فن

تلك الليلة البغدادية اللامنسية.

بيدر ميديا.."

تلك الليلة البغدادية اللامنسية.

غادة السمان

 

نجم الدراجي كتب معلقاً على ما سطرته حول أكل حلوى الحشرات والديدان قائلاً إنه يفضل المطبخ الشرقي، وأضاف أنه كعراقي، لا يستغني عن (السمك المسكوف). هذا النوع من الطعام أنعش ذاكرتي على ليلة بغدادية لا تُنسى، ذقت فيها للمرة الأولى (السمك المسكوف) وكان أشهى طبق من السمك ذقته في حياتي حتى في مطاعم باريس ونيويورك ولندن الفخمة.. وقد ذقته ذات ليلة عراقية لا تنسى، وشكراً لنجم الدراجي الذي ذكرني بها.

ليلة مع الناصري والعزاوي

لم يكن إعجابي بالفن التشكيلي العراقي سراً، وكتبت عنه باستمرار، كما كتبت عن الجمال الفني لأعمال شاهدتها في بغداد.
وذهبت إلى معرض أقامه رافع الناصري للوحاته في إحدى (الغاليريهات) البيروتية أيام كانت بيروت عاصمة للالتقاء الفني مع المبدعين، وأعجبت بإبداعه، وكان الناقد الفنان وضاح فارس نصحني بذلك (وضاح أمه سورية ووالده عراقي، على ما أذكر) ولم أندم لأنني ذهبت، فقد كانت أعمال الراحل رافع الناصري فاتحة إعجابي بالفن العراقي في المجالات كلها. ولعل أفانين كبة أقامت معرضاً في بيروت فاتتني مشاهدته، لأنني كنتُ أقيم معظم الوقت في لندن، كما قد تكون شاركت في معرض الفن العراقي في بيروت.

العزاوي وصديقه الناصري

الجميل في الفنانين العراقيين الذين تعرفت إليهم من زمان أنهم لا يعرفون الغيرة من المبدع الآخر، بل ويروجون لأعماله. وهكذا ذات ليلة، كنت برفقة زوجي في بغداد، اتصل بنا رافع قائلاً إن الفنان ضياء رسم لوحات جديدة، وقلت له هل نستطيع مشاهدتها الليلة في مرسمه لأننا سنعود إلى بيروت غداً؟ وقال: نعم. سنمر بكما إلى «فندق بغداد» ونصطحبكما إلى مرسمه حيث أعماله. ولأن زوجي كان أيضاً من عشاق الإبداع الفني (رغم اهتماماته السياسية) فقد تحمس لذلك، وقال ضاحكاً: معرض فني لضياء العزاوي لنا وحدنا ليلاً وقت العشاء. وذلك رائع.
وأعجبنا بالتطور في لوحاته التي رسمها بعد إقامة في صحراء العراق لسبب ما، ثم غادرنا المرسم. وما كدنا نركب السيارة العتيقة التي جاءا بها لاصطحابنا حتى انهمر المطر.

تحولت السيارة إلى مركب!

لم أكن أدري أن في وسع بغداد أن تسخو بالمطر هكذا، فكأن نهر دجلة طار إلى الغيوم وانهمر.. وتعطلت السيارة القديمة ورفضت أن تتابع السير. وهكذا هبط منها رافع وضياء لدفعها من بركة ماء تجمعت في الشارع بسرعة، وكاد زوجي ينضم إليهما لكنهما رفضا، وقالا إنه ضيفهما، وعرضت المساعدة، وقال رافع ضاحكاً: أنت سيدة ونحن نحترم المرأة ونخدمها، وهكذا (غطسا) في بركة الماء حتى الركبة.. وصرنا نضحك إذ قاما بتسمية أحذيتهما المبتلة «بالمراكب»، وأخيراً هدأ المطر وتركت السيارة، وقررا أنهما لن يعودا بنا إلى الفندق بل إلى مطعم للعشاء.. وهكذا ذقت ليلتها (السمك المسكوف) الذي لم أذق يوماً ما هو أشهى منه.

