مقالات

فلسطين: ما التحول الجذري في المواجهة الحالية؟.

بيدر ميديا.."

فلسطين: ما التحول الجذري في المواجهة الحالية؟

 

مثنى عبد الله

 

منذ عقود والغرب والأمريكيون والنظام الرسمي العربي كلهم يراهنون على أن النكبة قد باتت من الماضي، وأن صورها ومشاهدها ومآسيها وخياناتها كلها قد جفت على جدران الذاكرة الفلسطينية، لذلك كانت الاستراتيجية الجديدة تقوم على أمرين: الأول هو تدمير دول الطوق وقد حصل ذلك. فالعراق مُدمر وساحة صراع أمريكي إيراني ومُفلس.. وسوريا في الحالة نفسها مقطعة الأوصال بين الوجود الروسي والإيراني والتركي والمجموعات الجهادية. ولبنان مُفلس أيضا وفيه فساد كارثي وفقر وميليشيات.. ومصر والأردن يرتبطان بمعاهدات سلام مع الكيان الصهيوني.
أما الأمر الثاني فهو الانتقال من التطبيع والعلاقات السرية، إلى التحالف مع دول الأطراف، فشهدنا التطبيع العلني وصيغة تحالف بين إسرائيل والإمارات والبحرين، وكذلك التطبيع مع السودان والمغرب، وبذلك اعتقد العدو الصهيوني وحلفاؤه، أن منظومة أمنية إسرائيلية عربية وبرعاية أمريكية قد تشكلت لصالحه، وأنه بعد 73 عاما من تأسيس كيانه، بات وقد حقق أغلب أهدافه في تفكيك العالم العربي، خاصة دول الطوق، والتطبيع والتحالف مع دول الأطراف، واستغلال الثروات العربية، لكن المفاجأة الكبرى، التي لم يحسب لها حساب جاءت من الداخل. في التراجيديا اليونانية يقولون إنهم كانوا يُدرّسون المسرح التراجيدي ليس للتسلية، بل لتثقيف الناس بأن هذا هو الوضع الطبيعي لهم بعد خسارة أثينا الحرب ضد إسبارطة، أي أن المأساة والحزن والظلم والفقر والجوع هو قدرهم وعليهم القبول به، والاستثناء هو الأوضاع الجيدة. ويبدو أن الكيان الصهيوني قد اتبع هذا المنهج، وتصور أن النكبة التي حلت بأهلنا في فلسطين، وما تبعها من ظلم مضاعف، باتت قدر كل فلسطيني، ولابد من القبول به كمنهج حياة، وأن عليهم أن لا يتوقعوا يوما ما، انفراجة تمُن عليهم بحياة حرة كريمة. ووفق هذه النظرة، بنى الكيان الصهيوني سياساته للتعامل مع أهلنا في الداخل، فكان هنالك تواطؤ بين النظام السياسي والشرطة والمستوطنين للاعتداء عليهم، خاصة في مدن الساحل. وعلى الرغم من أنها دولة أمنية، لكننا وجدنا أن هنالك إمعاناً في ارتكاب الجرائم ضد الأوساط العربية، يقابله تلكؤ مريب من قبل الأجهزة الشرطية في معالجة ذلك، كما تم اعتماد سياسة التهميش والإذلال، وعدم فسح المجال لهم للوصول إلى الوظائف التي تتناسب مع مؤهلاتهم، واقتصار قبول تعيينهم بوظائف هي في أسفل السلم الوظيفي الخدمي، إضافة إلى المحاولات الخبيثة الرامية إلى وضعهم في سياق يتناسب مع المقياس الإسرائيلي، وهو تخليهم عن هويتهم الفلسطينية، وإرثهم وتاريخهم، لكن لا مساواة لهم مع الآخرين.
ومع كل هذه السياسات العنصرية، فإن الخطورة التي كان يراها العدو من عرب الداخل لم تختف من أجندته. ففي عام 1996 وعندما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في ولايته الأولى، تم تسريب تقرير إسرائيلي يشير إلى أن عرب 48 يشكلون خطراً كامناً ضد الكيان الصهيوني. كما تجلت العنصرية ضد العرب بشكل واضح في انتخابات عام 2015 عندما ناشد نتنياهو اليهود بأن يهرعوا للمشاركة في الانتخابات، لأن العرب اجتاحوا الصناديق على حد وصفه، ما يدل دلالة واضحة على أن أهلنا في الداخل يستقرون في العقل الصهيوني كخطر داهم، وأنهم في خانة الأعداء وليسوا في خانة المواطنة، وبذلك فقد امتد هذا الوصف على كل تفاصيل حياتهم، ووضعتهم إسرائيل في حالة استثنائية وغريبة جدا. فكانت السياسة المعتمدة معهم هو أن ينسوا أنهم جزء من الشعب الفلسطيني، وبذلك أطلقت عليهم تسمية عرب إسرائيل، أي بمثابة جزء تابع أو ملحق بها، لكنها في الوقت نفسه لا تريدهم أن يكونوا جزءا من دولتها. وهذا يتناغم تماما مع الدعوة إلى يهودية الدولة، التي أسس لها بن غوريون، وطالب بأن تكون دولة لليهود فقط. أما العربي فهو ليس مواطنا فيها لا من الدرجة الثانية ولا الثالثة ولا حتى من الدرجة العاشرة.

