مقالات

كيف خرجوا من معطف الرئيس؟.

بيدر ميديا.."

كيف خرجوا من معطف الرئيس؟.

 واسيني الأعرج

جاء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة رحمه الله، بضجيج كبير، رافعاً راية المصالحة الوطنية وتوقيف الحرب الأهلية، والتقليل من هيمنة شبح السلطة العميقة، فامتلأت القاعات الكبيرة في الحملة الانتخابية وأظهرت رجلاً، على الرغم من حضوره السياسي في تاريخ الجزائر المحاربة (كان ضابطاً في الثورة التحريرية) والمستقلة (شغل مناصب وزارية عديدة كان أهمها وزير خارجية) قضى عمراً كبيراً في عزلة ونسيان سياسيين، حيث فضلت عليه المؤسسة العسكرية شخصها المناسب (بالمعنى البراغماتي) في ذلك الوقت، الشاذلي بن جديد.
وظل، وهو المتمركز حول ذاته، يحمل غضباً عارماً ضد صناع السياسية من المجنيين والعسكر. عندما وصل إلى «المرادية» كانت أولى صرخاته أنه لا يريد أن يكون نصف رئيس، فدشن حربه القديمة بالمؤسسة العسكرية، العصب الأقوى والأكثر حساسية في نظام الحكم الجزائري، فأحال على التقاعد وزير دفاعها العماري وضباطاً آخرين، واستطاع أن يوقف الحرب الأهلية التي كان قد هيأ أرضيتها العسكرية والسياسية بقانون الرحمة الرئيس الأسبق ليامين زروال. كانت التنازلات التي قدمها الرئيس بوتفليقة باهظة من خلال المصالحة الوطنية، كان الثمن صعباً وقاسياً على ضحايا الإرهاب وأسر المفقودين، والمجتمع عموماً. وعادت الحياة الطبيعية من جديد تسري في شرايين البلاد، ولم يعد الجزائري مجبراً على العودة إلى «جحره» على الساعة الخامسة بعد الظهر. وحقق ما وعد به في العهدتين القانونيتين، الأولى والثانية (عشر سنوات) اللتين فاز فيهما بحب الشعب. لكن الضجيج الذي جاء به أعقبته هيمنة كلية لمافيا خرجت من تحت رماد المنجزات القاعدية الكبرى، ثم صمت كبير حتى الموت في المنتجع البحري، ودخل في حالة تذكر بشخصيات غابرييل غارسيا ماركيز العسكرية، ونهاياتها التراجيدية وهي التي كانت تظن نفسها دائماً أنها الأب الحنون للشعب كله.
عشرون سنة من الحكم. عشريتان. العشرية الأولى كانت شرعية كلياً إلا بالنسبة للأعمى. لقد وقّع له الشعب على بياض. أعاد السلم إلى الجزائر. وقبل ضحايا الأمس الذين كزوا على أسنانهم وقبلوا بحل يضمن، على الأقل، السلم للبلاد. ثم أنجز جزءاً مهماً وحيوياً من البنية التحتية التي لم يمسسها تغير جوهري منذ الرئيس المرحوم هواري بومدين. الطريق السريع شرق-غرب الذي كان يبدو كاستحالة، أصبح ممكناً، السكك الحديدية والمتروهات، وبناء عشرات الجامعات حتى المناطق الصحراوية النائية، تجديد المطارات وتحديثها، عشرات السدود ومحطات تحلية مياه البحر التي خففت كثيراً من وطأة ندرة الماء، وغيرها. لكن هل يمكن تسيير الدولة دون تغيير في بنياتها السياسية العميقة، ودمقرطة الحياة العامة، واحترام القوانين؟ سياسياً، ظلت الأحزاب نفسها تسير شأن البلاد أو ما يبدو كذلك، لأن الرئيس حول الحزبين الكبيرين، جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني، إلى مجرد قوقعتين فارغتين تحت سلطة الحاكم الحقيقي: المافيا السياسية المالية ورجال الظل. لنقل إنه كان أكثر رؤساء الجزائر خبرة سياسية ودهاء وثقافة، ابن النظام بامتياز.
لكن للأسف، لم ينفعه ذلك في شيء. كان يظن أن تأصيل البنية التحتية كاف، ونسي بسرعة أن البنية التحتية، في ظل الفساد المالي، خلقت طبقة من المستعاشين الفاسدين على حساب جودة المرافق المنجزة، وارتفعت تكلفة المشاريع إلى الأضعاف بدون مبرر أو سبب وجيه، لدرجة أن أصبحت هذه المجموعة من المرابين الجشعين ورجال المال الفاسد، قوة مافياوية تقرر ما تشاء، دون أن ينعكس ذلك استثمارياً على البلاد، لأن المال الوطني كان يُهرّب بالملايير خارج البلاد في شكل استثمارات دولية في فائدة المافيا، التي تأخذ شرعيتها من رئيس الجمهورية الذي كانت تعرف كيف تلعب له على