مقالات

أحم ، عندنا أنتخابات ٤من ٧.

بيدر ميديا ..

الباحث عبد الحميد برتو .

محطات في عملية تخريب الوعي الوطني
أصبحت لعبة الإنتخابات البرلمانية، حالة دولية عامة. تفرضُ نفسَها على الجميع ويُراقصها الجميع. تحتاجها الدول المتقدمة والمتخلفة، الغنية والفقيرة، الحرة والمُسْتَعْبَدَةُ، وكذلك الأنظمة الديمقراطية والدكتاتورية. يدعو لها الملحد والمتدين، العامل وصاحب العمل، السجين والشرطي والمقتول والقاتل. ولكن في كل الأحوال لكل منهم تصوره، ولا يجمع بينهم سوى الأسم والشكل.

تمارس الإنتخاباتُ في الدول المتقدمة عبر نفوذ المال والإعلام والعمليات البارعة المرنة وغير المنظورة. وهي تمارسها في الدول التابعة بالحيلة والرشوة والتزييف والقسوة عند الضرورة. تقوم لعبتها الرئيسية في الدول الإستبدادية على التخويف والتزييف والبطش والرجل الواحد والإختيار الواحد. أما في بَلدنا المستباح ـ العراق فقد جَمَعَ “المَجْدَ” من كل أطرافه: المال الحرام، التخويف، الإبتزاز، السلاح الحكومي والمليشياوي، القتل تحت عنوان طرف ثالث، الإرشاء، التصفيات الجسدية في غرف الإهانة والتعذيب، وحتى الإغتيال المعلن في الشوارع وحتى في البيوت، الذي بلغ عدد ضحاياه المئات. هذا فضلاً عن وفرة التدخلات الخارجية الفجة، من الصغار والكبار، إقليمياً ودولياً.

إن الجهود التي تبذلت على صعيد الفكر ليست أقل خطورة من تلك الأساليب الدموية والعدوانية التي أشرنا إليها. إذ تم ويتم اللغو لإيهام الناس بأن الديمقراطية هي الإنتخابات. يرافق ذلك تشويه مقصود لمفهوم الأقلية والأكثرية السياسية، والإرتكاز على مفاهيم دينية وعرقية وأثنية لتفكيك المجتمع وخلق روح التناحر بين أبنائه، بما يسهل على الفاسدين السيطرة عليه، وإنتهاك حقوقه الأساسية.

إن شركاء “العملية السياسية” البائسة كافة، تضامنوا بقوة على الكثير من حالات التعتيم والتعميم وخلق التشويهات الفكرية والسياسية. خاصة على حقيقة أن الديمقراطية السياسية بكاملها، وليس أحدى وسائلها ـ الإنتخابات، لا تعني الكثير في أكثر المجتمعات تقدماً وإستقراراً، إذا لم ترافقها الديمقراطية إلإجتماعية، أي تلك الإجراءآت والقوانين ذات الحساسية الإجتماعية العالية، التي تضمن قدراً مناسباً من الحريات السياسية الى جانب، بل وقبلها، ضمان العيش الكريم والآمن لجميع المواطنين.

من الضروري مواكبة تطورات ما عرف بـ “العملية السياسية” منذ لحظاتها الأولى. فمن المعروف في تاريخ الإحتلال، أي إحتلال، إنه ما أن يتم القضاء على صمود القوة العسكرية للبلد المحتل، تفرض القوات الغازية نظاماً لضبط حياة الناس والممتلكات العامة. وهذا ما لم تمارسه القوات الغازية، بل شجعت على نقيضه، منذ تقدمها صوب بغداد في 9 أبريل/ نيسان 2003. مما أدى الى وقوع أعمال نهب كبيرة في بغداد وغيرها من المدن العراقية. تواصلت تلك الحالات لاحقاً في كل مرافق الدولة الى يومنا هذا. ولكنها بتنظيم مافيوي أدق، وعلى أعلى المستويات في قيادات الإحتلال والصف الأولى من خدمه، لتسرق العراق كله. ليس سرقة الأموال والممتلكات والإمتيازات والنفوذ السياسي، وإنما سرقة أمن وكرامة وسلامة المواطن والوطن، وحتى أجراء هامة من المستقبل.

