منوعات

مؤاخذات على السرديات البنيوية.

بيدر ميديا.."

مؤاخذات على السرديات البنيوية

نادية هناوي

 

يعد عام 1990 عام التطوير النقدي في اتجاه بلورة (علم السرد) الذي بدأ بالظهور على يد مجموعة منظرين أنكلوأمريكيين استوعبوا عددا من الأفكار حول نظريات السرد، واستعادوا فيها بعض أفكار الرومانسيين، ولاسيما عالمية الأدب عند غوته. ويقف ديفيد هيرمان في مقدمة هؤلاء المنظرين؛ فاستعاد أفكار هنري جيمس وأفرد له مكاناً خاصاً في دراسته الجينالوجية (تواريخ النظرية السردية) ضمن كتاب (دليل النظرية السردية A companion to narrative theory) 2005، لكن اهتمام هيرمان كان مضاعفاً بناقدين أمريكيين آخرين يعدان مرجعين مهمين من مراجع مدرسة شيكاغو النقدية هما، رينيه ويليك وأوستن وارين.
ويأتي تأثر ديفيد هيرمان بهما من ناحية المنهجية التي اتبعاها في كتابهما (نظرية الأدب) الصادر في طبعته الأولى عام 1948 ووصفه هيرمان بأنه (أهم مطبوع عرفته أمريكا الشمالية في القرن العشرين، وأن ذروة النقد الجديد تشكلت بؤرتها الأدبية أنكلوأمريكيا في هذا الكتاب، أولا في اتجاهه إلى وضع نظرية في النقد قائمة على الطبيعة الأدبية، وثانيا في بحثه عن التخييل السردي من خلال منهج خارجي في دراسة الأدب، له صلة بالتخصصات المختلفة مثل التاريخ والاجتماع والفلسفة، وهو ما تتجنبه الدراسة الداخلية للأدب التي كانت للأبحاث البنيوية مساهمة مهمة فيها).
واهتم هيرمان بشكل خاص بالفصل الذي كتبه أوستن وارين والمعنون (Fiction of narrative المتخيل السردي) ولم يركز وارين في هذا الفصل على ما كان سائدا في الأبحاث النقدية أبان الحرب العالمية الثانية أي البحث في فاعلية النص، بل سعى إلى تمثل الطروحات المنهجية الألمانية والتشيكية والروسية السابقة، ليبين أن هناك انقطاعاً بين هذه الطروحات وما تشكل من أبحاث حديثة حول السرد من لدن النقاد الجدد الأرسطيين. ووجد هيرمان في ما كتبه وارين بادرة مهمة ونقطة دخول فاعلة إلى جينالوجية نظرية السرد وشبكتها المعقدة، بغية رصد ما كانت فيه وما هي عليه وقت كتابته للدراسة موضوع الرصد. وغاية هيرمان من تقديم اللمحة أعلاه هي تأكيد الأدوار النقدية المبكرة التي بها ساهمت مدرسة شيكاغو في بلورة نظرية سردية تختلف عن النظرية البنيوية، التي تجلى تطورها واضحا داخل فرنسا بدءا من ستينيات القرن العشرين، وما نراه هو أن هذه النظرية ـ المتبلورة أمريكياً ـ لم تؤسس لجديد بقدر ما طورت ما هو معتاد. وأول محطة يؤشر إليها هيرمان في هذا التطوير تتمثل في جينالوجيا التحول من نظرية الأدب إلى نظرية السرد، محددا ما في دراسة أوستن وارين من بؤر يمكن من خلالها التفريق بين القصة والخطاب. فالقصة القصيرة والرواية، هما بمثابة نوع فرعي من الخطاب السردي، ومنه السرد الاجتماعي للشخصية، ومصادقة المؤلف والسارد داخل الخطاب واستراتيجيات الوعي الذاتي. ولقد كشف هيرمان من خلال منهجه في دراسة الحالة عن الحاجة الماسة إلى مشاركة (المؤلف) في مقاربات النظرية السردية. وإن سد هذه الحاجة هو لوحده كاف كي نتلافى نقائص علم السرد الفرنسي، لكن الأمر ليس بهذه البساطة.

ولم تعد منظورات المدرسة الأنكلوأمريكية للتخييل السردي أو السرد الخيالي تتوافق مع منظورات علم السرد البنيوي. لينشأ علم للسرد عام 1998 يختلف من ناحية التعدد والتوازي والتداخل عن سابقه.

