مقالات

النكروفيليا ” عشق الموت “

طقس ثلجي عاصف , الطريق المؤدي الى موقف الحافلات مغطى تماماً بالثلج لأرتفاع بضعة سنتميرات  , يتطلب الخروج مبكراً من اجل الوصول الى الموقف في الوقت المناسب , الثلج لم يكن ابيض تماما , كان المارة يغوروا بأقدامهم في الاعماق , مخرجين الطين المغطي للقاع فيخالط  سطح الثلج , مشوهاً نقاؤه .

منهم من يحمل رغيف خبز جاء به للأفطار , او  من يحمل كيس بيض , او حقيبة مدرسية ,الجميع يسرع بخطوات ثقيلة بأتجاه الموقف . رغم ان اغلبهم كان يتوجب عليه العودة في الاتجاه المعاكس نحو المنزل , الا ان الجميع سار بأتجاه اخر , لم يكن سوى العمال و التلاميذ من أرادوا فعلا ان يستقلوا الحافلة , اما الاخرون فكانت غايتهم مختلفة , لم تُدرك الا عندما توقفت شاحنة من النوع الذي يستخدم عادة في حمل المركبات و نقلها من مكان الى اخر , شاحنة عملاقة.

عندها تجمهر الجميع العجائز يقضمن بعض من الخبز و التلامذة يجمعون بعض كرات الثلج تأهباً للهجوم , المثقفون يمسحون زجاجات نظاراتهم الطبية , و يرتبون هندامهم ليليق بما تجمعوا لأجله , الرجال المسنين يكثرون من التسبيح و الاستغفار .

يستمر العمال على ظهر الشاحنة العملاقة بأجراء التحضيرات اللازمة , بينما يجلس شخص نحيل لم يرتدي سوى قميص نقشت عليه خطوط عمودية و بنطال بلون التراب , يرتجف بطريقة مبالغ فيها , من شدة البرد ! , رفعت الرؤوس فجأة  و وجهت الانظار الى الجزء العلوي من البناء الذي شيد على عجل و بحرفة من قبل العمال , ارتسمت مسحة غريبة على وجه الحضور , فخر ,لذة  شبيهة بتلك المسحة التي تغطي وجه من يشبع رغبة ما.

ازداد هذا البريق في اعينهم , عندما تهاوى ذاك الجسد النحيل بسحب الكرسي من تحت قدميه معلقاً بحبل يفوق بغلاظته , رقة جسده المتهالك , نفض ساقيه , تبول في بنطاله , و انتهى كل شيْ .

أُنزل و تم لفه على الفور , و ذهب كل الى غايته , و على وجهه ابتسامة غامضٌ سرها !

جاءت الحافلة و نقلتنا الى المدرسة الواقعة في حدود خارج المدينة , طوال الطريق و انا اتسائل ما كان سر الابتسامة , و نظرات الاعجاب و الفخر , اللذة التي زادت بريق اعين هؤلاء المتحلقين ؟

ما المتعة التي حققها لهم قتل سارق رغيف خبز بتلك الصورة المهينة !

لم أتمكن في تلك اللحظة من إيجاد تفسير و توضيح لما حدث , او التوصل الى فهم للأسباب القابعة خلف تلك الأبتسامات و النظرات البراقة للجثة المتدلية .

حتى اليوم الذي أكتشفت فيه كتاب “اريك فروم – ما وراء الاوهام ” و مفهومه “المصفاة الاجتماعية ”  و كيف يمكن للبيئة المحيطة بالفرد ان تكون مغذية و مولدة للموت .

يشير فروم في كتابه هذا الى ان المجتمع بأمكانه دفع الفرد الى كبت و رفض ما هو خير في اعماقه و استبداله بما هو شر و قبيح , لمجرد انه يناسب المصفاة الاجتماعية لذاك المجتمع.

يمكن التعبير عن مفهوم المصفاة الاجتماعية بعبارات بسيطة ( بأنه بما يشبه الغربال) , غربال يتألف من ثلاث طبقات او عوائق ( اللغة و المنطق و محرمات و مقدسات المجتمع الذي يعيش فيه الفرد ) , بمعنى ان كل رغبة او فكرة او شعور او ميل , كي يصل الى وعي الفرد عليه ان يمر من خلال هذا الغربال (المصفاة) .

اما في حال إعترض طريقها احدى تلك العوائق , فأنها تستبعد على الفور الى منطقة اللاشعور “اللاوعي” .

أذ أن التشابه مع القالب الاجتماعي السائد يشكل الهوية بالنسبة للفرد, و بالتالي فأن الخوف الناجم من فقدان الهوية اذا ما تعارضت مع توجهات و افكار و معتقدات السائد في المجتمع , يؤدي به الى الكبت و التماهي ” أذ أنه الخوف من العزلة و من النبذ و الطرد , الذي يدفع الناس الى ان يكبتوا ما هو محرم لأن النظر اليه قد يعني ان المرء مختلف عن الناس و معزول عنهم و لهذا فهو منبوذ منهم ”  فروم , ماوراء الاوهام.

هل يكفي كل هذا الشرح كأجابة لتساؤلنا عن سبب استمتاع الجمهور برؤية فعل القتل ؟ و الكشف عن سر الاشباع و اللذة المتولدة في اعينهم و هم يبصرون الموت؟

بالتأكيد سيتوجب علينا ان نعرج على كتاب “جوهر الانسان” للمؤلف ذاته “فروم ” و الافادة من تحليله لتوجهات الانسان المحركة لسلوكه داخل الجماعة و هما توجهي (النكروفيليا و البيوفيليا ) بمعنى اخر : حب الموت يقابله حب الحياة .

أذ يؤكد فروم في كتابه هذا على هذين التوجهين بوصفهما المحركان لسلوك الفرد في المجتمع , من خلال تمثلاتهما المختلفة التي تترائى في اشكال و صور مختلفة من التصرفات .

ماذا لو كان توجه مجتمع بأكمله نكروفيلي أي مُقدس للموت لغةً و منطقاً و قادر على ان يصيغ المسوغات المقنعة لتبرير و عقلنة كل اشكال الموت التي تحدث في محيطه , من المنطقي اذن ان  يستمتع ذاك الجمهور و هو يشهد اعدام ذاك السارق النحيل.

و إن كان هناك من يملك بذرة “بيوفيليا” عليه ان يكبتها و يتوحد مع نكروفيلية المجتمع , خوفا من العزلة و الرفض , او ان يمتلك الشجاعة في التحرر من مصفاة الموت .

 

بقلم الكاتبة

زينب كاظم

 

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com