ثقافة

تكريم المبدعين أحياءً.

بيدر ميديا.."

تكريم المبدعين أحياءً

نادية هناوي
 

ليست كثيرة هي الأسماء والشخصيات والأقلام المبدعة التي ما زالت بيننا تعمل وتبدع في مختلف ميادين الحياة. ولأن ما تعمله وما تبدعه جديد ومميز وفيه رفعة تكسبنا علماً ورقياً، تستحق منا الاحتفاء بانجازاتها وعطاءاتها وإبداعاتها التي لم تتحقق بين ليلة وضحاها كما لم تأتِ صدفةً أو طمعاً أو مغالبةً أو اصطناعاً، وإنما هو التميز والتفوق كحصيلة جهود تكرست ومجهودات بذلت، فكان لتلك الأسماء والشخصيات شأوها، محتلة منزلة تميزها أياً كان مجالها علمياً أو تربوياً أو فنياً أو أدبياً. بيد أن الذي بات مألوفاً وشائعاً عندنا هو أن يُحتفى بالمبدعين الراحلين من دون الالتفات إلى مبدعين كبار يعيشون بين ظهرانينا، مما يفوّت التنويه بمقاماتهم والظفر بمنجزاتهم ومنحهم ما يستحقونه من الاهتمام والتقدير.
ومما لا شك فيه أن العائد الذي يتحصله المجتمع من وراء الاحتفاء بما لديه من أعلام لهم فرادتهم وشخصيات متميزة ذات طاقات إبداعية، له منافع كثيرة وفوائد جمة؛ أولاً بعمومية اعتبارها عناوين للتميز ورموزاً وطنية، وثانياً بغنى ما أبدعته وما أنجزته، وثالثاً بالمنفعة العامة التي تتحصل للمجتمع عامة من وراء تلك الطاقات.
ولقد سعت كثير من دول العالم في الشرق والغرب – بحثا عن المجد والرفعة – إلى التنقيب في صفحات التاريخ عن أعلام وُلدوا على أرضها أو حلوا فيها دارسين أو زائرين أو معلمين أو متعلمين. وأحياناً تتنافس تلك الدول، بل تتصارع على نسبة هذا المبدع أو ذاك إليها، وقد تلجأ إلى حلول وسط أو تسويات فيما بينها حول إقامة احتفالات مشتركة لأولئك المبدعين كما هو الحال مع الفارابي أو فضولي البغدادي أو جلال الدين الرومي أو ابن خلدون وغيرهم من الأعلام الذين تُعقد باسمهم المؤتمرات الدولية وفيها تشترك دول عدة.
ولكن ما نفع صاحب المناسبة والاحتفاء يحصل بعد رحيله بزمن طويل أو قصير، وقد يكون في حياته محارَباً أو منفياً أو مهموماً محروماً حتى من أبسط عبارات الشكر وكلمات الحفاوة؟ أليس من الأجدى أن يلقى المبدعون الاهتمام والحفاوة في أثناء حيواتهم ويذوقوا لذة نجاحهم وهم أحياء؟ ولماذا نصر على دفن المبدع قبل أن نمنحه ما يستحقه منهما؟
إنها مسؤولية كبيرة علينا تحملها عرفاناً لمن أبدع وناضل من أجل إبداعه فضحى وسهر وأنتج حتى بنى له كياناً يُشار إليه بالبنان وصار اسماً شاخصاً يُعطي وينتج متميزاً عن سواه. والمطلوب هو أن نتخذ من تكريم العلماء والاحتفاء بالمفكرين والأعلام – وهم على قيد الحياة – سُنّة نسير عليها ومنهاج عمل لنا، تقليداً به ننتصر على ما في حياتنا من استشراء للجهل والتزوير، متخذين منهم أئمة نستنهض من خلالهم العزم للتقدم والنماء. ولا نفع في التباكي على علماء أجلاء غادروا عالمنا ولم نوفّهم حقهم أو لم نعطهم ما يُناسب ثقل ما قدموه من فضل وإبداع. وكم تأسفنا على علماء أبدعوا ثم رحلوا ولم ينالوا عُشر ما ينبغي أن ينالوه منا.
ولما صار الحجم العولمي في التزييف والتدجيل أكبر من أي وقت مضى، يغدو مهماً وواجباً أن نقدم الاحتفاء لهذا العديد المعدود ممن يليق بمقامه التكريم، ممن هو جدير بأن يمجّد وقد ساقه إبداعه الأصيل والنوعي إلى التميز والتفوق.
