شعر

سعدي يوسف والشعر العربي الآن.

بيدر ميديا.."

سعدي يوسف والشعر العربي الآن

 

منصف الوهايبي

 

في أغسطس/آب 2016 نشر سعدي يوسف نصا لافتا في مجلة «الفيصل» السعودية، وفي موقعه وسمه بـ«ديوان العرب… أمأهول هو الآن؟». أقول هو «نص» وليس مقالا، بل هو «بانوراما» حيث يمسك سعدي بقلمه، وكأنه يدير آلة تصوير على محورين اثنين: أفقي وعمودي، مستحوزا منظرا شاملا عريضا في كل أنحاء المشهد الشعري العربي، ما عدا موريتانيا؛ لقلة ما بين يديه من الشعر. والنص ليس طويلا، وقد كُتب في شكل شذرات مترابطة، وبلغة مقتضبة موجزة تعبر عن حاصل المراد وتمامه في ألفاظ قليلة لا تشتت الذهن، ولا الإدراك. والمقام ليس مما يقتضي الإطناب مثل التوكيد اللفظي والتكرير والتفسير، وذكر الخاص بعد العام والإتيان بالجملة المعترضة وكثرة البيان والإيضاح؛ كما نفعل عادة في المقالات والمقاربات العلمية. ولذلك رأيت من الضروري، حتى يكون القارئ في الصميم مما أنا فيه؛ أن أنقل جل هذا «النص الشهادة» من شاعر معلم ماهر، يسرت له إقامته المديدة في ديار العرب، وإطلالته الدائمة على المشهدِ الشعري فيها، أن يتقرى الأمورَ في منبِتِها، بعبارته. فضلا عن أن سعدي أغنى الشعرية العربية؛ وفتح مسالك غير قليلة لروافد ساكنة فيها، وهو الذي التقط من الشعر الجاهلي أعظم ما فيه، وأجله شأنا في الشعر، على نحو ما أشير في خواتيم هذا المقال.
يقطع سعدي منذ مستهل النص بأن الشعرَ لا يزال ديوانَ العربِ:»أقولُ هذا، ليس في معرِض مفاضلةٍ نافلةٍ، بين الشعر والرواية، فالأنواعُ الأدبيةُ متداخلةٌ، متآخيةٌ، يشد بعضُها بعضا. كم من روائي بدأَ شاعرا، وكم من شاعرٍ انتهى روائيا». ويستدرك، والاستدراك هو نفي ما يُتوهم ثبوته: «إلا أن المشهدَ الحالي لساحة الإبداع، وهو مشوشٌ، غيرُ مستقِر، بل باهتٌ، يدعوني إلى أن أكون أهدأَ وأرحبَ نفسا، مع أن هدوءَ النفسِ هذا قد يأتي إلى نتائجَ لا تسر أحدا، مثلما أنها لا تسرني». ويضيف: «قبل عقودٍ كان الحديثُ مؤججًا عن»زمن الشعر»؛ وقبل أعوامٍ كان الحديثُ متواترا عن «زمن الرواية» وفي الحالتين كلتيهما، كنا غير دقيقين: الحديث عن «زمن الشعر» كان آنَ الروايةُ العربيةُ تياهةٌ في بهائها لدى نجيب محفوظ، وعبدالرحمن منيف، وجمال الغيطاني. والحديثُ عن «زمن الرواية» كان آنَ الشعرُ العربي حمال أسئلةٍ في تمام الجِدة والصرامة».
يبدأُ سعدي بالبدء، بعبارته، وهو يعني هنا «أرضَ الجزيرة ذات التهائم والنجود والسواحل. ثمة صمتٌ أطالَ الـمَـكْثَ. مَن بعد الثبَيتي؟ مَن بعد أحمد راشد ثاني؟ من بعد زهران السالمي؟ أشاعرُ المليون؟ أم أمراءُ النبطي المتنافجون؟ اليمنُ.. اليمان، بعد رحيل محمد حسين هيثم، ظل عبدالعزيز المقالح يحرس المعبد. العراق.. الذي شهدَ الميلادَ العجيبَ للقصيدة الحرةِ بُعَيدَ الحرب العالمية الثانية، خامدُ الجذوة، بعد أن فقد استقلاله، وتداوَلَه الأعاجمُ… الشام.. التي أنجبت نزار قباني، وعلي أحمد سعيد (أدونيس) وممدوح عدوان، ورياض الصالح حسين، حسرةٌ على أيامٍ خلتْ، ومرابدَ أقفرتْ.

