مقالات

الوهم الديمقراطي .

بيدر ميديا.."

عبد الحسين شعبان

هل أصبحت الديمقراطية «حلماً» يضاف إلى أحلامنا المتكسّرة، أم «وهماً» يضاف إلى أوهامنا المتكدّسة، أم أنها أضحت «سراباً» بعيد المنال، كلّما نركض نحوه يبتعد عنّا؟ على الرغم من أن شعوبنا تتوق إليها بما يوفّر لها الرفاه والحرية والمساواة والمشاركة والعدل.

منذ أن حصل التغيير الديمقراطي في أوروبا الشرقية في أواخر ثمانينات القرن الماضي، وهي الموجة الثانية بعد التغيير الذي حصل في اليونان والبرتغال وإسبانيا (منتصف السبعينات)، حدثت تململات في منطقتنا، لكن موجتها كانت منخفضة، فتبخرّت رياح التغيير عند شواطئ البحر المتوسط.

وإذا كانت الموجة الجديدة عاصفة وسريعة، إلاّ أنها حملت من داخلها عوامل الكبح والنكوص، خصوصاً عدم اكتمال العوامل الموضوعية والذاتية. وعلى الرغم من ارتفاع رصيد الفكرة الديمقراطية بحيث اصطبغ اسمها بكل شيء، إلا أنها ظلت مجرد شعارات تستخدمها الأحزاب، ويتداولها السياسيون، وينظر إليها حتى أصحاب الأيديولوجيات الشمولية اليسارية أو القومية أو الدينية، فلا فرق، مثلما كانت «الاشتراكية» في الستينات، إلهاماً للقصائد والبرامج والشعارات. وسرعان ما بدأ الناس يتندّرون على الديمقراطية «المطبّقة»، بعد أن كانت حلماً وردياً موعوداً، لكثرة ما سمعوا ورأوا وواجهوا من كلام وممارسات وخطب بشأنها، وبالضد منها، حتى إن جماعات عشائرية، وأخرى عسكرية، وثالثة دينية وطائفية متعصّبة ومتطرّفة، أمطرت رؤوسنا بالدعوة إليها كأنها الدواء لكل داء.

لكن حلم التغيير الديمقراطي بدا كأنه مطر صيفي، أي هبّة سريعة غاضبة حيث تحوّلت السماء الصافية الزرقاء إلى رمادية وتلبّدت الغيوم في كل مكان، ومالت السماء إلى السواد والدكنة، فألقت حمولتها بسرعة وقوة، ثم أعقبتها صراعات واحتدامات، بعضها كان عنفياً ومسلّحاً، بفعل التباس اللحظة الثورية موضوعياً، خصوصاً تأثيرات العامل الدولي والإقليمي الذي لعب دوراً سلبياً، بالتدخل المباشر أو غير المباشر، وذاتياً افتقادها مقوّمات التغيير ومستلزماته، لا من حيث الأداة (القيادة تنظيراً أو ممارسة)، ولا من حيث البرامج، ولا ثمّة توافقات وطنية إزاء القضايا الكبرى والمصيرية، ولا سيما في المرحلة الأولى ما بعد التغيير، حيث تسرّبت الفوضى والفساد المالي والإداري والعنف إلى مفاصل الدولة وأروقتها.

يضاف إلى ذلك، أن «الشرعيات القديمة» وقوى الثورة المضادة لعبت دوراً كابحاً ومعرقلاً لعملية التحوّل الديمقراطي، بل شكّلت حجر عثرة أمام طموحات الناس، وأحلامهم في تأسيس شرعية جديدة أساسها رضاهم ومنجزات يمكنها أن تنتشل البلاد من الواقع القديم إلى واقع جديد أفضل. ولم يصاحب محاولات تأسيس شرعية جديدة قيام مشروعية قانونية تستند إلى حكم القانون، خصوصاً أن الفوضى ضربت أطنابها وطبعت أغلبية التجارب الجديدة، الأمر الذي عطّل التنمية بجميع مجالاتها.

فليست الحريات، ولا سيّما حرية التعبير والانتخابات، بديلاً عن التنمية المستدامة، خصوصاً في ظلّ استفحال الفساد المالي والإداري وهشاشة الحكّام الجدد، وهزال توجهاتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية، وتأثيرات القوى الخارجية فيهم، الأمر الذي دفع المجتمعات إلى نوع من العزوف عن المشاركة، بل إلى قنوط حقيقي، حيث تفشّى السلاح المنفلت، والتجاوز على المال العام، والنزوع إلى الحصول على الامتيازات والمكاسب على حساب الوطن ومصالحه العليا، بما فيه الصراع على السلطة، من دون الالتفات إلى هموم الناس ومعاناتهم التي ازدادت تعتّقاً.

ولعل ما حصل في تونس آخر معقل كان يعتدّ به على إمكانية نجاح التجربة خير دليل على تكسّر الأحلام، أو الاستناد إلى الدستور حتى إن قام على المكوّنات، أي تقسيم المجتمع عمودياً وأفقياً على أساس طوائف وإثنيات، كما هو الدستور العراقي، في حين أصبح الأمر كارثياً في «سوريا» التي ما زالت تعيش مأساة حقيقية، بتفقيس بيض الإرهاب، واستمرار «داعش» وإقامة دولته بين الموصل، في العراق التي تمّ احتلالها، وقبلها «الرقّة» السورية التي اعتمدت عاصمة للخلافة. أما في ليبيا فقد اندلع العنف ولم يتوقف منذ عقد من الزمن وإلى الآن، وهي تعيش حروباً ونزاعات وتدخلات أجنبية.

وبغضّ النظر عن الأدوار السلبية التي لعبتها القوى الإسلامية بعد حركات الاحتجاج، فإن مستقبل التوجهات الديمقراطية الوليدة ظلّ رخواً، بل شديد الهشاشة، فضلاً عن عدم توفير البيئة المناسبة والسلمية للتنمية، ما يدعو إلى القلق، بل والقنوط من احتمال مواجهات عنفيّة في التجارب المشوّهة والمثلومة، ولولا تدخّل الجيش في مصر، لكانت الأمور ذهبت بعيداً باتجاه «الأخونة».

فهل أصبحت الديمقراطية وهماً، أم لا تزال حلماً يحتاج إلى الاقتراب من الواقع؟

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com