ثقافة

الكِتابَةُ والظلّ الأبْيَض.

بيدر ميديا.."

الكِتابَةُ والظلّ الأبْيَض

 

 واسيني الأعرج

 

سؤال محير ينتاب أي متأمل لفعل الكتابة، في أفق الإبداع والمسؤولية: هل الكتابة جهد فردي خاص، أي تنتجه عبقرية ما تأسست على قدر من الذكاء وعلى تجارب الحياة التي صهرتها وشكلتها، أم أنها شيء آخر أكثر تعقيدا، تحتاج إلى سند حقيقي، سند ما، له تأثيره في بقية المسارات الحياتية للمبدع؟ أي أن الكتابة في معناها الإنساني لا يمكنها أن تتأسس على جهد فردي فقط، ولكنها هي شراكة قد تكون مضمرة، تتجلى بمختلف الأشكال.

هناك دائما ظلّ ما، أبيض مثل النور لا أحد يراه أو يحس بوجوده إلا الكاتب نفسه. لا أحد يعرفه، أو يملك أسراره، يصاحب الكاتب، ويرافقه في رحلته، ويمنحه الكثير من حبه وسخائه، وربما من فيض تجربته. يرشده نحو الحق الذي كثيرا ما تغيبه الوسائط الإعلامية الحديثة بسبب مصلحي أو أيديولوجي أو ديني، ويرفع من سوية تحمّله كلما انهارت السبل وأصبحت المسالك مظلمة. لا هدف لهذا الظل الأبيض إلا المساعدة في أصعب اللحظات وأكثرها قسوة، والحضور الدائم قبل الانكسار. من يتتبع حيوات الكتاب سيلاحظ ذلك بقوة.

لا وجود لكاتب دون ظله الأبيض، ودون تلك اليد السرية الحنونة التي أوصلته بشكل ما إلى بر الأمان. هكذا حدث لدويستوفسكي وهو يفكر في الانتحار، ثم وهو يقاد نحو ساحة الإعدام القيصري. هكذا حدث لماركيز الذي لولا تلك اليد السرية لكان شيئا آخر غير الكاتب الذي نعرفه، وهكذا أيضا حدث لحنا مينا وهو يواجه حياة الميناء القاسية ومهنة الحلاقة، قبل أن يفلت من دورتها المغلقة. لم يخرج محمد شكري عن هذه الدائرة بلقائه بباولز.

قد يكون هذا الظل الأبيض من الدائرة القريبة، وقد يكون خارجها، غير محسوب في العلاقات العامة ويتبدى فجأة في عمق الظلام القاسي، يمنع الكاتب من السقوط في القاع. قد يكون صديقا مشبعا بنصوص الكاتب، يشتغل في مجال النقد أو الإعلام والنشر، رأى من الضروري وضع المنتج الثقافي في السوق والمشاركة في الترويج له لأنه يظن أنه مهم ويستحق.

قد يكون حبيبا عاشقا لحبيبته، يؤمن بما تقوم به سيدة قلبه، ويريد أن يمنحها الأجمل لان الحب ليس فقط لغة ولكنه يرتقي بها نحو الحياة. وقد يكون الظل الأبيض كتابا من كتب الصدفة، المشهورة، فسكن الموهبة وحدد مساراتها.

في حياة أي كاتب عظيم ظل كتاب صنع موهبته ووجهها نحو مبتغى كان يبدو مستحيلا ولكن الكاتب آمن به. من يتنصل اليوم من ثقل ألف ليلة وليلة على مؤلفاته، دون كيخوتي، الجريمة والعقاب، أولاد حارتنا… وغيرها كثير؟ حتى الأنبياء والرسل بكل رسائلهم التي حملوها وتحملوا من أجلها الويلات، لم تخل مساراتهم من الظلال البيضاء التي وُضعت في طرقهم لتنير مسالكهم في ظل الخوف والحروب والتهديدات الكثيرة.

قد يكون الظل الأبيض لا هذا ولا ذاك. مجرد صدفة قلبت مسارات وموازين الحياة كلها. من يقرأ سير الكُتّاب والمبدعين عموما، لا يحتاج إلى كبير معرفة ليكتشف دور الظل الأبيض الذي هو شيء حاسم في الكتابة والفن. لكن المشكلة الكبيرة هي أن هذا الظلّ المرافق لا وجود فيزيقي له في النهاية حتى ولو وُجِد، لأن الذي يظهر في المشهد الحياتي هو الكاتب وحده، أو الفنان بدون الأبيض الذي يتماهى في الكاتب نفسه. عندما يصبح المبدع مشهورا تحترق كل التفاصيل السابقة للشهرة، ولا يظهر منها الشيء الكثير إلا في حالة واحدة: اعتراف الكاتب بسلاحه الخفي الذي أوصله إلى سدة الشهرة والاعتراف. وكثيرا ما تمحو آلة الزمن الظل الأبيض المرافق للكاتب، والذي لولاه لماتت التجربة في بيضتها. وكأن محو الظل الأبيض هو أيضا جزء من فعل الكتابة. هناك مصائر وأقدار شديدة القسوة. تأتي هكذا صدفة، فتفرض نفسها على الإنسان ولا خيار له فيها.