جزء من جوهر الشعر لا ينفصل عنه ولا يفارقه؛ تعززه المشتقات، وهي مظهر آخر من«شعرية اللغة» حيث ترد الكلمة في سياق من مشتقاتها. والمقصود هو التنويع الشعري على «الجذر» في نظام اللغة أي الأصل.

مَن فيه الآن؟ مضى سعيد عقل وبسام حَجار، مضى حسن عبدالله.. ولبنان.. هناك مسوخ القصيدة الفرنسية في تخلفِها. هؤلاء الذين لا يعرفون من قصيدة النثر سوى تخليها عن الوزن. فلسطين: هل أراهن على طارق الكرمي، ومهيب البرغوثي؟ لكن زكريا محمد باقٍ. وادي النيل، وكان فيه مَن فيه: الفيتوري، وأمل دنقل، وحلمي سالم، وصلاح عبد الصبور.. ليبيا: اندثرتْ، كالعراق، بعد أن فقدت استقلالَها، واندثرت إرهاصاتٌ عميقةٌ لقصيدةٍ جديدة.  تونس: جديرةٌ بالانتباه. أعتقدُ أن الحركة الشعرية في تونس، الآن، هي الأعمقُ، والأبهى، في المشهد الشعري العربي. رحيل محمد الصغير أولاد أحمد لم يؤثرْ في الصورة البهية: لدينا شاعر القيروان، منصف الوهَايبي. الجزائر، لم تكُن، في أحد الأيام، غابرا كان اليوم أو حاضرا، حاضنةَ شِعرٍ، باستثناء المكتوب باللغة الفرنسية. المملكة المغربية: كانت مهادا غنيا لحركة التجديد في النص الشعري العربي، أما الآن فأزعُمُ أن انفصالَ القصيدةِ المغربية عن الواقع المعيشِ، أدخلَها في متاهةٍ يصعُبُ الخروجُ منها إِلا بالعودة الشجاعةِ إلى الميراث الحي للشعر المغربي المناضل: عبداللطيف اللعَبي ورفاقه».
ويخلص سعدي إلى أن الصورة كابيةٌ، وإن استثنى تونس كما تقدم، وذكرني شخصيا؛ وهي شهادة منه أعتز بها. لكن السبيل إلى خارج النفق في تقديره؛ وإن كان صعب المنال، هو العودة إلى الشعر الجاهلي؛ للمسوغات الآتية التي تجعل النص شعرا، وهي: اللغة المادية أي استعمالُ الاسم الجامد لا المشتق، وانتفاءُ المصْدَر، والإقلالُ من الفَضْلة، والعلاقة مع الطبيعة، ومع «أنا» لا «نحن»؛ وبدائية الموسيقى الداخلية. وهذا ما يعنيني أكثر في نصه، خاصة أنني أشاطره الرأي في أن «ديوان الشعر العربي مأهول، لكن أيام الجاهلية الأولى» للمسوغات التي ساقها. وهي تحتاج إلى تفصيل دقيق، لا يتسع له هذا المقال/ العرض. فالمقصود بـ«الاسم الجامد» الاسم الذي لم يشتق من غيره، ويقسمه النحاة إلى أسماء ذوات أي أشياء محسوسة، وأسماء معان مجردة أو غير محسوسة. وأما «الاسم المشتق» أو «السائل» عند بعضهم؛ وهي في تقديري تسمية لطيفة، فيها ما فيها من ماء الشعر وسيولته، فالمقصود به الأسماء المأخوذة من غيرها. والأول هو الأصل أو معنى الكلمة الأصلي، والثاني هو الفرع أو معنى الكلمة الزائد. وعلى الرغم من أننا لا نملك إحصاء دقيقا للأسماء الجامدة والأسماء المشتقة في الشعر الجاهلي، فإن القارئ الذي له دراية بهذا الشعر؛ يدرك أن في كلام سعدي مقدارا كبيرا من الصواب. على أن سعدي ساق ما ساق بعين الشاعر، لا الدارس المتبصر. وأحاول في ما يأتي أن أوضح مقصوده. ففي هذا الشعر، نتبين كيف تتخذ الكلمة فروقا دقيقة تنقلها من معنى مفرد إلى معنى جمع حرك فاعل يسميه المعاصرون «التدلال».
