مقالات

الاستبداد والقسوة والاستغلال وجور القوانين في العراق القديم.

بيدر ميديا ..

الاستبداد والقسوة والاستغلال وجور القوانين في العراق القديم

الحلقة الثانية

تجليات الاستبداد والقسوة في شرائع العراق القديم

2-6

عرف العراق القديم الكثير من القوانين والتشريعات وكان متقدما في عملية التشريع ذاتها وفي صياغة الأفكار المعبرة عن الحالة التي يراد وصفها وعن الموقف من المِلكية، وبالتالي الموقف من محاولات المساس بها. وهذا يعني بدوره أن العلاقات الاقتصادية في مجتمع العبيد حينذاك كانت متقدمة نسبياً في الموقف من الملكية الخاصة للأرض وبقية وسائل الإنتاج والإنتاج في آن واحد، إذ أن تقسيم العمل الاجتماعي المتقدم نسبياً قد أثر بدوره على بروز فائض إنتاج وعلى عملية توزيع هذا الفائض وسبل استخدامه. وما وصل إلينا أو ما أكتشف منها أو ما أمكن ترجمته حتى الآن لا يشكل إلا جزءاً مما وضع حينذاك في مجال التشريع ومستوى الوعي الاجتماعي والسياسي في تلك المجتمعات. 

فالمعلومات المتوفرة تشير إلى اكتشاف التشريع الأول المسمى “أورنمو”، مؤسس سلالة أور الثالثة في القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد، أي بحدود 2050 ق.م، وهو أقدم قانون مكتشف في تاريخ البشرية حتى الآن. وإلى جانب هذا القانون تم اكتشاف مجموعة من القوانين التي ت Tyranny and cruelty in Iraqعود إلى فترات لاحقة من تاريخ العراق القديم، وهي: قانون لبت عشتار، وقانون أيشنونة، وقانون حمورابي، ثم اللوائح القانونية للأشوريين والكلدانيين، عدا قانون أوروكاجينا الذي وضع قبل قانون أورنمو. وعند قراءة هذه القوانين سيجد الإنسان إنها قد تدرجت في سعتها وشموليتها لقضايا الاقتصاد والمجتمع والعلاقات العائلية وعلاقات الملكية وتوزيع الثروة والنزاعات والموقف من الدولة وبقية المشكلات التي عالجتها، وفي بنيتها الداخلية وصياغتها، وكذلك في اسلوبها التربوي والتحذيري وفي العقوبات التي فرضتها على المخالفين لبنودها. وابتداءً يجد الإنسان بأن هذه القوانين كانت تتسم بالخصائص التالية:

  • أنها قوانين صادرة عن الآلهة وموضوعة منها ويفترض في الملك الذي يتسلمها من يدي الإله أن يلتزم بممارستها وتطبيق العدالة والحق والأمن في البلاد من خلالها. أي إنها قوانين تمزج بين سلطة الإله أو الدين وسلطة الحاكم أو الملك وتفرض على الناس احترام تلك القوانين والالتزام بمضامينها والابتعاد عن مخالفتها، مستثمرين في ذلك إيمان أفراد المجتمع من النساء والرجال بالآلهة والدين والكهنة. وكان المشرع يريد أن يكرس الفكرة القائلة بأن هذه القوانين مُنزلة وذات طبيعة قطعية غير مساومة لأنها إلهية. وهي بطبيعة الحال قوانين وضعية، إذ أنها موضوعة من الفرد الحاكم أو من الفئة الحاكمة، وعلى رأسهم الملك وكبار كهنة المعابد والمعبرة عن مصالحهم ومصالح الفئة الارستقراطية المالكة لوسائل الإنتاج.
  • وأن هذه القوانين تهدف إلى تكريس سيطرة الملك المطلقة على الدولة والمجتمع والمعبد، رغم تقاسم بعض أوجه السلطة مع الكهنة، وأن تعبر في الوقت نفسه عن إرادة الآلهة والملك وعن وحدة السلطات في يديه، فهو المشرع أو المتسلم للتشريعات من الآلهة، وهو المنفذ لها وهو الإداري المشرف عليها، وهو القاضي الذي تصدر باسمه القرارات بحق المخالفين لتلك التشريعات. وهي تعبر عن مستوى تطور علاقات الإنتاج السائدة في المجتمع، أي عن مستوى تطور الملكية الفردية.
  • وأنها تنطلق من الأرضية الاقتصادية-الاجتماعية القائمة، من واقع التمايز القائم بين الفئات الاجتماعية من حيث الموقع الاجتماعي، والذي يستند بدوره إلى ملكية وسائل الإنتاج. فالعقوبة التي ينزلها القانون متباينة بالنسبة إلى مرتكبي المخالفات أو الذين ارتكبوا مخالفة متماثلة بالارتباط مع موقعهم الاجتماعي، سادة، أحرار وفقراء وعبيد. ولكنه كان صارماً في التنفيذ بالنسبة للجميع.
  • وهذا الواقع يعبر عن مستوى الوعي العام الذي بلغه المجتمع من جهة، والوعي الطبقي الذي بلغه المشرع العراقي من جهة أخرى، وقد تجليا في مواد تلك القوانين المعبرة عن طبيعة العلاقات الإنتاجية الاستغلالية التي كانت سائدة في المجتمع وتطرح بوضوح أربع أنواع من العلاقات، وهي:  
  • العلاقة المهيمنة على المجتمع والمعبرة عن علاقة الإله بالملك والمتحكمة بسن القوانين.
  • العلاقة القائمة بين الملك والكهنة والتي تعبر عن تحالف وصراع مستمرين، ولكنهما يجسدان سيطرتهما المشتركة على المجتمع.