قصة غريبة تلك التي جمعت الكاتب الجزائري الفرانكفوني الكفيف رابح بلعمري، بصديقته التي أصبحت زوجته لاحقا: إيفون لوفور. تجسد فكرة الظل الأبيض في الكتابة بامتياز. كل شيء بدأ بتلك اللحظة التراجيدية. عندما كانت الجزائر تحتفل بعيد استقلالها في 5 جويلييه 1962، كان رابح بلعمري، الطفل، يبحث عن بصره الذي غادره. فقد فوجئ بلعمري يومها بفقدان البصر بسبب انتزاع الشبكية. حل الظلام من حوله حتى وفاته. لنا أن نتخيل الحالة النفسية لشاب مقدم على الحياة في منطقة بوقاعة الفقيرة، التي كبر وترعرع فيها. تحول يوم الاستقلال عند رابح بلعمري إلى رماد، شبيه بسنوات الجمر والموت. سجل ذلك كله سيرته الروائية: النظرة الجريحة Le regard blessé. فكر بلعمري بعد الإصابة، في الانتحار، لكن ظلا ما في أعماقه منعه من ذلك، وقاده إلى شيء من التأمل، مسترجعا الكتاب العظماء الذين على الرغم من فقدانهم البصر، أصبحوا كبارا، أبو العلاء المعري، طه حسين، هيلين كيلر، بورخيس الذي تخيل الجنة، مكتبة واسعة، وغيرهم. فجأة تحول الانتحار إلى إرادة صلبة للتخطي. دخل إلى المدرسة وتعلم الكتابة والقراءة بطريقة البرايل. ثم التحق بالمدرسة العليا للأساتذة في الجزائر العاصمة، فعمق معارفه، قبل أن ينتقل إلى باريس في سنة 1972 من أجل مواصلة الدراسة في السوربون، حيث حضر بها الكفاءة ثم الدكتوراه. عمل أكاديميا على الشاعر الجزائري الكبير جون سيناك ذي الأصول الإسبانية، الذي كان يكن له حبا كبيرا على شجاعته وخياراته الفنية والنضالية. كان رابح بلعمري يحمل ميراثا ثقافيا كبيرا، خزنه من قريته ببوقاعة، ودونه لاحقا في قصص موجهة للأطفال. ظل في كل محاولاته الثقافية، يرفض القدر الذي فُرض عليه، ولم يقبل حالة فقدان البصر كنهاية لحياته الثقافية والإنسانية.

لكن أي ظل أبيض أخذ بيده وقتها؟ في فرنسا، تعرف بلعمري على إيفون لوفور كما حدث لسوزان، زوجة طه حسين التي منحت بصرها وحواسها الحية لزوجها. تعاطفت إيفون مع حالة صديقها رابح بلعمري، وأحبت إصراره على النجاح، فقررت مساعدته. وظلت تلح على أن عاطفتها تجاهه حقيقية ولا علاقة لها بالشفقة. وعلى الرغم من صعوبات الأهل، تخطت إيفون كل العقبات وتزوجت برابح بلعمري. لم تقف في وجهها العوائق الاجتماعية والحساسيات التاريخية. كانت مؤمنة به إلى درجة أن أصبحت بصره الغائب. بها قرأ وتذوق الفنون، وبها اكتشف الثقافات الإنسانية. إلى أن أصبح علامة ثقافية إنسانية واسعة الانتشار في المخملية الثقافية الباريسية. كانت ظله الأبيض الذي منحه البصر والأمومة والرعاية. دفعته وشجعته لكتابة سيرته الروائية التي كانت مشبعة بها، إلى غاية نشرها في سنة 1987، تحت عنوان:  النظرة الجريحة في أكبر دار نشر فرنسية: غاليمار.

تنبه يومها النقاد والمتبعون لتجربة روائية جديدة ومميزة تخترق القارئ بصدقها ورهافتها. حتى أنها عندما نسته الجزائر كليا، ولم تهتم به حتى ميتا (توفي في 28 سبتمبر 1995)، منحته إيفون وباريس مساحة صغيرة ليدفن فيها في مقبرة مونبارناس، بالشكل الذي يليق به. كانت إيفون ظله الأبيض لأن حياته ارتبطت بها بقوة. فقد أصبح في كفها حفنة من نور. لكن من يعرف سرّ هذا الظلّ ودوره في حياة بلعمري وحيوات الكتاب والفنانين الذين اخترقوا كل الحجب المانعة؟

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com