صدر قرار من سلطات الإحتلال (سلطة الائتلاف الموحدة) بتشكيل مجلس الحكم ومنحه صلاحيات جزئية في إدارة شؤون العراق. كانت سلطة الائتلاف الموحدة تمتلك الصلاحيات الكاملة حسب قوانين الحرب والإحتلال العسكري المتفق عليها في الأمم المتحدة. امتدت فترة الصلاحيات المحدودة والمعيبة لمجلس الحكم من 12 تموز/ يوليو 2003 ولغاية 1 حزيران/ يونيو 2004. ثم حَلَّت الحكومة العراقية المؤقتة محل مجلس الحكم. تشكلت أول حكومة عراقية مؤقتة، تحت إشراف الإحتلال الأمريكي برئاسة إياد علاوي، للفترة من 28 حزيران/ يونيو 2004 إلى 6 نيسان/ أبريل 2005.

إن مجلس الحكم هو ثاني هيئة يُشكلها الإحتلال الأمريكي بعد سلطة ما عُرف بالائتلاف الموحدة برئاسة بول بريمر لإدارة شؤون العراق. هذا المجلس أدارته القوات الغازية. كشف خلال فترة حكمه، التي دامت نحو عام واحد، عن توجهاته الرجعية بإلغاء قانون الأحوال المدنية، الذي يعتبر من أبرز المنجزات الإجتماعية لثورة 14 تموز/ يوليو 1958. سادت في المجلس نزعات تفتقر الى الأخلاق والروح الوطنية، حيث إتخذ من يوم سقوط بغداد تحت الإحتلال في 9 نيسان/ أبريل 2003 عيداً وطنياً في العراق، وقرر كذلك تبديل العلم العراقي.

ضَمَّ مجلسُ الحكمِ 25 عضواً. يُنْتَخَبُ أَحَدُ أعضائه رئيساً لمدة شهر حسب الترتيب الأبجدي. عقد المجلس أول اجتماع له في 13 تموز/ يوليو 2003. كما يُرفق أو يُتبع لكل عضو أساسي عضواً واحداً أو أعضاءً مناوبين. إن نتائج تأسيس مجلس الحكم وما أعقبته من حكومات وإنتخابات كان الهدف منه ومنها تفتيت وحدة ووجود المجتمع العراقي. يقع في وهم عظيم من يظن أن تلك التحركات لم تكن مدروسة من قبل المحتل وخدمه وأعوانه وشركائه الإقليميين.

ربما من الضروي والمناسب الآن طرح بعض الإسئلة، مثل: لماذا لم تتشكل مقاومة وطنية ضد الإحتلال على نطاق واسع؟ وماهي الممارسات التي أوصلت بلداً مهماً وتاريخياً مثل العراق الى الحالة التي هو فيها؟ لاشك في أن هذين السؤالين يحتاجان الى أبحاث معمقة تدرس الخلل الذي فينا أولاً، مما ساعد أعداء العراق على إستغلاله. كما لا ينبغي أن نتجاهل الجهود الظالمة للأطراف الخارجية، من أجل التوصل على خلاصات تخدم نضالنا الراهن وتحمينا مستقبلاً.

علينا جميعاً تقع مسؤولية تشخيص الأسباب الأساسية لمأساة وطننا الراهنة. ينبغي أن ندحر كل عمليات إلقاء المسؤوليات على الأطراف الإجتماعية المغلوبة على أمرها، التي وظفت دون وعي منها، وعلى الضد من مصالحها الأساسية. كل أعداء العراق لا يريدون أن ينتزع منهم أهم سلاح في أيديهم، وهو تأليب بعضنا على البعض الآخر. كلنا أبناء هذا البلد ضحايا. بديهي أن لكل طرف عراقي لديه ما يكفي من مؤشرات وأحداث لنقد، وربما إدانة الطرف الآخر. هذا مرض ينبغي الشفاء منه، والتعلم من منطق شباب العراق، الذي عبر عن نفسه في إنتفاضة تشرين الأول/ اكتوبر.