ج. العلاقة بين الملك والكهنة من جهة والمجتمع بأسره من جهة أخرى مع التمايز في العلاقة بين الأحرار والعبيد.

  • العلاقة بين افراد المجتمع الأحرار، وفيما بين الأحرار والعبيد، وفيما بين العبيد.

وكانت هذه القوانين تبحث بالأساس في مسائل تنظيم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وتنظيم العائلة.

وعند دراسة تلك القوانين سيجد الإنسان وجود تباين فيما بين تلك القوانين، وبشكل خاص بين القوانين السومرية من جهة، والقوانين الأكدية من جهة أخرى، وبشكل خاص بشأن تلك المواد التي تفرض عقوبة الموت على مرتكبي المخالفات بدلاً من عقوبة التعويض.

 

قانون أوروكاجينا أو الإصلاحات الاجتماعية

 

 

تشير المعلومات المتوفرة التي عثر عليها في أنقاض لگش إلى أن السومريين عرفوا قبل قانون أورنمو تشريعاً آخر هو قانون الملك أوروكاجينا الذي حكم في المنطقة بحدود 2351 ق. م. بعد أن اشتد الصراع بين السلطة الحاكمة وكهنة المعابد، وكذلك فيما بين كهنة المعابد، ثم بين بين الفقراء والأغنياء في المجتمع السومري القديم. لقد مزقت الخلافات المجتمع وأصبحت الظروف ناضجة في حينها لتغييرات فعلية، فكانت الانتفاضة المناهضة للملك الظالم لوغال آندا. ويشار إلى أن الأوضاع الاجتماعية والفقر الجماعي الذي شمل لگش كان شبيهاً بما حصل في فترة حكم الملك أياناتوم. وبالتالي ارتفعت الشكوى ضد الوضع حينذاك، إذ أن الشعب فقد حقاً كافة حقوقه في هذه الفترة، مما لم يعد ممكناً تجاوز الوضع القائم. وتشير إلى ذلك بوضوح المقاطع التي سجلها الملك أوروكاجينا، الذي ارتقى سدة الحكم عبر الفقراء وجزء من كهنة المعابد، على نقش نقرأ فيه ما يلي: 

تعدى حاكم لگش على حقوق المشاعيات لمصلحة “الأقوياء” وحرق “المراسيم القديمة” وفرض ضرائب غير شرعية لحسابه وحساب الكهنة، وعين المفتشين والموظفين لمباشرة مضاعفتها أحياناً، وشرع الكهنة الذين لم يكتفوا بالضرائب المفروضة يسلبون السكان. فانتزعوا من السكان مواشيهم ودواجنهم، والأشياء النحاسية، والملابس، وأجود أشجار البساتين وثمارها، وطلبوا رسوماً باهظة لدفن الموتى. واحتكر لوغال آندا وكبار موظفيه أصواف أجود أنواع الأغنام، وفرضت ضريبة محددة (5 شيقلات من الفضة) على كل رأس من الأنواع الأخرى، كما استحدثت رسوم وضرائب أخرى. وهكذا ازداد الأغنياء (الأقوياء)غنى وتضاعف بؤس الفقراء حين كان القوي ينهب ثمار جهد الضعيف وتغتال حقوقه” (أنظر: دلّو، برهان الدين. حضارة..، مصدر سابق، ص 214).  

أصدر الملك أوروكاجينا إصلاحاته باسم الإله ننرجسو موضحا الأسباب التي دعته إلى تلك الإصلاحات من جهة والإصلاحات التي أدخلها لصالح الفقراء ضد الأقوياء وضد الكهنة الذين ساهموا مع الأقوياء في استغلال الضعفاء والفقراء فكتب يقول:

“أبقار الآلهة استخدمت لسقي الأراضي الزراعية المقطوعة لإنسي، الأراضي الخصبة تشكل إقطاعيته، وهي موضع سرور أبسي. الحمير والأبقار الجميلة كانت تصادر من قبل الكهنة، الحبوب توزعها الكهنة على أناس أينسي. أي كاهن في أي ناحية كان يقلع أشجار حديقة أم فقيرة لنفسه، كما كان يقطف ثمارها لصالحه. وإذا ما دفن ميت كان الكاهن يأخذ سبع قراعات بيرة كمشروب له، و420 رغيف خبز و120 سلة قمح لطعامه، إضافة إلى رداء وكبش صغير وفراش لنومه”. (Helmut Uhlig, Die Sumerer, Volk am Anfang der Geschichte; C. Berrelsmann Verlag, München, 1976, S. 231).                                       