مطعم خاو على نهر دجلة

وقرر رافع وضياء أن نأكل جميعاً «السمك المسكوف»، ورفضا قائمة الطعام، وقلت لنفسي: لم لا؟ سأجرب طعاماً جديداً، وهي دائماً وجهة نظر زوجي الذي كان يأكل في لندن الأخطبوطات الصغيرة، وفي روما الأصداف الحية بعد أن يعصر عليها الحامض فترتجف ثم يلتهمها.
ويا لبئس حلوى الحشرات والديدان مقارنة بالسمك المسكوف، الذي لم أحاول أصلاً السؤال عن طريقة إعداده، لأنني أعرف أنني لستُ (طباخة جيدة) والكتابة هاجسي، أما الكباب في كردستان العراق الذي ذكره نجم الدراجي، ورز العنبر الجنوبي، فأحب أن أتذوقهما في المطعم ذاته الخاوي على شاطئ دجلة، لكنني أعرف أن شيئاً لا يتكرر، وأعترف بابتعادي بمقدار ألف سنة عن حلوى الديدان والحشرات، كما ذكر نجم الدراجي، وأشمئز من مجرد فكرة التهام ذلك.
كان المرحوم رافع الناصري، سعيد الحظ بزواجه من الأديبة العراقية مي مظفر، التي أصدرت كتاباً عنه، وحملت الوفاء لإبداعه. وفي بيتي لوحات لرافع الناصري أهداني معظمها وأجملها، ترسم بأسلوبه الخاص سهراتنا في المقبرة، وتلك حكاية أخرى.

الرفاق والمقبرة

ذات ليلة، سهرت ورافع والفنان وضاح فارس في حي الزيتونة وملاهيه لأكتب لهم تحقيقاً حول ذلك لمجلة «الحوادث» (لم تعد تصدر)، ثم غادرنا الملهى وبعدها غادرنا حي الزيتونة، حيث ملاهي ما قبل الحرب، ومشينا على شاطئ البحر في اتجاه الروشة حين شاهدنا باباً حديدياً عتيقاً ودفعه وضاح فانفتح ودخلنا، رافع ووضاح وأنا، فوجدنا أنفسنا في مقبرة (لم تعد موجودة بعد الحرب اللبنانية) ودخلناها وتسكعنا بين القبور، وهذه الزيارات الليلية إلى المقبرة أوحت للفنان رافع بعدة لوحات أهداني بعضها، وما تزال بحوزتي، واحترق بعضها الآخر في مكتبتي أيام الحرب اللبنانية. وأدمنت السهر في المقبرة، فقد كان عالمي العربي في نظري قد تحول إلى مقبرة بعد هزيمتنا أمام إسرائيل في 5 حزيران (يونيو). كما أوحت لي بقصة قصيرة بعنوان «الرفاق والمقبرة» نشرتها في كتابي «ليل الغرباء».

ذكريات تلغي بعض الأحزان الحالية

لكنني سأظل دائماً أتذكر تلك السهرة العراقية التي بدأت باكتشاف أعمال فنية جديدة لفنان كبير هو ضياء العزاوي، وما هو أجمل منها انعدام مشاعر الغيرة بين المبدعين العراقيين، وحماسة رافع لأعمال ضياء. وأتساءل أحياناً، ترى هل أقيم في بيروت معرض للفنانة أفانين كبة، وكنت أعيش يومها في لندن؟! وهل عرضت بعض أعمالها في معرض للفن العراقي! كانت تلك المعارض كثيرة في بيروت، عاصمة الإبداع العربي قبل الحرب؟ ذكرى تلك الليلة البغدادية التي بدأت باكتشاف الإبداع لضياء ثم صارت ليلة مبتلة بالمطر، وانتهت أجمل نهاية في اكتشاف «السمك المسكوف» في مطعم عراقي مرمي على شاطئ دجلة، تلك الذكريات تجعلنا اليوم ننسى وباء كورونا وحرائق الغابات والحروب الآتية ربما بعد استيلاء «طالبان» على الحكم.
الزمن يمر ومعه كل يوم أحزانه الجديدة، ولكننا نتذكر ما كان كأننا نحتمي بالذكريات، حتى ولو كان سهرة في مقبرة بعد أن كانت بيروت مثلاً تتحول إلى مقبرة للأحلام القديمة عن مدينة كانت عاصمة الفن والمعارض الفنية والندوات، وصارت تعيش في الظلام بلا كهرباء ولا ماء ولا قارورة غاز للمطبخ ولا صفيحة بانزين للسيارة.. مدينة كانت عاصمة للتعارف مع الفن العربي الإبداعي وصارت نموذجاً للانهيار والأحزان والفقر، حتى صرنا نحتمي بذكرياتنا في بغداد وسواها، من واقع لبنان الذي كان عاصمة للفن العربي من كل مكان، وصار عاصمة للأحزان!

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com