فيما يخص السؤال الأول حول أسباب ضعف المقاومة ذات الطبيعة الوطنية. يمكن إدراج ما يلي:
ـ استخدم النظام السابق القمع والبطش ضد خصومة السياسيين مما حرم الشعب العراقي من وجود معارضة وطنية راسخة الجذور والبناء في الداخل.
ـ العلاقات العدائية بين النظام السابق والجيران مما ساعد قوات الإحتلال على إستخدام أراضيهم ونفوذهم لصالح الإحتلال بكل غباء وأنانية. منهم من فتح أراضيه للإحتلال علناً، ومنهم من فتحها سراً. كما إن دعمهم للمحتل ليس جزئياً وليس قليل التأثير.
ـ دخلت جميع القوى السياسية والأحزاب ذات الطبيعة الدينية والقومية وحتى المدنية، التي يعرفها الناس في مجلس الحكم. هذه الحالة جعلت كل الأطراف الوطنية شركاء في “العملية السياسية”، التي أدارها ونظمها الإحتلال وشركاؤه الإقليميون والمحليون بصورة مباشرة وغير مباشرة. لا تقف تلك المشاركة عند حدود وقتها، بل حرمت المشاركة تلك الأحزاب من جدية تعديل مواقفها، ومن ثقة الشعب بمصداقيتها، وحرمت الشعب منها أيضاً، على إعتبار أن تلك الأحزاب سلاح سياسي أو أداة للنضال الوطني الأكثر تنظيماً.
ـ عارض وطنيون كثر الإحتلال، وقبله الحصار الإقتصادي الإجرامي بحق كل الشعب العراقي. ولكن تلك المعارضة ظلت داخل أحزابهم. في نهاية المطاف وجد الوطني العراقي نفسه دون غطاء سياسي منظم، وربما تعرض بعضهم الى دفع أثمان باهظة لذلك الموقف، الذي يُكسب صاحبه راحة الضمير على الأقل.
ـ عرقل قيام مقاومة وطنية واسعة ومنظمة ضد الإحتلال، على أيدي القوى الوطنية الصادقة، تصاعد وبروز وتصدر دور قوى الإسلام السياسي المتشددة وأطراف أخرى ذات طبيعة إرهابية. مما أغلق الباب أمام نشوء مقاومة وطنية ذات برامج واضحة، تؤكد على حقيقة أن الأوطان لا تبنى إلاّ على أيادي أبنائها الأوفياء.

وبصدد السؤال الثاني عن الأسباب التي أوصلت العراق الى ما هو عليه، ولاسيما الحالات التناحرية بين أبنائه. نقول: معلوم أن الإدارات الأمريكية والإقليمية خططت طويلاً لتأجيج وتوظيف واستثمار العوامل الدينية والعرقية والإثنية لتسهيل إمكانيات التسلط على كل الشعب العراقي. وهذه أمور تتطلب من جميع الوطنيين عدم إهمالها ودراستها بعناية وحذر شديدين. لنعمل هنا على مسك بعض العوامل، التي ساهمت بشكل فعال في تأجيج وتعميق مأساة العراق، وإيهام الوطني بأن إبن وطنه الآخر يُشكل خطراً عليه وعلى إحتياجاته ومصالحه وأحلامه. منها:

ـ تصاعد الأعمال الإرهابية التي لا تخدم الشعب العراقي. يتطلب الأمر دراسة تلك الأحداث، دوافعها وقواها المعلنة والغامضة. ومن تلك الأحداث: هجوم بالقنابل في آب/ أغسطس 2003 على السفارة الأردنية ببغداد ومقتل 11 شخصاً، هجوم على مقر الأمم المتحدة ببغداد وقتل 22 شخصاً، من بينهم مبعوث الأمم المتحدة. مقتل 125 شخصاً في انفجار سيارة ملغومة بالنجف، مقتل العشرات بانفجارات تشرين الأول/ أكتوبر 2003 في بغداد، من بينها هجوم على مكتب الصليب الأحمر، مقتل أكثر من 100 شخص خلال الهجوم، الذي وقع في تشرين الثاني/ نوفمبر 2003 بأربيل، وقوع هجومين مزدوجين في فبراير/ شباط 2004 على مكاتب الأحزاب الكردية الرئيسية، مقتل 114 شخصاً على الأقل في 28 شباط/ فبراير 2008 من جراء سيارة ملغومة في مدينة الحلة، ومنذ مايو/ آيار 2005 فصاعدا باتت حالات السيارات الملغومة وتفجير القنابل وحوادث إطلاق النار تضع أمن الناس العاديين تحت إختبار مرير.

ـ عمقت موافقة مجلس الحكم في آذار/ مارس 2004 على الدستور المؤقت الأزمة السياسية في البلاد. وكذلك الحال بالنسبة لطبيعة المفاوضات المطولة والخلافات الحادة حول دور الإسلام ومطالب الأحزاب القومية الكردية. ثم أقر “الناخبون” لاحقاً في تشرين الأول/ أكتوبر 2005 الدستور الجديد، الذي هَدَفَ حسب تصريحات المسؤولين عنه إلى إنشاء نظام ديمقراطي فيدرالي، يقوم على المبادئ الإسلامية، ولكنه لم يضع أسساً أو تعريفاً ملموساً لهذا الدمج في وبين المفاهيم. كان الدستور بذاته وبكامله وعبر طريقة إعداده العجلى محشواً بالألغام الخطيرة، ضد تماسك البلاد، ووحدة مواطنيها، وأحلامهم في تحقيق تقدمهم السياسي والإقتصادي والإجتماعي.

