي وقعت على رؤوسنا” حين قال “صدام حسين هبة السماء إلى البعث، وهبة البعث إلى الأمة العربية”، كما ذكر العلي (انتهى الاقتباس).

ولعلّ قبول عفلق بمنصب الأمين العام الشكلي ودون صلاحيات، ومبالغته في تمجيد صدام حسين الذي سبق له أن عيّنه في القيادة القطرية  1964وصمته تجاه حكاية المؤامرة التي أُعدم فيها عبد الخالق السامرائي وخمسة من أعضاء القيادة وعدد من الكوادر، وحُكم على قياديين آخرين وكوادر متقدّمة بأحكام غليظة، كانت خطيئته الكبرى، علمًا بأنه أسّس حزبًا على مقاساته وتطلّعات زمنه، واستلم هذا الحزب السلطة في بلديين عربيين، وأصبح مشروعًا قوميًا عربيًا كبيرًا، لكن ذلك لا يمنع من أنه ظلّ أسيرًا طيلة نحو عقدين من الزمن، حتى وإن بقيَ حالمًا ورومانسيًا، وتلك هي صفاته لبعض من عرفه عن قرب، وإن ظلّ البعض الآخر يبرّر له تلك الأخطاء أو الخطايا، ويعتبرها من مفردات تلك المرحلة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com