مقالات

بابا الفاتيكان في العراق: أيّ رسائل؟.

بيدر ميديا ..

بابا الفاتيكان في العراق: أيّ رسائل؟

د. عبد الحسين شعبان*

“فلْتصمت الأسلحة، ولْيكُن الدّين في خدمة السلام والأُخوّة”. هكذا بدأ قداسة البابا فرنسيس كلامه أمام رئيس جمهوريّة العراق د. برهم صالح. وكانت زيارته (من 5 إلى 8 آذار/ مارس 2021) قد ابتدأت من بغداد إلى أور، مسقط رأس النبيّ إبراهيم الخليل (أبو الأنبياء) ومنها إلى النجف (مرقد الإمام عليّ) للقاء السيّد علي السيستاني وبعدها إلى الموصل التي شهدت دماراً وخراباً ووحشيّةً لا تُصدّق على حدّ تعبيره، إثر احتلال داعش في 10 حزيران (يونيو) من العام 2014، والذي استمرّ لثلاثة أعوام ونصف العام، واختَتَمَ زيارته بصلاةٍ مفتوحة في “بارك سامي عبد الرّحمن” في إربيل.

تُعتبر زيارة البابا إلى العراق تاريخيّة بامتياز لاعتبارات كثيرة:

– أوّلُها: أنّها أوّل رحلة للبابا خارج الفاتيكان بعد تفشّي وباء كورونا “كوفيد 19” في مطلع العام 2020؛ ولذلك فإنّ قراره اختيار العراق جاء بعد دراسةٍ وتمحيصٍ لاعتباراتٍ عراقيّة وإقليميّة ودوليّة، مثلما هو لاعتباراتٍ دينيّة لتأكيد علاقة الفاتيكان بالنجف.

– ثانيها: أنّها الزيارة الأولى للحَبر الأعظم إلى العراق، وقد توقَّع كثيرون أن يتمّ إلغاء الزيارة، لأنّها تأتي في ظرفٍ عصيب صحّي ونفساني وسياسي واجتماعي وأمني في العراق، فضلاً عن مُداهَمة الوباء، واستمرار الاحتجاجات الشعبيّة، كما وأنّ القصف من جانب المجموعات المسلّحة خارج القانون، ما يزال هو الآخر مُستمرّاً على السفارة الأميركيّة والمنطقة الخضراء، الأمر الذي قد يُحدِث ما لا تُحمد عقباه. يُضاف إلى ذلك أنّ تفجيراتٍ حصلت في قلب بغداد (ساحة الطيران) عشيّة زيارته (كانون الثاني/ يناير 2021) وكانت أوساطٌ عراقيّة محدودة جدّاً قد وضعت علامات استفهام على الزيارة ذاتها، مُعتبِرةً أنّ لها طابعاً دينيّاً وإعلاميّاً ظاهريّاً وطابعاً سياسيّاً واقتصاديّاً باطنيّاً.

– ثالثُها: أنّ اختيار البابا زيارة العراق وتوجيه رسائل عديدة منه، يعني في ما يعنيه أنّ العراق يشغل مَكاناً مُهمّاً في الاستراتيجيّات الكَونيّة السياسيّة والروحيّة، وهي التي دَفعت قداستَه إلى الإصرار على زيارته، في حين أنّ هناك دولاً مُهمّة لم يقُم البابا بزيارتها مثل روسيا والصين.

– رابعُها: أنّ الزيارة بحدّ ذاتها تعني رسالةَ تضامُنٍ مع العراق ككلّ، وخصوصاً بعد مُعاناته لسنواتٍ طويلة من حروبٍ ومُغامراتٍ وحِصارٍ واحتلالٍ وإرهاب.

– خامسُها: أنّها حَملت رسالةَ تعاطُفٍ وتضامُنٍ ودعْمٍ للمسيحيّين في مِحنتهم المُستمِرّة، وهؤلاء شعروا بأنّهم ليسوا وحدهم في مُواجَهة الظلام والفوضى والتهجير، وأنّ الفاتيكان يَقِفُ بكلّ ثقله معهم، وبقوّة، كما حَملت الزيارةُ الرسالةَ ذاتَها إلى الأيزيديّين الذين عانوا أشدّ المُعاناة، والتي ما تزال مُستمِرّة، وهي رسالة للأُخوّة الإنسانيّة وللتضامُن الإنساني.