ولأن تلك البؤر تفتح أمام الباحثين مجالات واسعة للنقاش والاختلاف، قدّم هيرمان شكره الجزيل لويليك لما وضعه في كتاب (نظرية الأدب) من خلفية تاريخية إنكليزية وأدبية عن مدرسة براغ اللغوية وتطور السرد البنيوي الذي استمد أفكاره من منظرين أوربيين وسلافيين وروس مثل فلاديمير بروب وفكتور شكلوفسكي، وكيف ساهم تفاعل النقاد الأنكلوأمريكيين، أو النقاد الجدد مع المدرسة الشكلية الروسية للأدب في أن يكون لهم دور تنسيقي في تطوير الأفكار الشكلية ثم الاستقلال عنها.
وبعملية مسح تاريخية لجينولوجية مسارات دراسة السرد، وجد ديفيد هيرمان أن رولان بارت طور في كتابه (مقدمة في التحليل البنيوي للسرديات) أفكار بوريس توماسشفسكي حول الموتيفات والمحفزات. وأعاد سيمور تشاتمان تسميتها بـkernels أي العناصر الأساسية والثانوية لمحتوى القصة التي تتميز بالسؤال: ماذا وكيف؟ وبناء على ما حدده بروب من وظائف، ميّز دولزيل بين المكونات المتغيرة والثابتة للبنى السردية عالية المستوى. ورصد هيرمان التطور اللاحق الذي حصل في طروحات رولان بارت ما بين الأعوام 1966ـ1977. وبسببها انتقل بارت بالنهج البنيوي من التعبير الأدبي، إلى التعبير الثقافي الكامن في الإعلانات والصور والمعروضات والمباريات، وغيرها من الممارسات التي تحكمها قواعد أو دلالات معينة في حد ذاتها. وبهذه الممارسات تأثر كلود بريموند وجيرار جينيت، وغيرهما من الذين سعوا الى تفسير نصوص قصصية معينة على أنها رسائل سردية فردية يدعمها نظام سيميائي مشترك.
ومما أكده هيرمان أن قصور علم السرد البنيوي كشف عنه بارت عام 1977 بشكل غير مقصود حين وسّع حدود السرد البنيوي في مقولته (السرد جملة طويلة) فأي جملة ثابتة في سياق خارج سردي هي سردية، لأن كل شيء يمكنه أن يكون سردا؛ فالسرد موجود في كل شيء، وبذلك صار نطاق النظرية السردية هجينا بشكل يتناسب والفئات اللفظية الرئيسية وهي: الأزمنة والأمزجة والنواحي والفردية.
وعلى الرغم من اختلاف علماء السرد مع بارت في أن جميع الفئات اللفظية متعلقة بالقواعد النحوية على مستوى الجملة، ويمكن رفعها إلى مستوى الخطاب بالوصف أو التفسير للآلية النحوية المضمنة فيها، فإن تنظيرات تودوروف في كتابه (الديكاميرون) 1969 أكدت ـ كما يرى هيرمان ـ أن استعارة فئات من القواعد النحوية كأسماء وأفعال وأوصاف وأصوات ليست هي وحدها التي تحدد العلاقات في العالم السردي. وبهذه الملاحظات يكون قصور علم السرد البنيوي قد تكشف في موضوعاته ومناهج أبحاثه، وصار من ثم هدفا لمشروع سردي جديد، بدأت بوادره تلوح في الأفق مع كتاب جوناثان كولر (علم اللغة ليس هيرمونيطيقا) 1975، وفيه بين أن التحليل اللغوي يسعى إلى تقديم تفسيرات لأقوال معينة، لكن على حساب حالات مختلفة من الإنتاج والتقعيد النحوي، وجادل علماء السرد في أن التحليل البنيوي للسرد ينظر إلى التداخل في التفسير كتصنيف ووصف، دون أن ينظر الى الكلية التي بها يعمل النظام، آخذا على البنيويين التزامهم بتمييز رومان ياكبسون بين الأدبية والنقد الأدبي في فهم شيفرات السرد من خلال قراءة النص وجمع إشاراته اللفظية.
ووفقا لهذه المنهجية النقدية التي تقترح أرضية غير أرضية الشكلانيين والبنيويين، توسعت النظرية السردية واتجهت إلى التعامل مع تخصصات أخرى والتداخل معها، ما سمح بتطوير سياقات هذه النظرية. ولم تعد منظورات المدرسة الأنكلوأمريكية للتخييل السردي أو السرد الخيالي تتوافق مع منظورات علم السرد البنيوي. لينشأ علم للسرد عام 1998 يختلف من ناحية التعدد والتوازي والتداخل عن سابقه. ورسم هيرمان خريطته كاشفا عن الفارق بين تطوير الشكلانيين وتطوير النقاد الجدد ولاسيما رينيه ويليك وأوستن وارين. فلا منهج تفسيري أو مدرسي في السرد، وإنما هي حقول ذات صلات تتطور وتتداخل، وقد جُمعت تلك الاشتغالات والاهتمامات في موسوعة هي الأولى من نوعها في نظرية السرد، وأطلق عليها» موسوعة روتلدج».

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com