مقالات

ج1/عن رحيل مظفر النواب ونباشي القبور الجدد!

بيدر ميديا.."

ج1/عن رحيل مظفر النواب ونباشي القبور الجدد!

علاء اللامي*

 مع فيديو يتحدث فيه مظفر عن أول لقاء له بهادي العلوي بعد رحيله/ الصورة من الفيديو. لم يكن النَّيل من الشعراء وعموم المبدعين والثوار وثلم سيرهم وخصوصياتهم بعد موتهم شيئا نادرا في التاريخ، بل ربما كان هذا الفعل المقيت ختماً ملازماً لسِيَرهم العطرة والباسلة يعطيها بعض الألق والتميُّز، وهناك الكثير من الأمثلة على هذا النوع من الهجاء الأقرب الى نبش قبور الموتى، ولكنه ظل فعلا نادرا وممجوجا تأباه النفس الراقية السمحاء حتى بدأ الانتشار الإعلامي التواصلي “السوشيال ميديا” على نطاق واسع النطاق في السنوات الأخيرة، فتحولت النميمة إلى نوع من الثقافة العامة، والافتراء إلى رياضة ذهنية للعاطلين عن الإبداع والمروءة.

لقد أمست الحملات البغيضة التي يشنها البعض على مواقع التواصل ضد الشهداء والراحلين فعلا مكررا وذا زخم ملحوظ منذ فترة، ولكنها ربما لم تلفت الانتباه عراقيا إلا بعد وفاة الشاعر سعدي يوسف، حيث شُنَّت ضده حملة مسعورة متعددة الأطراف والبواعث؛ فمنهم من حاول أن يثأر لمرجعه السياسي أو الديني أو الثقافي الذي انتقده يوسف ذات نص بحدة، وأحياناً بشكل غير مبرر ومستفِز، وكنت ممن عاتبوه وانتقدوه على بعض نصوصه الهجائية وهو على قيد الحياة، ولكن، حين رحل عن عالمنا، وشُنت ضده تلك الحملة، بادرت إلى أداء واجب تكريمه والدفاع عنه وإبراز منجزه الإبداعي، ضد نباشي قبره ومشوهي سمعته.

الطريف والدال هو أن البعض ممن هاجموا مظفر النواب اليوم آخذوه لأنه ظهر في صورة مع هذا النكرة أو ذاك الفاسد الحكومي لنظام المحاصصة – وبعض هؤلاء كان نكرة لا يعرفه أحد، أو يحتضنه مسؤول آخر ويوسعه قُبلا وابتسامات بلهاء،  ومظفر نفسه، المعروف بخجله الشديد، كان منهكا وعليلا حينها فلم يطل بقاؤه في العراق إلا بضعة أيام فرَّ بعدها إلى بيت قريب له في دولة خليجية وعاش فيه بقية سنواته في عزلة تامة فلم يظهر بعدها في أية مناسبة عامة – أو انتقدوه على صمته وعدم إدلائه برأي أو موقف من أحداث العراق والعالم في العقود الأخيرة، وبعض هؤلاء هم أنفسهم الذين لم يرحموا سعدي حين تكلم وقال رأيه ولم يسلم من ألسنتهم هادي العلوي وهو المعادل النثري لسعدي ومظفر فوصفوه بالمجنون والهستيري و”النبي الأبله” حاشاه عن ذلك! فماذا يريد هؤلاء بالضبط، أن يسكت المبدعون الثوريون أم يتكلموا، أم أنهم يجب أن يتكلموا بما يرغبون هم به لا المبدعين المتكلمين، أليس هذا هو بالضبط ما تطالب به أنظمة القهر والقمع والتبعية والتخلف العربية؟

لقد كانت بداية تحول هذه الممارسة الفظة إلى ظاهرة بعد وفاة سعدي ثم تحولت إلى حملة واسعة النطاق بعد استشهاد شيرين أبو عاقلة قبل وفاة النواب بأيام قليلة، والتي شارك فيها التكفيريون وعملاء الكيان الصهيوني الصرحاء والمبرقعون جنبا إلى جنب العدميين والليبراليين واليساريين القشريين، ثم جاء رحيل مظفر النواب لتتحول هذه الممارسة الضبعية التي يمكن تشبيهها بعمليات نبش القبور ونهش الجثث وتدنيس القبور إلى ظاهرة، ربما ستتسع مستقبلا مع رحيل آخرين!

ولكنني، من جهة أخرى، أعتقد شخصيا أن الموت لا يزكي أو يطهر أحدا من الميتين السيئين، وكنتُ وما أزال من المقتنعين بوصية الروائي الجزائري الطاهر وطار التي مفادها “من حقنا أن نبصق على أعدائنا وجلادينا ومن يخونون قضايانا سواء كانوا أحياء أو على قبورهم إذا كانوا موتى! ولكني – مع ذلك – لم أفعلها حتى مع أعتى الجلادين ربما لخصوصيات تتعلق بشخصيتي وبتربيتي، ولكني أعطي الحق لمن التزم بوصية وطار وطبقها! غير أن الأمر يختلف مع الراحلين الرموز من شعراء وقادة ثوريين وإعلاميين وغيرهم ممن سفكت دماؤهم برصاص العدو، أو ماتوا بسبب المرض والتقدم في السن، وسواء كانوا عرباً أو من غير العرب كالشاعر القتيل غاريثيا لوركا، وينبغي رفع الصوت دفاعاً عنهم لأنه في النهاية دفاع عما هو جميل وثوري ومهيب ونظيف في تاريخنا الشخصي والعام.