– سادسُها: أنّ الزيارة هي ضدّ التعصُّب ووليده التطرُّف، وهذا الأخير إذا ما انتقلَ من التفكير إلى التنفيذ، وصار سلوكاً سيؤدّي إلى العنف، والعنف حين يضرب عشوائيّاً يُصبح إرهاباً، وحين يَستهدف خلْق حالةٍ من الذعر والهلع لإضعاف ثقة الدولة بنفسها، وإضعاف ثقة المُواطِن والمُجتمع بالدولة، يصير إرهاباً دوليّاً.

– سابعُها: أنّها رسالةٌ ضدَّ الطائفيّة والتمذهُب ودعوةٌ للمُساواة والتسامُح والسلام، فالعراق كبلدٍ يَمتازُ بالتنوُّع الديني والقومي والسلالي واللّغوي، مثلما يمتاز بالتعدّديّة والهويّات الفرعيّة، والتي كانت مُتعايِشة ومُنسجِمة في التطوُّر التاريخي وعلى مدى قرونٍ من الزمان، الأمر الذي يحتاج إلى تعزيز المُواطَنة المُتساوية والمُتكافئة من دون تمييزٍ أو تهميشٍ أو استعلاء.

– ثامنُها: الرمزيّة الكبيرة التي تحملها الزيارة، حيث أراد البابا تأكيد أنّ وَعْدَ البابا يوحنّا بولس الثاني لا يزال حاضراً، وأنّه شخصيّاً يريد الإيفاء به، ولاسيّما بتأكيد أنّ مسقط رأس النبي إبراهيم، هو العراق، وأنّه عراقي، وليس عبثاً أن يقول البابا مُخاطِباً العراقيّين “جئتكم حاجّاً”، في حين يحجّ إلى الفاتيكان ملايين المسيحيّين الكاثوليكيّين، ويُمثّل قداسته أكثر من مليار وثلاثمائة مليون مسيحي.

لقد أخطأ النِّظام السابق حين اعتذرَ عن الموافقة على زيارة البابا يوحنّا بولس الثاني في العام 2000، وكان جواب البابا أنْ رقّى بطرك الكلدان الكاثوليك إلى رتبة الكارديناليّة، بحيث أَصبح لمسيحيي العراق حقُّ الانتخاب والترشيح لمَنصب البابويّة عبر الكاردينال ساكو، عِلماً بأنّ البابا بولس الثاني في حينها استهجنَ إعلان الرئيس الأميركي جورج بوش الابن الحرب على العراق، باعتبارها “حرباً صليبيّة” واعتَبَرَها حَرباً غير مُبرَّرة أخلاقيّاً ودينيّاً، وهو الأمر الذي أدّى إلى فتور العلاقة بين واشنطن والفاتيكان.

– تاسعُها: اللّقاء التاريخي بين النجف والفاتيكان، حيث التقى البابا بالسيّد علي السيستاني، أحد أبرز المَراجِع الشيعيّة في تأكيدٍ غير منظور على أنّ مرجعيّة الشيعة هي في النجف تحديداً، وليست في قُم أو في مكانٍ آخر، وأنّ الزيارة استمرارٌ ومُواصَلةٌ للّقاءِ التاريخيّ بين أهمّ مَرجعَيْن روحيَّيْن في العالَم، يَوم اجتمعَ في أبو ظبي البابا فرنسيس بالدكتور أحمد الطيّب، شيخ الأزهر الشريف، وكنتُ آمل أن يزور البابا مَرقد الإمام علي، لما له من اعتباريّة رمزيّة وروحانيّة إنسانيّة للمُسلمين بشكلٍ خاصّ والمؤمنين بشكلٍ عامّ، خصوصاً وهو الذي جسَّد بُعداً إنسانيّاً في رسالته يوم خاطَبَ عامِلَه في مصر مالك بن الأشتر النخعيّ بقوله: لا تكُن عليهم (أي على الناس) سبعاً ضارياً لتأكلهم، فالناس صنفان: إمّا أخٌ لكَ في الدّين أو نظيرٌ لكَ في الخلق.

