خواطر

ليلة حزينة!.

بيدر ميديا .

ليلة حزينة!

 

غادة السمان

 

أعدت الليلة قراءة مقال أمير تاج السر بعنوان «مرثيدس طبعاً» المنشور في «القدس العربي» وفيه يقول إن مرثيدس كانت سنداً لزوجها الكاتب الكبير غابريال غارثيا ماركيز.
لماذا الليلة بالذات؟ لأنها ليلة الذكرى 13 لرحيل زوجي د. بشير الداعوق، بعد أربعة عقود تقريباً من الحياة المشتركة التي دعمني فيها ككاتبة في كل لحظة، كما دعمت مرثيدس ماركيز. يوم تزوجنا كان رصيدي ثلاثة كتب، ويوم رحل كانت قد صارت 40 كتاباً، بعضها تمت ترجمته إلى 20 لغة، وصدرَ عنها حتى الآن 20 كتاباً نقدياً بعضها بالروسية والإنكليزية والفرنسية وسواها، وباللغة العربية طبعاً.. وذلك كله بفضل دعمه.
وهذه الليلة الحزينة تذكرت مقال أمير تاج السر، وفيه يقول عن مرثيدس: «كانت مؤمنة بقدرات زوجها هذا لا شك فيه… بالقدر نفسه، يواجه كثير من المبدعين أجواء أسرية مؤسفة» وهذا صحيح إلى أبعد مدى.

أزواج يدعمون الزوجة الكاتبة

يضيف أمير تاج السر بكثير من الرهافة، أن المرأة المبدعة موجودة وثمة الرجل المساند لزوجته.. ويذكر كمثال على ذلك الكاتبة التركية المعروفة أليف شافاق، التي كان زوجها سنداً عظيماً وليس مجرد ظل لا يعيق مجرى الكتابة. تذكرت ذلك كله الليلة، في الذكرى 13 لرحيل زوجي د. بشير الداعوق الأستاذ في الجــــامعة الأمريكية، صاحب دار الطليعة، المستشار الاقتصادي لأمير الكويت، المدير لأحد البنوك، وذلك كله لم يجعله يتكبر عليّ، بل آمن بأبجديتي منذ كنت في دمشق، ونشرت لي «مجلة الآداب» اللبنانية قصصي الأولى، وصدر لي عنها أول كتابين.
زوجي الراحل دعمني أدبياً وكان يغضب إذا عاد إلى البيت ووجدني خلف طاولة المطبخ لا خلف طاولة الكتابة، ولولا دعمه لي لما استطعت الكتابة بحرية وشهية، ولما استطعت التفرغ لذلك.. على الأرجح.

القبور للأحياء لا للأموات!

زرت اليوم قبر زوجي في مقبرة مونبارناس (في الحي اللاتيني الباريسي) وإلى جانب قبره قبر سارتر وسيمون دو بوفوار، وانضم إليهم مؤخراً شيراك رئيس جمهورية فرنسا السابق، وسوف أنضم إليهم إذا تصادفت وفاتي في باريس لا في دمشق قرب (مقبرة الباب الصغير) حيث تدفن أسرتي، أو بيروت (مقبرة الشهداء ربما بالقرب من قبر غسان كنفاني) أو في اللاذقية مع أمي على شاطئ البحر. لا أحد يدري متى سيموت وأين سيدفن!
ثم إن الميت ليس حقاً مقيماً في قبره، بل تنتقل روحه إلى كوكب آخر.. وهذه المقابر كلها التي يضع الناس الأزهار عليها، ليست للأموات، بل للأحياء طبعاً لتكريم الذين رحلوا عن كوكبنا، ونترحم عليهم مرتين إذا كانوا خلال حياتهم قد دعمونا.
ولذا، كلما زرت قبر زوجي أقرأ الفاتحة ثم أشكره لأنه دعمني ربما بأكثر مما دعمت مرثيدس زوجها الكبير غابريال غارثيا ماركيز.
أجل، أعتقد أن المقابر للأحياء، يذهبون إليها ليقولوا، بلا صوت، امتنانهم للراحلين.

لن يقرع الباب ثانية!

