مقالات

دكتاتورية السوق.

بيدر ميديا.."

دكتاتورية السوق

عبد الحسين شعبان

شهدت نهاية الثمانينات من القرن الماضي تحوّلاً كبيراً في العلاقات الدولية، توّج بانهيار جدار برلين في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1989، الذي كان إيذاناً بانتهاء عهد الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، وولادة ما سُمّي بـ “النظام العالمي الجديد”، بقيادة الولايات المتحدة، وقد تجاوز هذا التغيير الجوانب السياسية والثقافية ليمتدّ إلى الحقل الاقتصادي والاجتماعي في إطار ما أُطلق عليه “نظام العولمة”.

والعولمة في أبسط تعريفاتها تعني: تيسير انتقال المعلومات والسلع والأموال والأفكار والعادات الاجتماعية والثقافية من الدول الصناعية المتقدّمة إلى أنحاء العالم، الأمر الذي يترتّب عليه انفتاح الأسواق وزوال الحواجز الجمركية وتقليص نفوذ الدولة الوطنية، لا سيّما في ظل الثورة العلمية – التقنية وتكنولوجيا المعلومات والإعلام والطفرة الرقمية “الديجيتيل”، والتي حقّقت تقدّماً هائلاً وغير مسبوق في مفهومَي الزمان والمكان، بحكم تحوّل العالم إلى “قرية صغيرة” متفاعلة على نحو متشابك، خصوصاً في الطور الرابع من الثورة الصناعية.

وأصبحت النيوليبرالية المرجعية الفكرية للعولمة، التي تقوم على عناصر عديدة أساسها اعتبار السوق الكيان المهيمن للرؤية الاقتصادية على نحو شبه مقدس وحرية تكاد تكون شبه مطلقة، وذلك بتحرير أسعار السلع والخدمات وخصخصة المجالات الحكومية ومشاريع القطاع العام، وإعادة النظر في دور الدولة لجهة إلغاء بعض واجباتها السابقة في رعاية المواطنين وتخلّيها عن دورها الاجتماعي والاقتصادي من جهة، وإلغاء وظيفتها في ضبط السوق، بتوسيع مجالها في حريّة انتقال السلع والخدمات والأفراد بلا مجهود من الداخل والخارج، أي بإغفال البُعد الاجتماعي لمفهوم العدالة واعتماد البقاء للأقوى اقتصادياً، وهكذا يصبح السوق في خطاب العولمة السياسي والثقافي هو الأساس.

والأمر لا يتوقف عند الجوانب الاقتصادية والسلع المادية، ولكن يمتد إلى الأبعاد الثقافية العميقة في التشكيل النفسي والقِيَمي للإنسان والمجتمع. وهكذا فالعولمة لا تستهدف الهيمنة الاقتصادية فقط، بل إنها تسعى لوضع اليد على الأنساق الثقافية المختلفة، وصبغها بلون مجتمع السوق، بحيث يتحدّد كل شيء في المجتمع بسعر السوق، حتى القيم الإنسانية والعلاقات بين البشر، لا سيّما تحت تأثير الإعلام الضخم والمفخِّم، ووسائل التواصل الاجتماعي. وكان فرانسيس فوكوياما المنظّر الأمريكي من أصل ياباني قد بشّر بذلك بكتابه: “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، معتبراً نمو الليبرالية الغربية الشكل النهائي لنظام الحكم.

واستندت ثقافة العولمة على أربع محاور أساسية وهي: نمط الاستهلاك وثقافته،  ونموذجها الأول: في الطعام المكدونالد، وذلك عبر دعاية غير مسبوقة. والثاني: ثقافة دافوس، القائمة على نخب من رجال أعمال وطامحين لبلوغ القِمّة، والثالث: ثقافة العقل أو النادي الثقافي، وأساسه شبكات أكاديمية ومؤسسات غير حكومية أو ما يسمّى بـ “المجتمع المدني”، المتأثر بالأفكار التي تروّج إليها المؤسسات الغربية وأيديولوجياتها غير البريئة، والرابع: الحركات السياسية المتأثّرة بالغرب والانفتاح، والداعية إلى مفاهيم عابرة لـ الوطنية والسيادة والاستقلال وحق تقرير المصير ومفاهيم العدالة الاجتماعية.

واعتمدت  الليبرالية على أدوات استخدمتها بشكل مؤثّر وفاعل مثل: الشركات المتعدّدة الجنسيات أو ما فوق القومية، والمؤسسات الاقتصادية العالمية، كـ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وحكومات الدول الكبرى وأدواتها مثل اتفاقية التبادل التجاري الحرّ والمناطق الحرّة وبرامج إعادة الهيكلة، إلى درجة أن الليبرالية الجديدة فرضت نفسها كفكرة مسيطرة وقوة مهيمنة متجاوزة الهوّة بين الشمال والجنوب، وبين الدول الغنية والفقيرة، وأصبح انتقال اللاجئين من الجنوب الفقير إلى الشمال الغني أحد مظاهر التغيير من دون أن تتهاون في مساعيها لاستتباع الدول والشعوب تحت مزاعم مناهضة الإرهاب الذي هو نتاج للتعصب ووليده التطرّف والعنف، وتحت شعار محاربته، تعمل على تأمين مصالحها، ولا سيّما بالهيمنة على الموارد الطبيعية وتأمين سيطرتها الاستراتيجية وحماية حلفائها.

وتناست الليبرالية شعاراتها التي بشّرت بها في الثلاثينات بالانتقال من دولة الحماية ودولة الرعاية إلى “دولة الرفاه” وفق النموذج الكينيزي، لأنها أصبحت تهدد المستقبل. ولعلها كانت مجرد “تراجع تاكتيكي” أيام الحرب الباردة، ورضوخاً لبعض مطالب الحركة الشعبية والعمالية في البلدان الرأسمالية.

هكذا سيكون غالبية سكان العالم خارج إطار المنافسة، لأن العولمة بطبيعتها تنحاز إلى الأغنياء على حساب باقي فئات المجتمع، فيزداد تركيز الثروة في أيدي الأقلية وتتسع الهوّة بين البشر، تحت عنوان البقاء للأصلح استناداً إلى نظرية داروين وتهميش الأقل قدرة، أي نزع البعد الأخلاقي عن عملية التنمية بحيث تصبح قوى السوق مساوية لقوى الطبيعة، وعلى الجميع الإذعان لها والتكيّف مع قوانينها، فلا مكان للتخلّف والفقر في هذه الغابة اللّاإنسانية، وذلك ما ينعكس اليوم على الصراع الأميركي – الصيني.

وإذا كان هناك وجه آخر للعولمة يقوم على عولمة الثقافة والحقوق والتكنولوجيا، لكن قوى السوق وديكتاتوريته ستشكّل رادعاً لعدم التراكم والتأثير على مسارها، بحكم جبروتها الاقتصادي ووسائل الإعلام الضخمة، التي تملكها، إضافة إلى ترسانة السلاح في إطار تقسيم ظالم وأنماط استهلاكية سريعة وموحّدة. فحتى الأحلام والأماني والأذواق والسلوك وأشكال الحياة ستكون منمذجة.

 

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com