– عاشرُها: أنّ الزيارة، وما تمخَّضت عنه، صبَّت في مشروع التلاقي المسيحي – الإسلامي والعَيش المُشترَك معاً في المُجتمعات المُتعدِّدة الثقافات، وعلى المستوى العالَمي، فالإنسان أخ الإنسان وقد خلقهم الله جميعاً وفقاً للأديان الإبراهيميّة والتوحيديّة، ولذلك عليهم أن يأخذوا بعضهم بعضاً بالتسامُح، وعلى أساس المُساواة والكرامة والأُخوّة الإنسانيّة، وهو ما جسَّدته وثيقة أبو ظبي في 4 شباط (فبراير) 2019 والتي تبنَّتها الأُمم المُتّحدة في 22 كانون الأوّل (ديسمبر) 2020، حيث اعتُبر يوم 4 شباط (فبراير) من كلّ عام يَوماً عالَميّاً للأُخوّة الإنسانيّة، بتأكيد حريّة المُعتقَد والحقّ في الاعتقاد واحترام هويّة كلّ ديانة، لأنّ الجميع تحت سقف الأُخوّة، وذلك بتجسيد قيَمِ السلام والتسامُح، وهو ما تمنّاه البابا للعراقيّين إثر زيارته التاريخيّة.

اذاً، فلْتصمت الأسلحة، بحسب الحَبر الأعظم ولْتكُن رسالةُ الدّينِ وِفقَ تصوّرِه لخدمةِ البشر عبر الأُخوّة والتفاهُم والعَيش المُشترَك، بغضّ النَّظر عن الدّين والمَذهب واللّغة والقوميّة واللَّون والجنس، والأصل الاجتماعي، وهو ما يُمثِّل جَوهر الفكرة الكونيّة للحقوق الإنسانيّة.

لقد احتفى العراقيّون بمُختلف مَشاربهم واتّجاهاتهم وأديانهم وقوميّاتهم وأفكارهم بالبابا واعتبروا الزيارة مُناسَبةً للفرح والغبطة ولإظهار مَشاعِر المَحبّة، وليس الدّين سوى الحُبّ، وذلك تعويضاً عن الموت والدمار والتفجيرات والدماء والسبي والخَطْف، وقبل ذلك الحروب والحِصار والاحتلال، هكذا استُقبِلَ البابا بالرقصات الفولكلوريّة والمَلابِس الشعبيّة والاندفاع لمُلاقاة الضَّيف الكبير الذي تشرَّفت أرضُ العراق بحضوره.

استعادة أمين الريحاني

وقد استعدتُ بهذه المُناسَبة احتفاءَ النجف بالمُفكِّر المسيحي الأميركي من أصل لبناني “أمين الريحاني” واستقباله الحارّ قبل 100 عام تقريباً (1922) من طَرَفِ الشيخ المَرجع الديني محمّد حسين كاشف الغطاء والمَراجع الآخرين من أمثال: الشيخ عبد الكريم الجزائري والشيخ محمّد رضا الشبيبيّ والشيخ جواد الشبيبيّ، وكان الجواهري الكبير قد أَنشد حينها:

أرض العراق سعت لها لبنان

فتعانق الإنجيلُ والقرآن

وليس عبثاً أن يكتب البابا وبعد مُغادرته العراق (8 آذار/ مارس 2021) : “العراق سيبقى في قلبي أطلب منكم جميعاً أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أن تعملوا معاً مُتحدّين من أجل مُستقبلِ سلامٍ وازدهارٍ لا يُهمل أحداً ولا يُميّزُ أحداً”. فعلى الرّغم من جلبة الدمار والدماء فقد كان مَشهد أشجار النخيل التعويض الرمزي الذي رآه البابا وعبَّر عن ذلك بأنّه يُمثِّل رمزيّة الوطن في النموّ وفي إتيان الأثمار، وهكذا أيضاً هو الأمر بالنسبة إلى الأُخوّة، لكي لا تُحدث ضوضاء لكنّها تُثمِر وتجعلنا ننمو، كما قال.

إنّها قيَمٌ جديدة للأُخوّة واللّاعنف: فالردّ على الحرب ليس حَرباً أخرى، والردّ على السلاح ليس أسلحةً أخرى، الجواب هو الأُخوّة، وبالتالي المَحبّة. لعلّ ذلك بمثابة بَرنامج عملٍ لكلّ مَن يتوق إلى تحقيق قيَم السلام والتسامُح والعدل، وينبغي أن يتحوّل ذلك إلى خُططٍ ملموسة يتمّ الاعتماد عليها بالتربية والتعليم وإعادة النَّظر بالقوانين والأنظمة السائدة عبر مُواطَنة حقيقيّة وبعيداً عن أيّ إقصاءٍ أو انتقاصٍ للحقوق الإنسانيّة.

*كاتب من العراق

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com