والشيء في الطبيعة سابق الوجود، ولهذا يستشعر الشاعر حاجة إلى تسميته، بل هو أكثر من ذلك وأبعد، يشد طرفه إلى عوالم يجهل طبيعتها وكنهها، إن كان لها طبيعة وكنه، فيتطلع إلى تسميتها؛ لأنه يتصور أن بإمكانه التأثير فيها والسيطرة عليها، بفعل التسمية. وفي هذا المستوى فإن الكلمة وصورتها المفهومية تتمثلان حلول الإنسان في الكون، وتكونان نظام استدلاله وسط ما يحيط به. لكن هذا التشابه لا يحجب الفرق بينهما، وهو فرق يكمن في طبيعة العلاقة الناشبة بينهما، وبين الذوات والأشياء. وتصور الأشياء أو قولها إنما يبدأ على أساس من تقسيم العالم إلى مجموعتين متعارضتين: مجموعة الأشياء ومجموعة الذوات. وإذا كانت الأولى من الوضوح بمكان لأنها تنضوي إلى عالم المحسوسات الماثلة للعيان، فإن الثانية ملتبسة أو هي غير واضحة الوضوح كله. والكلمة في «خارجانية» الأشياء، منفصمة عن المحسوسات، دونما أي إمكان لرأب الصدع. هي كمهاء أشبه بطاق زخرفي أو نافذة عمياء، بل إن علاقتها بعالم الأشياء علاقة توق إلى الماضي. ولعل هذا ما يفسر حضور الذكرى في جل الشعر الجاهلي حضورا لافتا، بل إن الكلمة نفسها في الشعر وهو فن إيقاعي بامتياز؛ شيء جديد في عالم الأشياء. ولعل هذا ما يفسر إلى حد ما اقترانها بالسحر والأسطورة في سياق من «الإحيائية» كانت تثيرها الكلمة، سواء الصوتية منها أو الرسمية، أي تلك التي قامت على رسم الصوت أو تلك التي قامت على رسم الشيء. وربما تعذر الفصل بينهما عند العرب وهم الذين سموا الكتابة رسما، ومن معاني «رسم» كتب وخط؛ وشبهوا النطق بالخط والتصوير. وربما كان من السائغ أن نقول بناء على ما تقدم إن الكلمة/ الاسم صورة تنطوي على صورة، سواء انبنت العلامة بين الكلمة والصوت على قانون المشابهة والمطابقة والرمزية، أو على ترابط المجاورة والاستبدال الكنائي. فالكلمة في هذه الحال، أو في تلك طقس سحري أو «سحر تعاطفي» سواء اتخذ هيئة «التعاطف»القائم على المشابهة أو هيئة «السحر التجاوري» القائم على المجاورة، وعلى هذا الأساس تحضر الكلمة من حيث هي صورة خطية وعلامة بيانية، حضورا مضاعفا، أي في ذاتها وفي تمثلها، وتجمع بذلك بين وظيفتين: جمالية وإبلاغية، بل لعلها أن تصهرهما في وظيفة إبداعية واحدة، إذ هي تنزع الأشياء من أقنومها وتفتح أغلاقها، لتخلقها خلقا ثانيا. ومن ثم كان امتزاج الصورة في القصيدة الجاهلية بالإحيائية.
ونقدر أن هذا جزء من جوهر الشعر لا ينفصل عنه ولا يفارقه؛ تعززه المشتقات، وهي مظهر آخر من«شعرية اللغة» حيث ترد الكلمة في سياق من مشتقاتها. والمقصود هو التنويع الشعري على «الجذر» في نظام اللغة أي الأصل. وهو من ثمة حركة لغوية داخلية محكومة بقوانين صوتية، وأعمق من كونه توارد ألفاظ أو تداعي معان.

‏كاتب تونسي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com