ومن هذه الأسماء المبدعة والشخصيات الفذة التي هي محدودة في عددها والنادرة في مشوارها الإبداعي الأستاذة لطفية الدليمي التي تداوم منذ ما يقرب من ستة عقود على الإبداع المميز والأصيل قصصا وروايات وترجمات وكتابات ثقافية وتاريخية ونقدية وصحفية، وهي إلى اليوم في أوج عطائها. وتعد من أوائل القاصات العراقيات اللائي نشرن مجموعات قصصية، وأولاهن كانت عام 1969 وعنوانها «ممرّ إلى أحزان الرجال»، وأول رواية كتبتها كانت «عالم النساء الوحيدات» عام 1986 وهي التي أضافت إلى الكتابة السردية جديداً بما جربته من آليات وتقانات في التعامل مع التاريخ، فكانت ذات خط مميز طوّرته حتى صار مخصوصاً بها تشهد عليه مجموعتها «موسيقى صوفية» ثم رواياتها «من يرث الفردوس»، «حديقة حياة»، «سيدات زحل»، «عشاق وفوتوغراف وأزمنة».
ولها في مجال تدريس اللغة العربية وعضوية التحرير في مجلات ثقافية تاريخ مشهود كما لها مشاريع هي ريادية في نوعيتها المخصوصة بالنسوية العراقية فكانت أسست في بغداد عام 1992 مع عدد من المثقفات العراقيات منتدى المرأة الثقافي وأسست عام 2004 مركز شبعاد لدراسات حرية المرأة.
أما ترجماتها فأمدت المكتبة العربية بعشرات الروايات والقصص وكتب النقد والفكر والثقافة، وأول ترجماتها كانت «قصص شجرة الكاميليا» عام 2000. ولم تكتف إبداعيا بالتميز في الكتابة القصصية والروائية، بل كتبت المسرحية والسيناريو مجربة الخط السردي ذاته وهو التعامل مع التاريخ من منظور يخالف المعتاد، فكانت مسرحية «الليالي السومرية» ومسرحية «قمر أور» ومسرحية «شبح جلجامش».
وثقافتها العالية وأسلوبها الرفيع في الكتابة جعلها كاتبة مقالات مميزة من وزن عال ومؤلفة ناقدة. وأول تآليفها تمثل في كتابها «المغلق والمفتوح» الصادر في ثمانينيات القرن الماضي ثم ساهم اطلاعها على مدارس النقد والتطورات الهائلة في مناهج الدراسات الثقافية أن تكون مفكرة ثقافية فكتبت عن التاريخ والآثار والأنوثة والحرية واللغة والإعلام والعنف.. الخ.
ولطفية الدليمي ببراعتها الكتابية وعلو باعها الثقافي وموسوعية ما لديها من علم وإبداع تعد شخصيةً عالميةً ومن ثم يكون حقيقاً علينا الاحتفاء بانجازاتها وتكريم عطاءاتها كما أن وضع جائزة باسمها أو إقامة صرح ثقافي يخلِّد عطاءاتها هو قليل بالمقارنة مع ما قدمته للثقافة العربية.
إن الاحتفاء برموزنا واجب قومي، فلماذا إذن لا نشهد تكريماً لهم في حياتهم؟ أليس الاحتفاء بمن هم رموز وإيقونات طريقاً نحو النهضة الحقيقية التي بها نقطع الطريق على المزيفين والمؤدلجين وذوي النفوس الكارتونية المتلونين من الذين عمرهم الإبداعي شاخ قبل عمرهم الزمني؟
ولماذا نشهد تكريمات ذات أغراض غير إبداعية تشوه مشهدنا وتظهره متملقاً ونفعياً لا ينظر للبعيد؟ ثم لماذا نجد المسؤولين عن الواقع الثقافي مغرمين بالتهليل لأسماء نصف إبداعية يقطن أغلبها في الغرب؟ أهي الرغبة بمغازلة من لهم مواطئ قدم في تلك البلدان أم تهيئة لحال مستقبلي يخططون له؟
إنّ اعتدادنا بأعلامنا المبدعين في حياتهم ينمُّ عن حرصنا على وضع منجزاتهم أمام الأنظار متلقين ودارسين. وصحيح أنّ الأفكار تستمر بعد مبدعيها، وأن الانجازات لن تنتهي صلاحيتها إذا ما مرَّ الزمان عليها ولكننا سنفهم قيمة تلك الأفكار والانجازات ونقدّر أهميتها بشكل أحسن وأنجع لو أننا احتفينا بها وتركنا أصحابها يخبروننا ويضعوننا في صورة ما أبدعوه وأنجزوه.
الاحتفاء يعني منح الشخصية المبدعة ما يستحقه عطاؤها عبر سنيّ حياتها التي كرستها لميدان من ميادين الحياة والعلم. والاستحقاق في حضورها هو صدق لنا في أن نبني مدنيتنا ولا ندع الانحطاط يأتي إلينا، معتبرين بالأسماء التي صدقت مع نفسها فأنتجت ما فيه خير مجتمعها.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com