مقالات

الانسحاب الأمريكي من العراق… حبر على ورق.

بيدر ميديا.."

الانسحاب الأمريكي من العراق… حبر على ورق.

صادق الطائي

 

في الجولة الرابعة من الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية والعراق التي حضرها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في واشنطن كان المحور الأهم في النقاشات هو موضوع الوجود العسكري الأمريكي في العراق، أو بالاحرى جدولة انسحاب هذه القوات. «الكارتل» القريب لإيران في الحكومة والبرلمان العراقي يضغط على الكاظمي ليطلب من الرئيس جو بايدن إعلان الانسحاب العسكري من العراق، بينما مازالت بعض الأطراف السنية والكردية تطالب ببقاء قوات أمريكية بصفتها تمارس مهام التدريب والإشراف والمساعدة في تأهيل القوات العسكرية والأمنية العراقية.
يبدو أن ضغط بعض الفصائل الولائية المسلحة القريبة من طهران، والتي استمرت في توجيه الضربات للوجود الأمريكي «العسكري والدبلوماسي» برشقات من صواريخ الكاتيوشا لم تتوقف، وبات موضوع الرد الأمريكي على هذه الضربات عبر توجيه ضربات عسكرية لفصائل وميليشيات شيعية عراقية مسلحة في العراق وسوريا يمثل هاجسا مقلقا للكثيرين، إذ يمكن أن تتحول أي ضربة من هذه الضربات إلى شرارة قد تشعل أزمة كبرى كما حصل سابقا في الأحداث التي تداعت ووصلت مرحلة تنفيذ عملية اغتيال الجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس مطلع عام 2020 قرب مطار العاصمة بغداد.

تباين المواقف العراقية من القوات الأمريكية يصب في النهاية في تمني كل الأطراف ببقاء وجود محدود لتلك القوات