أهلنا في الداخل أظهروا للمجتمع الدولي أن القضية الفلسطينية لا يمكن تجاهلها أبدا، وأن انتصارهم بات واضح المعالم

لكن الصيرورة التاريخية تبقى قادرة على فرض شروطها وقوانينها، مهما تخيل البعض بأنهم قادرون على صنع الأحداث، اليوم يفرض عرب الداخل إرادتهم، فيحصل التحول الجذري الذي يراه العالم أجمع على أرضنا في فلسطين. لقد أسقطوا تسميات عرب إسرائيل وعرب 48، وأسقطوا التطبيع الذي كان يلوذ به العدو كمنظومة حماية، فتبين له أن الداخل هو من يهدده. كما فرضوا معادلة جديدة هي أن المساس بالقدس والمقدسات الإسلامية، يعني أن لا أمن ولا أمان في كل فلسطين المحتلة، وأن القدس هي الخط الأحمر لإسرائيل، وهو التحدي الأكبر الذي يفرضه أهلنا في الداخل، لأن العدو يعتبرها عاصمته الأبدية، كما أنهم يقولون لكل العرب والعالم الإسلامي، إن عملية تهويد القدس التي تبنتها إسرائيل منذ احتلال القدس الشرقية عام 1967 وصلت مراحل متقدمة، وأصبح الصراع اليوم على السيادة في ما يخص المسجد الأقصى. فمنع شباب القدس من البقاء عند باب العمود، وإخراج المعتكفين من داخل المسجد في شهر رمضان المنصرم، كلها دلائل على أن إسرائيل تقول، أنا لي السيادة على المكان، بما فيه المسجد الأقصى. لقد أعادت المقاومة الشعبية من قبل أهلنا في الداخل من أجل القدس والمسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، كل فلسطيني وعربي إلى مشهد النكبة والترحيل والتهجير. كما أنها أعادت القدس إلى موقعها في قلب القضية الفلسطينية، وفي قلب الاهتمام العربي والإسلامي والعالمي، وأغلقت مسلسل أوسلو ورموزه الذين مازالوا يصرون على أنهم (أم الولد وأبو الولد) رغم أنهم أرجأوا البحث في قضية القدس إلى نهاية مفاوضات السلام، ومازالوا يراوحون في مكانهم منذ ذلك اليوم وحتى الآن. وعلى الجميع اليوم أن ينصتوا إلى أن هنالك سياقاً وطنياً وسياسياً يفرضه أهلنا في الداخل على الإسرائيليين وحلفائهم وهو، أن إسرائيل كيان ذو منظومة استعمارية أقامت نفسها على أنقاض شعب كامل، وأنهم ليسوا طلاب تحسين ظروف معيشة وعمل، بل هم أصحاب هذه الأرض ولهم حقوق قادرون على انتزاعها، وهذا الشعور لا يمكن أن يذهب سدى لمجرد الحصول على ما يسمى المواطنة الإسرائيلية.
إن استراتيجية نتنياهو التي دعمتها الإدارة الامريكية السابقة، والتي تقوم على إعطاء الأولوية لتطبيع إسرائيل علاقاتها مع الدول العربية، تجد نفسها اليوم أمام اختبار حقيقي، فقد اعتقد الكثيرون أن القضية الفلسطينية قد هُمّشت بشكل نهائي واستراتيجي، خصوصا أن الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة بايدن دعمت سياسة التطبيع هذه، واعتبرتها إحدى الحسنات النادرة للإدارة السابقة. غير أن أهلنا في الداخل أظهروا للمجتمع الدولي أن القضية الفلسطينية لا يمكن تجاهلها أبدا، وأن انتصارهم بات واضح المعالم، مقابل تراجع إسرائيل بشكل حتى غير منظم في الكثير من المسائل السياسية والعسكرية، ومنها تأجيل قرار المحكمة الإسرائيلية العليا أيضا.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com