يا لها من ليلة حزينة.. أتذكر وقلبي لا يشفق عليَّ!
ليلتها اتصلوا بي من المستشفى وطلبوا مني الذهاب إليها بطلب من زوجي.
كانت الساعة بعد منتصف الليل، وكان زوجي صباح ذلك اليوم على وشك الانتقال من غرفة العناية الفائقة لتحسن وضعه الصحي، وكان ابني قد ركب طائرته إلى نيويورك لأنه يعمل أستاذاً في إحدى جامعاتها، واطمأن على والده واضطر للعودة إلى عمله.
وصلت، ووجدت زوجي متمرداً على الموت بالسرطان المتوحش الذي ينتقل إليه من عضو إلى آخر، وقد قرر الموت بنوبة قلبية، وهكذا كان.
وشاهدته محاطاً بالأطباء وهو يحتضر، وتذكرت قول الشاعر: وإذا المنية أنشبت أظفارها/ألفيت كل تميمة لا تنفع.
وحين دخل السيد الموت إلى الغرفة في المستشفى شعرت بحضور خفي وانزلقت يد زوجي من يدي وأدركت أنه لن يقرع باب البيت ثانية كلما نسي مفتاحه!

يا أمير ألهبت جرحي!

مقال أمير تاج السر عن مرثيدس زوجة ماركيز ودعمها له، ذكرني بدعم زوجي لي، ولولاه لما كان ثمة كاتبة تدعى غادة السمان. أرفض شائعة هي أن الذكور العرب يقمعون المرأة العربية الموهوبة، ويريدونها عبدة للإنجاب والمطبخ والطاعة.. لكن لا يحق لأحد تعميم ذلك، وبالذات حين تفرض المرأة إرادتها بصلابة ومودة لا بعداوة استفزازية.

قلم يكتب بأصابع القلب!

لا أعتقد أن أمير تاج السر كان يتحدث عن مرثيدس وحدها، زوجة الكاتب الكبير غابريال غارثيا ماركيز، بل عن زوجات المبدعين اللواتي ينجحن في تهيئة «جو الكتابة، ويقول موضحا:ً «لا أقصد بتهيئة جو الكتابة أن يعم الصمت والهدوء في البيت، ولا يتحرك أحد، وإنما الجو النفسي» ويتابع موضحاً: «منح المبدع إحساساً أسرياً دافئاً بأن الأسرة تقدر كتابته وتدعمه، وتشجعه لينجز تماماً مثلما يدعم مريضاً داخل الأسرة بكثير من التشجيع. ولطالما شبهنا الكتابة بالمرض الذي يصيب بعض الناس ولا يجدون منه شفاء».
ولكن الكاتب، كما يعرف أمير تاج السر، لا يريد حقاً الشفاء من الكتابة، وقلمه يكتب بأصابع القلب، ربما لذلك كنت حين يحتدم لدي مرض الكتابة أهجر بيتي إلى غرفة في فندق أو شقة مفروشة، وكان زوجي الرائع الراحل يتفهم جيداً حاجتي للعزلة، لكنه يزورني حاملاً لي الطعام وأسطواناتي الكلاسيكية المفضلة.. ويرعى نمو أبطال روايتي الجديدة. إنه ببساطة زوج يستعصي على النسيان، ولم أهده مرة أحد كتبي إلا بعد رحيله، حيث أهديته كتابي «القلب العاري عاشقاً» ولو فعلت وهو ما زال حياً لظن البعض أنني أتملقه.. وثمة كاتبات عربيات أهدين بعض كتبهن إلى الزوج كرشوة، لأنه تركهن يكتبن ويصدرن الكتب، والأمثلة لا تعوزني لكنني لا أريد جرح شعور أحد. وأظن أن التعايش السلمي بين الإبداع والزوج والأولاد له صيغ كثيرة، جوهرها احترام قلم يكتب بأصابع القلب.

خسرت الحليف الأول لأبجديتي

برحيل زوجي في مثل هذا اليوم/هذه الليلة، قبل 13 سنة، كان عليّ أن أستمر وحدي دونما دعمه وتشجيعه. كان يقرأ كل حرف أسطره قبل إرساله إلى المطبعة، وينبهني: هذه ليست رقابة بل متعة.
إنه يريد أن يكون قارئي الأول، وذلك دعمني حقاً.. وما زال حتى اليوم بعد غيابه.. لكنني أعرف أن باب بيتي سيقرع ذات ليلة عاصفة ماطرة، حيث سأفرح حين أفتح الباب وأجد زوجي قادماً لاصطحابي معه إلى المقبرة.
إنها الليلة السعيدة التي أنتظرها منذ رحيله، وحتى يومها سأقول في ذكرى رحيله: أفتقدك يا بشير ولن أنسى دعمك لي.. وإلى اللقاء.
ومعذرة من القارئ إذا كنت قد سببت له الاكتئاب، (وليس بيننا من لم يعاقر رحيل الأحباب). معذرة، لكنني لا أعرف كيف أكتب غير صدقي.
وإلى اللقاء يا بشير.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com