المفارقة إن إنطلاق جولات المحادثات الأمريكية العراقية والزيارات الدبلوماسية بين الطرفين باتت تلحق أو تسبق بزيارة من قادة فيلق القدس الإيراني كما حصل مؤخرا مع الزيارة «السرية» للجنرال قاآني التي تزامنت مع زيارة الوفد العراقي لواشنطن، وبات الأمر وكأن هنالك رسائل إيرانية تُحّمل لكل وفد عراقي يذهب للتفاوض مع الأمريكيين.
الإعلان الذي سوّقه الإعلام العراقي على أنه «الانتصار الكبير» لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي جاء على لسان الرئيس الأمريكي بايدن الذي قال يوم 26 تموز/يوليو لدى استقباله الكاظمي في البيت الأبيض «إن الولايات المتحدة ستباشر مرحلة جديدة من التعاون العسكري مع العراق». وأضاف:» لن نكون مع نهاية العام في مهمة قتالية في العراق، لكن تعاوننا ضد الإرهاب سيتواصل حتى في هذه المرحلة الجديدة التي نبحثها». وأكد أن «دور العسكريين الأمريكيين في العراق سيقتصر على تدريب القوات العراقية ومساعدتها في التصدي لتنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش).
عدد من المحللين والمراقبين للشأن العراقي وصفوا ما جرى في الأيام السابقة في واشنطن بأنه «مسرحية دبلوماسية» أو مجرد إعادة توصيف للوجود الأمريكي دون تغيير حقيقي على الارض، وبالرغم من أن البيان المشترك للجولة الرابعة من «الحوار الاستراتيجي» بين بغداد وواشنطن قد أكد على أن «العلاقة الأمنية سوف تنتقل بالكامل إلى دور خاص بالتدريب وتقديم المشورة والمساعدة وتبادل المعلومات الاستخباراتية، ولن تكون هناك قوات أمريكية تقوم بدور قتالي في العراق بنهاية الحادي والثلاثين من ديسمبر/ كانون الأول عام 2021 « إلا أن الواقع على الأرض هو عدم وجود تغيير، إذ إن القوات الأمريكية الموجودة التي يبلغ عديدها 2500 مقاتل هي قوات إسناد وتدريب، ولم تعد تمارس أي جهد قتالي ضد فلول تنظيم «الدولة» اذن ما الجديد في الامر؟
يجب أن نضع في اعتبارنا أن تباين المواقف العراقية من الوجود الأمريكي يصب في النهاية في تمني كل الأطراف ببقاء وجود أمريكي محدود في العراق. فالكرد يعتبرون الأمريكان ضامنا أساسيا لتوازنات العملية السياسية في العراق، كما يعتبرون الوجود العسكري الأمريكي، حتى إنْ كان محدودا، نوعا من الردع لتمادي الوجود الإيراني في العراق. كذلك تنظر القيادات السنية العراقية للوجود الأمريكي على أنه ضامن وملجأ يمكنهم اللجوء له في حال تغول القوى الشيعية واستخدام فصائلها المسلحة للسيطرة على المدن السنية، لذلك طالبت قيادات سنية عراقية مرارا بالإبقاء على الوجود العسكري الأمريكي في قاعدة عين الأسد في الأنبار. وحتى الفصائل الولائية القريبة من طهران فإنها تنظر للوجود الأمريكي على أنه نوع من التبرير»الوجودي» لاستمرارها في تبني ما تسميه خيار المقاومة، وبالتالي الإبقاء على حالة التوتر والعسكرة وسيطرة الميليشيات على الحياة العراقية، التي يمكن أن تخسر الكثير في حال الانسحاب الأمريكي الكامل من العراق. وتبقى الأحزاب الشيعية «المعتدلة» في الحكومة والبرلمان والتي تحاول أن تمسك العصا من النصف، فترضي واشنطن وفي نفس الوقت لا تغضب طهران، وهذا ما أفرزه الاتفاق الأخير.
اما وجهة النظر الأمريكية حيال أمر التواجد المحدود في العراق فيمكننا التعرف عليها من تقرير منظمة «راند» للابحاث ومقرها ولاية كاليفورنيا الذي نشر في آيار/مايو 2020 وقد تناول خيارات الولايات المتحدة في العراق. وقد خلص الباحثون بعد دراسة كل الاحتمالات بما في ذلك الانسحاب الأمريكي الكامل، إلى أن أفضل الخيارات أمام واشنطن يتمثل في التوسط في أمر الانسحاب، بمعنى الحفاظ على قوة صغيرة من المستشارين والمدربين. وأشار التقرير إلى إن» دعم عراق مستقر وصديق يخدم المصالح الأمريكية طويلة الأمد، فضلا عن أن التواجد الأمريكي طويل الأمد سيحافظ أيضا على النفوذ الأمريكي في العراق وبالتالي يمكن أن يساعد في تخفيف النفوذ الإيراني والروسي وأشكال أخرى من النفوذ الخبيث». كما أشار رمزي مارديني الباحث في معهد «بيرسون» في جامعة شيكاغو في تقرير يبحث في الوجود الأمريكي في العراق الى أن «التغييرات التي ستطرأ على الوجود الأمريكي في العراق لن تكون جذرية، بل ستهدف فقط لإعطاء دفع للمصالح السياسية لرئيس الوزراء الكاظمي بشكل أساسي مع اقتراب موعد الانتخابات المبكرة، لكن الوضع الراهن سيبقى كما هوعليه، أي استمرارية الوجود الأمريكي المحدود على الأرض».
ويمكننا ملاحظة ردود الأفعال الفرحة والمستبشرة بما حققه الكاظمي في واشنطن مما نشر من تصريحات، إذ رحب رئيس الجمهورية العراقي برهم صالح، ورئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي بما وصفاه بأنه «إنجاز كبير». كذلك كان حال تحالف النصر الذي يتزعمه رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي الذي أبدى في بيان رسمي تأييده لاتفاق الانسحاب، واعتبره «انتصارا للعراق ومصالحه وسيادته».
وبينما توعد قيس الخزعلي، الأمين العام لحركة عصائب أهل الحق، أحد أهم الفصائل الولائية، في كلمة له قبيل زيارة الكاظمي لواشنطن، قائلا إن «عمليات المقاومة مستمرة وستستمر حتى خروج كل القوات الأمريكية من كل الأراضي العراقية». نجد أن زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر قد شدد على وجوب وقف العمل العسكري لـ «المقاومة» ضد القوات الأمريكية، بالتزامن مع اتفاق الانسحاب الأمريكي, وطالب في بيان رسمي له بـ «وقف العمل العسكري للمقاومة مطلقا، والسعي إلى دعم القوات الأمنية العراقية من الجيش والشرطة لاستعادة الأمن وبسطه على الأراضي العراقية، وإبعاد شبح الإرهاب والعنف والمتطفلين وأدعياء المقاومة».
كما حثّ الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني، على أهمية الالتزام بالاتفاق الأخير بين بغداد وواشنطن، والابتعاد عن أي إجراءات تصعيدية. وفي وقتٍ سابق، رحب رئيس إقليم كردستان، نيجيرفان بارزاني، بنتائج الحوار الاستراتيجي بين واشنطن وبغداد، معتبرا أنها الطريق نحو الاستقرار الإقليمي والتعاون الاقتصادي والثقافي.
التصريح الأهم في هذا الصدد جاء من تحالف كتلة الفتح النيابية القريبة من طهران، والتي تضم أغلب الاجنحة السياسية للفصائل الولائية المسلحة المناهضة لوجود القوات الأمريكية في العراق، إذ صدر بيان عن كتلة الفتح يشيد بالاتفاق المبرم بين الكاظمي وبايدن، ووصف الاتفاق بأنه»خطوة إيجابية متقدمة باتجاه تحقيق السيادة الوطنية الكاملة». كما رحّب فصيل كتائب الإمام علي، أحد الفصائل الولائية المعروفة بشنها هجمات على الوجود الأمريكي في العراق، بما سمّاه «إنهاء الوجود الأجنبي». وربما جاء الاستثناء في ما أعرب عنه نائب الأمين العام لحركة النجباء، أحد الفصائل الولائية الأكثر تطرفاً، في مقابلة تلفزيونية، إذ أعلن عن رفضه التام لـ «أي وجود للقوات الأمريكية» في العراق، وهدد بـ»استمرار استهداف القوات الأمريكية في العراق حتى بعد تغيير المسمى».
المضحك المبكي هو ما حصل قبل أن يجف حبر إعلان «انتهاء المهمات القتالية الأمريكية في العراق» ففي يوم عودة الكاظمي من واشنطن، تلقت السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء في العاصمة بغداد ضربة بصواريخ كاتيوشا يوم الخميس 29 تموز/يوليو، وجاء تعليق حكومة الكاظمي روتينيا باردا «سنفتح تحقيقا في الأمر». فمتى ينتهي كل هذا التلاعب؟ وإلى أين سيصل العراق في ظل هذه التجاذبات؟
كاتب عراقي

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com