أحقاده ضد رجالات النظام السابق، وعلى تمركزه المرضي على الذات. أول تدمير لصورته التي دخل بها كرجل دولة، القيام بفعل مضاد لثقافته السياسية، كسره للدستور وتدميره بكثرة التغييرات، وتحويله إلى كومة أوراق لا قيمة فعلية لها. وفتحت مادة الدورات الرئاسية على المطلق والفراغ. منذ تلك اللحظة، أي بعد الولاية الثانية، بدأت عملية الانحدار نحو جهنم، الذي دام حوالي عشر سنوات أخرى، مع رئيس غائب كلياً عن الحياة، لم يكن فيها هو الحاكم الفعلي، لكن المافيا التي وجدت فيه مريضاً الحاضنة الحامية لتمرير مشاريعها المالية والسياسية.
مع أنه كان وقتها الوحيد الأوحد في النظام القادر على توقيف «السيستم» الذي هلك البلاد منذ الاستقلال، والدخول في زمن آخر، أكثر جدية وصرامة وقانونية وديمقراطية، ووطنية حقيقية، للأسف ذلك لم يحدث، التمركز الذاتي حول النفس لم يسمح له بالخروج من الشرنقة التي خيطت حوله برضاه. فقد بدأ العهدة الثالثة باختراق دستوري فادح، وكان في إمكانه أن يحول الدستور إلى وثيقة حقيقة جديرة بالاحترام، يعلن من خلالها عن الجمهورية الثانية على طريقة لينكولن، أو مانديلا، ويغادر تاركاً للجزائر مشروعاً عظيماً في الحكامة والسلطة. ذهب في اتجاه الطريق المختصر مقاداً عن وعي أو عن غير وعي، من مافيا عائلية وجهوية ومصلحية، مدنية وعسكرية، نحو الحائط الساخن. وكان من الصعب على هذه المافيا التخلي عن السلطة التي اكتسبتها حتى ولو اضطرها الأمر الدوس على قانون البلاد. كانت تعرف أن أي سلطة تعقب الرئيس بوتفليقة ستجرها نحو المحاكم والسجون بسبب فداحة الفساد المالي الذي شاعت رائحته الكريهة حتى خارج البلاد، وتخريب البلاد بمشاريع بدأ فسادها يظهر حتى قبل استلامها. خسر الرئيس موعده الذي حلم به، موعد الشبه بلينكولن، مانديلا، ميتيران، كاسترو، لومومبا، ولا حتى جمال عبد الناصر. الانهيار الصحي عجل في الكشف عن الكوارث التحتية التي أخفتها العصابة التي أصبحت تحكم البلاد بالوكالة. فتحول الرئيس بوتفليقة إلى مجرد واجهة يأتون به على متن كرسي متحرك، بسماعات وفم مغلق بصعوبة، شيء يثير الشفقة بحق. وأصبحت المجموعات المالية الناهبة للمال العام، واضحة في المشهدية الاجتماعية والسياسية، وتلح على أن «الرئيس بخير» ولم يكن بأي خير منذ الصدمة الدماغية التي أفقدته الحركة وقدراً كبيراً من ملكة الكلام والتفكير. وأصبح اسم الرئيس في كل مكان وصوره معلقة في كل الصالات وهو يتلقى التكريمات في غيابه، حتى أصبح من واجب كل اللقاءات والندوات تكريم الرئيس، تقليد جديد كلياً على الجزائر، مع استهتار مفجع بشعب الأربعين مليون نسمة، وأكثر من مليون شهيد. شعب صبور حقاً عوض مأساة الحكم بالنكتة لتفادي حرب أهلية كان يخرجها كورقة سدنة المال المتخفين في معطف الرئيس. ووصل الانحطاط أدنى الدرجات. حتى الحراك العظيم، الذي أسقطه من أجل بناء الجمهورية الثانية، أخفق في إسقاط النظام، إذ رفض الهيكلة والتحول إلى قوة اجتماعية احتجاجية بعد الاختراقات التي أنهكته حتى أهلكته. ماتت فكرة الجمهورية الثانية، والنظام لم يقل كلمته الأخيرة. عملياً، الحراك سمح للنظام بالتجدد الشكلي والاستمرار.
ها هو موت رئيس جمهورية حكم عشرين سنة يمر كأنه لا حدث؟ الميت لم يكن قطاً، لكنه رجل حكم البلاد في ظروف لم تكن دائماً سهلة، وطفرة مالية غير مسبوقة. بلا قرآن كريم، كما جرت العادة في تلفزيون الدولة؟ بعد يومين من الصمت نطقت «الدولة» عن تكنيس الرايات، ودفن رسمي في مقبرة العالية، مما يوحي بأن هناك نقاشات كبيرة تمت على مستوى عال في السلطة وانتهت إلى قرار. احترام رئيس في موته هو جزء من احترام الدولة لنفسها. جيد أن «الدولة» انتصرت على السلطة، بغض النظر عن رأينا في المتوفى، فهو في النهاية رئيس حكم بلاداً من أربعين مليون نسمة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com