إن كلامي هنا لا علاقة له بالحق المشروع في الكتابة النقدية والتاريخية عن أدباء وساسة ومفكرين موتى أيا كانوا، وأفرِّقُ بدقة بين هذا النوع من الكتابة المطلوبة والمفيدة مهما كانت تفاصيلها كاشفة وحادة فهي تنطوي بشكل ما على تكريم للراحلين وإحياء لذكراهم، وبين تسقط عثرات المبدعين وترديد الافتراءات والأكاذيب الرخيصة بعد موتهم، وأحيانا في يوم تشييعهم ودفنهم دون أدنى احترام لجلال الموت وحرمة الموتى!

*سأتوقف اليوم عند فعلة بعض هؤلاء إثر وفاة مظفر – أستعمل الاسم الأول لمن أحبهم على طريقة الكوبيين حين يذكرون رموزهم فلا يقولون جيفارا مثلا بل “تشي”! – فأقول وباختصار:

ترى، هل سأل أحد نفسه متى سمع آخر قصيدة للنواب؟ هل كتب النواب شيئاً جديدا منذ عقدين وأكثر، أو بعد أن صدرت الطبعة الأولى من أعماله الكاملة سنة 1996؟ وحتى حين كان النواب شاغل الناس ومالئ الدنيا، فهل كان يدلي بتصريحات سياسية أو يصدر أو يشارك في إصدار بيانات سياسية أو مقالات ونصوص شبه يومية كرفيقيه الراحلين هادي وسعدي؟ ألم يكن السبب المباشر لتذكر النواب اليوم هو موته، موته الذي كان آخر قصيدة قدمها فتذكَّره الناس وعلم به حتى من لم يكن يعرف بوجوده من أبناء الجيل العراقي الحالي والذي تظاهر المئات منه ضد حكام الفساد والطائفية والتبعية الذين هرعوا لحمل جنازته وتلميع سوادهم ببعض نوره وألقه فرجموهم بالحجارة والأحذية مرددين ” مظفر للشعب مو لحرامية”!؟

*التقيتُ مرة واحدة في حياتي بمظفر؛ كنت يومها في قاعة الترانزيت في مطار قرطاج بتونس رفقة زوجتي وابني سومر، وكان سومر طفلا صغيرا دون الخامسة، وأظنها كانت في سنة 1987 أو 1988. كنا نجلس بانتظار طائرتنا التي تأخرت عن موعدها، ومرَّ قربنا ثلاثة رجال. نظرت إليهم ثم همست لزوجتي “كم يشبه هذا الرجل مظفر النواب”؛ فتوقف مظفر ونظر إلينا ثم سلم علينا قائلا “وصلتَ! أنا هو مظفر”. استأذن ممن كانا معه، وجلس إلى طاولتنا لأقل من ساعة، استحوذ على أغلبها سومر وأسئلته الطفولية التي انشغل بها مظفر بتواضعه الجم وروحه الحلوة. سألته قبل أن يغادر إلى طائرته، وكان متوجها الى سوريا على ما أتذكر، “لماذا لا نسمع صوتك يا أبو عادل منذ زمن؟” فرد عليَّ بجملة ترن الآن في أذني: أنا أحاول دائما، ولكن صوتي ما يطلع … يمكن خلص الكلام”! وابتسم بحزن وغاب.

بعد سنوات من لقاء المصادفة هذا، وخلال تعاوني مع الراحل العزيز هادي العلوي بعد عودته من الصين الى سوريا، وتشكيلنا لجمعية بغداد المشاعية لمساعدة الأرامل والأيتام العراقيين، ولجنة إنقاذ الرافدين “اللتين لم يبلغ عدد أعضائهما الفاعلين أصابع اليدين بلا حسد!”، اشتكى هادي ذات رسالة من أن (جماعتنا المثقفين اليساريين وحتى الحزبيين اليساريين “الرسميين” منهم في الشام) لا يتعاونون معه في نشاطات لجنة الرافدين، بل أن بعضهم يعرقل محاولاته ويتفاداه ويغير طريقه إن تصادف ورآه في الطريق! وذكر بعض الأسماء ومنهم شاعر شعبي معروف وعده بكتابة أغنية عن الرافدين المهددين بالسدود التركية، وملحن عراقي وعده بتلحينها ولكنهما خذلاه وكذبا عليه ولم يفعلا شيئا. يومها سألته عن مظفر فقال إنه قليل الكلام والفعل وهو متعب صحياً فهو مجروح بعمق من الهزائم والكوارث التي حدثت. فرجوته أن ينقل إليه تحياتي ويذكِّره بلقائي به في مطار تونس، وفعل هادي ما رجوته أن يفعل، وأخبرني لاحقاً أن مظفر تذكرني وتذكَّر لقائه بنا، وأنه يبلغني وعائلتي السلام، وما يزال ينتظر أن أفي بوعدي وأزور دمشق…إلخ. ولم أفِ بوعدي للأسف، فحين قررت فعلا السفر واتفقت مع هادي على ذلك وحددنا موعدا، ولكنه -هادي – رحل عنا فجأة ودون سابق إنذار قبل أشهر قليلة من موعد لقائنا سنة 1998!  

يتبع في الجزء الثاني وفيه سأناقش بعض ما قاله قبل يومين أحد أصدقاء مظفر المقربين وهو روائي سوري كتب رواية جعل مظفرا أحد أبطالها وكان متابعا لوضعه الصحي من سنة 2005 وحتى أيامه الأخيرة.

*رابط فيديو يتحدث فيه مظفر عن هادي العلوي بعد رحيله عن أول لقاء له به:

https://www.facebook.com/%D9%87%D8%A7%D8%AF%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%8A-%D8%AD%D9%84%D8%A7%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D9%86-151148728268223/videos/692897421578313/

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com