ونتيجة هذا الظلم قرر الملك الجديد ما يلي:

“بعد أن منح ننجرسو مملكة لگش إلى محارب أنليل، أوروكاجينا أعاد العمل باللوائح القديمة. ألغى التعريفة التي كانت تدفع للمراقبين عن الخروف الأبيض وعن الحمل. وأبعد المراقبين الذين كانوا يجلبون المدفوعات النقدية عبر الكهنة إلى القصر. لم يعد هناك مراقبين عند حدود منطقة ننجرسو. عندما كان يدفن ميتاً كان يتقاضى الكاهن 3 قراعات بيرة كمشروبات له، و80 رغيف خبزٍ لطعامه، وكان يأخذ لنفسه فراشاً وكبشاً صغيراً. لم يعد هناك كاهناً يمكنه أن يضايق أم فقيرة ويلج حديقتها في أي ناحية كانت. إذا ولد لأحد رعايا الملك حماراً جيداً وقال له رئيسه: “أريد أن أشتري منك هذا الحمار”، وإذا كان موافقاً على عملية الشراء، فيبتغي أن يقوله له: كلفني الحمار كذا مبلغ، فادفعه لي. هكذا أمر الملك، وبالتالي حرر الناس في لگش من الجفاف والسرقة والقتل. هو الذي طبق الحرية. لم يرتكب أي عمل غير عادل بحق اليتيم والأرملة بعد ذلك. ننجرسو عقد هذا الاتفاق مع أوروكاجينا”. (أنظر: المصدر الألماني السابق نفسه، ص 231).  [ملاحظة: الملك لوغال آندا، الذي أطلق على نفسه أينسي وهو ابن الكاهن الذي تربع على العرش مؤقتاً ونصب ابنه ملكاً على عرش لگش. ك. حبيب]. 

ونتيجة لهذه الإصلاحات سُمي بملك الشعب، كما يشير إلى ذلك الكاتب الألماني هيلموت أوليغ. أما المؤرخ والآثاري المعروف البروفسور بورشارد برينتيس فيذكر بان هذا الملك لم يستطع أن يتخلص من تأثير النخبة الحاكمة والكهنة رغم الإصلاحات التي أجراها، أي أنه لم يقم بثورة اجتماعية تغير الوضع القائم كله، بل أجرى إصلاحات اجتماعية تنقذ النظام القائم من المخاطر التي كانت تحيط به بسبب شدة الاستغلال والظلم والجور التي سلطت على رقاب الناس من جانب الملوك والكهنة. وبمعنى آخر أن الملك أوروكاجينا سعى إلى إنقاذ الطبقة الحاكمة من غضب الطبقات الكادحة والمستغلة. ( Brentjes، Burchard Prof. Dr.Die orientalische Welt. VEB Deutscher Verlag der Wissenschaften. Berlin, 1972. S. 69).

ويشار إلى هذه الفترة بأن الناس بدأوا يتصورون أن المجتمعات السابقة كانت لا تعاني من الظلم والجور مثل ما هم عليه الآن، إذ كتب أحدهم يقول:

منذ زمن بعيد لم تكن هناك حيّات، ولا عقرب، لم يكن هناك ضبع، ولا خوف ولا فزع. لم يكن للإنسان عدو.”. (.  Ebenda. S. 69.  الكتاب باللغة الألمانية، المصدر السابق نفسه) ويشار إلى هذه الفترة بأن الناس بدأوا يتصورون أن المجتمعات السابقة كانت لا تعاني من الظلم والجور مثل ما هم عليه الآن، إذ كتب أحدهم يقول:

       “منذ زمن بعيد لم تكن هناك حيّات، ولا عقرب، لم يكن هناك ضبع، ولا خوف ولا فزع. لم يكن

       للإنسان عدو.”. ثم يواصل الباحث الدكتور عبد الوهاب حميد رشيد في كتابه عن حضارة وادي  

      الرافدين إلى أن هذا المصلح الاجتماعي اتخذ قرارين بشأن المرأة، وهما: منعها من تعدد الأزواج  

      أولاً ورجمها بالحجارة ثانياً، (رشيد، عبد الوهاب حميد د. مقومات التحول الديمقراطي والمجتمع المدني،    

دار المدى. دمشق 2004).  وهي العقوبة التي أخذ بها الإسلام بالنسبة للزانية من النساء، وهي من أقسى العقوبات على الإنسان وأكثرها إهانة لكرامته وأدميته. (أنظر: مهدي، فالح د.، البحث عن جذور الدولة في الإسلام، في: مجلة النهج، العدد 24/2000، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، دمشق، 2000، ص 13). ولم يكن الملك أوروكاجينا مصلحاً اجتماعياً في الموقف من المرأة، بل كان ظالماً وقاسياً جداً.                      

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com