مقالات

المؤرخ و الكاتب الروسي ( كارامزين )

ولد ( كارامزين ) بالامبراطورية الروسية في القرن الثامن عشر ( 1766) وتوفي هناك ايضا في القرن التاسع عشر ( 1826) , اي انه ابن قرنين بعيدين جدا عن زماننا الحالي بالنسبة لتاريخ روسيا , ولكنه مع ذلك لا يزال حيا لحد الان في ربوع الفكر الروسي , وذلك لانه وضع بصماته الابداعية المتميٌزة  في مسيرة هذا الفكر في مجالات التاريخ و السرد و الشعر و الصحافة و الترجمة الادبية , لدرجة ان غيرتسن ( انظر مقالتنا بعنوان – غيرتسنالاديب والصحفي الروسي المهاجر ) أشار اليه في كتابه بعنوان  ( عن تطور الافكار الثورية في روسيا ) قائلاً . . ( ان اهمية كارامزين  في الفكر الروسي مثل اهمية يكاترينا في تاريخ روسيا . . ).

تباينت الآراء بشأن الصفة الاولى والاساسية  لكارامزين في مسيرة روسيا الفكرية , فمنهم من يؤكد اولا على مكانته المتميزة في تدوينالتاريخ الروسي  , لانه مؤلف كتاب ( تاريخ الدولة الروسية ب 12 جزءا ) , والذي لا زال يعد و لحد الان مصدرا اساسيا و مهما جدا في تاريخ روسيا ( تفرغ كارامزين لهذا الكتاب على مدى ال( 23) سنة الاخيرة من حياته باكملها  , منذ عام 1803 الى وفاته في عام 1826) .

و كارامزين هو الكاتب الوحيد في تاريخ روسيا القيصرية الذي منحه القيصر الروسي الكساندر الاول  في حينه مهمة  محددة لكتابة وتدوين التاريخ  واطلق عليها تسمية دقيقة وهي بالروسية كلمة واحدة فقط ( ايستوريوغراف) ويمكن ترجمتها الى العربية كما يأتي (متخصص في تدوين التاريخ) او ( مدوٌن التاريخ) او ( المؤرخ  المدوٌن) و ( جاءت في بعض المصادر العربية ترجمة طويلة جدا لهذه التسمية وكما يأتي . . باحث متخصص في دراسة الوثائق التاريخية من أجل تدوين وقائع التاريخ الروسي , وهي ترجمة توضيحية وتفصيلية بلا شكل طبيعة العمل المرتبط بهذه الوظيفة)  .

و أمر القيصر ايضا بمنحه راتبا عاليا طيلة فترة عمله في هذه الوظيفة وتنفيذه  لمهماتها , وان تقوم الدولة بطبع مؤلفاته تلك , (وما أعظم هذا العطاء , وكم نحتاج الى مثل هذه الخطوات النبيلة في حياتنا ولحد الآن !! ) , لقد أصدر كارامزين عام 1818 رأسا ثمانية اجزاء من كتابه المشار اليه اعلاه هذا , اي ( تاريخ الدولة الروسية ) , وتم بيع  ثلاثة الاف نسخة منه خلال أقل من شهر واحد فقط , وهو حدث كبير ومتميٌز في تاريخ الكتاب الروسي لم  يحصل  سابقا في روسيا آنذاك , وأصدر ثلاثة أجزاء اخرى من ذلك الكتاب بعد سنة واحدة فقط , وقد تم بيعها ايضا وبنفس السرعة , بل وتم ترجمتها الى عدة لغات اوربية كذلك .

ثم صدر الجزء الثاني عشر والاخير من هذا الكتاب بعد وفاته . لقد كتب بوشكين عن هذا الجهد العلمي الكبير قائلا , ان كارامزين ( اكتشف تاريخ روسيا القديم مثلما اكتشف كولومبوس أمريكا ) , وكان بوشكين محقا بكلمته العميقة والدقيقة تلك , لان كارامزين استخدم  فعلا المخطوطات الروسية القديمة والوقائع الروسية القديمة ايضا , والتي لم تكن معروفة ابدا للقارئ الروسي الاعتيادي , بل كانت حتى شبه مجهولة لبقية المؤرخين الروس , وأعاد لها الحياة والحيوية من جديد .

ولقد تلاقف القراء الروس آنذاك كتاب كارامزين هذا ايضا لان المؤرخ صاغ كتابه بلغة روسية جميلة و بسيطة و سلسلة لا تشبه لغة البحوث العلمية الجافة , وهو ما يميٌز هذا الكتاب عن الكتب التاريخية الاخرى .

ولكل هذه الاسباب يرى الباحثون الروس ( وليس الروس فقط) ان الميزة الاولى والاساسية لكارامزين هي صفة  ( المؤرخ) , ومن المؤكد انهم على حق فعلا , لكن توجد آراء مغايرة لذلك .

