ثقافة

«جيم» تراجيديا الحياة وسلطة اللعبة الروائية.

بيدر ميديا.."

«جيم» تراجيديا الحياة وسلطة اللعبة الروائية.

 واسيني الأعرج

 

ليست رواية سارة النمس الأولى، سبق أن قرأت لها نصاً آخر: «ماء وملح» لا يقل تمايزاً وعنفاً عن «جيم» أمام تجربة الظلم المزدوج، أرض سُرقت ومعها سُرِقت إمكانية الحياة حتى في شكلها البدائي لتعوضها، درءاً لعملية الإفناء المنظم، الرسائل والوسائط الاجتماعية. مع قراءة «جيم» تكوَّن لدي انطباع واضح، وهو أني أمام روائية محترفة، تبني مشروعها بشجاعة وأسئلة أنطولوجية كثيرة تتعلق ليس فقط باشتراطات النص، ولكن بالحياة أيضاً. تعمل سارة النمس على صناعة عوالمها الأدبية خارج النسق المتداول، وخارج فكرة «النسوية» الشّكلية، التي كثيراً من أخفت ضعفاً في الكتابة. رواية «ماء وملح» نص تراسلي Epistolaire، بين سلمى من مدينة خان يونس، وفارس المعتقل في سجن عسقلان. تدون سلمى يومياتها وخوفها وكوابيسها. فكانت الرؤية أبعد من الدائرة الوطنية لتلامس بعداً قومياً وإنسانياً أوسع، من خلال الجرح الفلسطيني. من خلال قصة حب افتراضية، أبان النص عن وعي سياسي وأدبي لكاتبة تريد أن تذهب بعيداً في مشروعها الفني، متخطية الحواجز الوطنية.
جاءت رواية «جيم» لتؤكد ذلك الإحساس النقدي العميق، بأننا أمام روائية سيدة مشروعها.
تنشأ رواية «جيم» داخل عالم شديد التعقيد، مصاب بأمراض العصر: الهوية وتسطيحها بمقولات لا تعني شيئاً بدل التركيز على المواطنة، التنمر المبتذل، الانهيار النفسي، العزلة، الاغتصاب، إخفاق المشاريع التي تبدأ بحب وتنتهي إلى خراب، في مجتمع فقد البوصلة التي توجهه، وداخل نفق من الظلمة يعيشها الناس ولا يدركونها لأنهم يحصرون مآسيهم في الخصوصية الذاتية، وينسون أن ما يحدث هو عبارة عن صيرورة، وليست الشخصيات المختارة في الرواية إلا علامات وظيفية تعيش داخل هذا الفراغ المهزوم والسوداوي الذي لا يبتعد عما خلفته فينا قراءة دوستويفسكي الذي لا يشد شخصياته إلى الحياة إلا بخيط رفيع، وعبث هنري ميلر الذي يبدأ داخل نفق وينتهي فيه.
يبدو لقاء الوهلة الأولى، كما في الأفلام السينمائية الكلاسيكية، مجرد صدفة وضعته لمين وجيم، في نفس الطريق ونفس المسالك بل ومشرع السفر نفسه، في رحلة طويلة (وهران-تامنراست) تحتفظ بأسرارها حتى نهاية الرواية. يكاد يكون سفراً استكشافياً منبعه الهروب من محيط لم يعودا قادرين على تحمله، واكتشاف داخل هزمته الحياة بكل تناقضاتها. لا تتردد الروائية في وضع قارئها في حالة ترقب وتأهب، بل ومساءلة عن منطق ما يحدث أمام عينيه.
وعلى الرغم من أن الرواية تبدو في البداية كأنها منغلقة على ذاتها: باص وشخصان (لمين وجيم) لا نعرف عنهما الشيء الكثير، شاب هارب من هزائم داخلية وجريمة قتل الأم؟ وشابة اختارت الانزواء والصمت ولا شيء يجمع بينهما سوى تلك الحقيبة الصغيرة التي سقطت منها واحتفظ هو بها ليجعل منها جسراً يوصله إليها. لكن سرعان ما ينفجر الفضاء المغلق ليصبح رديفاً للحياة في عز اشتعالها وهزائمها. ويتحول كل شيء إلى قطع ممزقة متشطية، يحتاج فيها القارئ وهو يبحث عن المعنى، إلى إعادة تركيبها قطعة قطعة، وفي الأمكنة المناسبة مثل لعبة اللغز Puzzle تتم عملية مغادرة المكان المغلق اعتماداً على الذاكرة بوصفها خزاناً لحياة حية، لم تعد موجودة فيزيقياً، لكنها حاضرة في الجسد، من خلال علاماتها الجارحة النازفة كالاغتصاب والهوية المسروقة، أو عن طريق الحياة الخفية لجيم التي سرعان ما نكشفها من خلال سرديتها ونحن لا نعرف ما إذا كان الجزء المروي منها صحيحاً أم العكس، لأنه ينبع من حالة ظلام داخلية، لأن ما سيقوله الأب جهاد في كراسته التي تركها لابنته جيم، سيهز الكثير مما روته عن الاغتصاب، وعن حادثة قتل والدها بطلق ناري لأنه حاول اغتصابها؟ ثم رواية لمين مرافقها أولاً، ثم زوجها ثانياً (تمّ ذلك بسرعة فائقة في الرواية). اختارت الكاتبة تسريع الأحداث بعد العودة من رحلة تامنراست. لخصت ذلك في عدد محدود ن الصفحات. تزوجت من لمين ثم طلقت منه لتتزوج مديرها. مما جعل الرواية تسير بسرعة لكن على حساب التفاصيل النصية السردية التي يتم من خلالها بناء الرواية، وكأن الرواية كشفت اللعبة كما في الأفلام البوليسية، ولم يعد هناك ما يفيد، وتسريع الوصول إلى النهاية التي تتبدى فيها كل الأسرار العالقة. وأخيراً طليقها. للمذكرات والرسائل دور أيضاً في عملية التفضيض (الفضاء) التي فتحت الرواية على عالم آخر ظل مغلقاً، هو عالم الأب الذي بدل أن يحل البياضات التي خلفتها الرواية في ذهنية القارئ الافتراضي، زادها تعقيداً إذ أعادت النظر في صدقية ما عرفناه عن جيم ووالدها وأمها، ورسائله لزوجته جنات المتوفية في مصحة عقلية؟ تدخل الرواية قارئها في عالم غير قار تتبدل فيه الوضعيات والأدوار بلا مسبقات تفسيرية، وهي خيارات تقصدتها الروائية سارة النمس، لتجعل من «جيم» رواية السؤال وليس نص اليقين. لا يقين في بشر عاشوا تمزقات مجتمع مريض، يكره نفسه بل ويحارب كل ما شكلها عبر التاريخ، مجتمع اختار أن يذبح نفسه بنصل صدئ (العشرية السوداء) باسم وطن أصبح قاتلاً، ودين مريض مثل حمَلَته، مدمراً ليس فقط ما بناه من توازن جسدي وروحي، ولكن فكرة الإيمان بالجسد المؤهل للحياة والمقاومة، والأمان، وإبعاد الخوف الذي حوله إلى مجرد جرذ يتخفى كلما سمع صوتاً حاداً، أو شم رائحة غير معهودة. هذا كله يجعلنا أمام سردية وسعت من مدار الرواية وفضاءاتها، وخرجت من الفضاء المغلق باتجاه مساحات أكثر اتساعاً. تضع الروائية كل شيء، وبدون تحفظ وبلغة تصل حدّ الصراحة الجارحة، في مسالك العابرين (القراء) دون أن تنشغل بالإجابات النهائية ولا بردود الفعل المحتملة، ولا من كذب ولا من كان صدق في سرديته المحكية. كلهم يحملون «جريمة القتل» الحقيقي أو الافتراضي، وكأن الأمر حالة جينية جاءت من بعيد فأصلتها الهزائم والخسارات الكبيرة في مشهدية تراجيدية افترضتها الروائية، لا فرق فيها بين هذا وذاك وتلك. كلهم قتلة وكلهم ضحايا. جيم قتلت والدها بطلق ناري؟ حسب روايتها، لأنه اغتصبها، لمين قتل أو كان وراء فجيعة مقتل أمه وصديقه بسبب حادث خلف فيه مرض رهاب سياقة السيارات، وجهاد الذي يعلن في رسائله، المذكرة الخضراء الصغيرة التي تركها لجيم، وأضاعتها في رحلتها من وهران إلى تمنراست، وعثر عليها لمين وأعادها لها (قبل أن يعثر عليها ثانية وهو في تركيا ويقرأها هذه المرة ليكشف الكثير من أسرار جيم وحالتها المرضية). هذه الكراسة رممت النص وحددت منطق الرواية كاشفة عن أسراره السردية. يفصح لنا الأب أن جيم قتلتها أمها يوم ولادتها. الكل مريض ويرى الآخر مريضاً في حالة متلازمة بارانويا ترى في الآخر كل عيوب الدنيا ولا تلتفت إلى نفسها، كما جرى بين جهاد وجيم. جزء من حكايات جيم لا يخرج عن كونها وجهاً آخر لهذا الجحيم الذي عاشته.
يمكننا أن نقول إن «جيم» رواية نفسية واجتماعية، ويظهر ذلك بوضوح كبير، لكنها رواية سياسية بامتياز جعلت في بعض مواقعها، من التاريخ الماضي والحاضر، مادتها الإبداعية الأساسية، لكن الأجمل في ذلك كله الذي حمى الرواية من الانزلاق في الخطاب المباشر (باستثناء خطاب الهوية تاريخياً الذي كان مباشراً) هو أن ذلك كله لم يمر عبر خطاب تبشيري، ولكن من خلال الحيوات القاسية للشخصيات التراجيدية التي افترضتها الروائية.

 

كلمات مفتاحية

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com