اذ يرى البعض من الباحثين , ان اهمية كارامزين  تكمن قبل كل شيء في رواياته ونثره بشكل عام , وذلك لانه وضع هناك اسس الاتجاه الادبي الجديد في روسيا آنذاك وهو ( السنتمنتالية ) اي  العاطفية ان صح التعبير ( يستخدم بعض الباحثين مصطلح ما قبل الرومانسية في تاريخ الادب الروسي  وهو مصطلح غير دقيق من وجهة نظرنا) , بعد ان كانت سائدة في الادب الروسي الكتابات التي تمجد الدولة وعظمتها وسيطرتها وجبروتها , وهي الكتابات التي كانت تنطلق من الاتجاه الادبي المعروف آنذاك والذي يطلق عليه الباحثون تسمية (الكلا سيتزيم) , هذا الاتجاه الذي كانت تحتاجه الدولة وهي في طور البناء والنهوض .

اما الاتجاه السنتمنتالي فقد كان يركز على الفرد ومعاناته الحياتية البسيطة بغض النظر عن الدولة ومسيرتها , وهو الذي انعكس في رواية كارامزين القصيرة ( ليزا المسكينة ) و ( تاتي في بعض الترجمات العربية هكذا ليزا البائسة , ونظن ان التسمية الاولى هي الاصح ) التي نشرها الكاتب عام 1792 في مجلته ( موسكوفسكي جورنال) ( المجلة الموسكوفية), ثم أصدرها عام 1796 في كتاب  , وتعد رمزا لمرحلة حاسمة ومتميٌزة في تاريخ الادب الروسي ومسيرته.

تتناول هذه الرواية القصيرة قصة حياة ليزا الفلاحة اليتيمة الاب , والتي كانت تعيش مع والدتها معتمدة على عملها المتواضع البسيط  من الاعمال الفلاحية اليدوية, ثم تتعرف على شاب من طبقة النبلاء اثناء بيعها للزهور, وتتطور العلاقة بينهما , ولكنه يتركها في نهاية قصة حبهما , وتكتشف ليزا انه ارتبط بامرأة اخرى, وهكذا تقرر انهاء حياتها وترمي بنفسها في البركة منتحرة  . مضمون الرواية القصيرة هذه كما هو واضح بسيط جدا وهو مقتبس عموما من اجواء الاداب الاوربية التي كان كارمزين يعرفها حق المعرفة, ولكنه يصوره في اطار الطبيعة الروسية البحتة , حيث يتعرف القارئ على اجواء موسكو وضواحيها لدرجة ان القراء في ما بعد اطلقوا اسم ليزا على بركة الماء التي انتحرت فيها.لقد انعكست هذه الرواية على مجمل مسيرة الادب الروسي , واعتبرها النقد الادبي ( كلمة جديدة ) , وهناك لوحة مشهورة رسمها فنان تشكيلي عام 1827 تحمل اسم  ليزا المسكينة , ويرى بعض النقاد انها انعكست حتى على بعض نتاجات بوشكين النثرية , وتحولت هذه الرواية القصيرة الى مسرحية غنائية , والى ثلاثة افلام سينمائية وتلفزيونية في نهاية القرن العشرين كان آخرها عام 1998 , بل ان اذاعة موسكو العربية قدمتها  ضمن المسرح الاذاعي .

وعدا ذلك , يوجد باحثون يشيدون باهمية شعر كارامزين , و الذي جاء بلغة روسية صافية وبسيطة, وعكس فيه مفردات جديدة بكل معنى الكلمةصاغها بنفسه في اللغة الروسية ومهد الطريق بذلك لبوشكين وغيره من الادباء الروس الكبار في ما بعد , ومنهم من يشير الى مساهماته المهمة في مجال الصحافة الادبية التي ساهمبوضع اسسها في روسيا , اذ ترتبط باسمه صحيفة ثقافية للاطفال ومجلتين ادبيتين واجتماعيتين لعبتا دورا بارزا في تاريخ الصحافة بروسيا . ويوجد كذلك من يتحدث عن دور كارامزين البارز في عالم الترجمة الادبية , اذ انه  واحد من اوائل المترجمين الروس لمسرح شكسبير  (هو أول من ترجم مسرحية يوليوس قيصر الى الروسية آنذاك  , ونشرها عام 1790 ).

و كل هذه الاراء صحيحة فعلا , وكل هذا التنوع  يبين بلا شك اهمية ابداع كارامزين وقيمته في تاريخ الفكر الروسي ومسيرته بشكل عام , ويجيب عن سؤال , لماذا تحتفل روسيا الان ( في نهاية عام 2016) بذكرى مرور (250 ) سنة على ميلاده.

 

بقلم الكاتب

أ . د . ضياء نافع

اظهر المزيد

أ.د ضياء نافع

مواليد بغداد 1941 • ماجستير في اللغة الروسية وآدابها 1965/ 1966 – الاتحاد السوفيتي ودكتوراه في الادب الروسي 1970 / 1971 – فرنسا. • رئيس فرع اللغة الروسية في كلية الآداب بجامعة بغداد من 1975 الى 1984 • رئيس قسم اللغة الروسية في كلية اللغات بجامعة بغداد 1989 – 1990 • معاون عميد كلية اللغات بجامعة بغداد 1993 الى 2003 • عميد كلية اللغات المنتخب 2003 – 2006 . • حاصل على درجة الاستاذية (بروفيسور) 1996. • مدير مركز الدراسات العراقية – الروسية في جامعة فارونش الحكومية الروسية 2006 – 2012. • عضو اتحاد الادباء والكتاب في العراق / عضو شرف في اتحاد ادباء روسيا. • رئيس مجلس ادارة دار نوّار للنشر في بغداد .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com