ـ سلمّت القواتُ الأمريكية في أيلول/ سبتمبر 2008 المهام الأمنية في محافظة الأنبار، غربي العراق، التي كانت معقلاً للمتمردين وتنظيم القاعدة إلى الحكومة العراقية. ثم أصدر مجلس النواب العراقي قانون انتخاب مجالس المحافظات. لكن الجدل ظل دائراً بشأن وضع مدينة كركوك، التي تتنازع السيادة عليها الأطراف السياسية بألوانها الفاقعة.

ـ تواصلت سيادة روح الهيمنة على السلطة، من جانب جميع الأطراف السياسية، التي حكمت بعد الإحتلال. فبعد تزوير نتائج كل إنتخابات، تعلن نتائجها للشعب، حيث تأتي ضد ما كان يأمل ويتوقع. بعد ذلك تندلع المعارك الخفية، التي لا يعرف الشعب عنها شيئاً. فعلى سبيل المثال، تم إجراء انتخابات برلمانية في آذار/ مارس 2010، ولكن الحكومة العراقية لم تشكل إلاّ بعد مرور 9 أشهر.

ـ توقفت صادرات النفط من إقليم كردستان العراق على خلفية نزاع مع الحكومة المركزية في نيسان/ أبريل 2012 بشأن مدى حقها في إبرام عقود مع شركات نفطية أجنبية. ولم تحسم مثل هذه الأمر الى يومنا هذا.

ـ دُهِشَ العراقيون بفرار أكثر من 500 سجين في تموز/ يوليو 2013، معظمهم أعضاء بارزون في تنظيم القاعدة، من سجني التاجي وأبو غريب المحصنين، في عمليتين نوعيتين. كما تسلل مسلحون موالون للقاعدة ومن أتباع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) في كانون الثاني/ يناير 2014 إلى مدينتي الفلوجة والرمادي بعد شهور، من تصاعد العنف في محافظة الأنبار.

ـ إحتلت داعش في 10 يونيو/ حزيران 2014 الموصل ونحو أكثر من ثلث الأراضي العراقية. نفذ تنظيم “داعش” الإرهابي بتاريخ 12 حزيران/ يونيو 2014 مجزرة سبايكر، التي راح ضحيتها قرابة ألفي طالب من طلاب كلية القوة الجوية بالقاعدة العسكرية “سبايكر” في مدينة تكريت شمال العراق. بدأ الهجوم الرئيسي ضد (داعش) في أكتوبر/ تشرين الأول 2016 في الموصل. تم تضييق الخناق عليها في 4 تموز/ يوليو 2017، من خلال الإستخدام المكثف للغارات الجوية. وأخيراً تم إعلان النصر النهائي على داعش في ديسمبر/ كانون الأول عام 2017.

ـ إعتماد المليشيات قوة موازية للجيش وفوقه، بطرق وصيغ ومسميات مختلفة، منذ بداية الإحتلال. ثم تصاعدت أدوار تلك المليشيات الى درجة تجاوزت فيه مسألة تخويف السكان المدنيين، الى تخويف الحكومة نفسها، وبعضها البعض الآخر. كان أول مظهر سافر على هذا الصعيد، هو دخول قوات فيلق بدر الى العراق من إيران عبر الحدود الدولية، ومن خلال كردستان، بإستعراض عسكري شكلاً ومضموناً. دخلت عناصر فيلق بدر إلى العراق بعد الإحتلال عام 2003 بنحو 16 ألف عنصر مسلح. عمل فيلق بدر كمليشيا مسلحة قرابة عام كامل، قبل أن يدعي التحول شكلياً إلى منظمة سياسية، رضوخاً وإمتثالاً لقرار الحاكم المدني الأميركي بول بريمر. صدر قانون بريمر الخاص بهذا الصدد تحت الرقم 91 بتاريخ حزيران/ يونيو 2004. ولكن سرعان ما تغاضت قوات الإحتلال عن عمليات تفريخ المليشيات، التي بلغت الآن نحو 75 مليشيا. كلها ترفق إسم الله أو صفة من صفاته ضمن مسمياتها.

ما تقدم مجرد مرور بمحطات من سلسلة طويلة ومريرة من الأحداث المروعة، التي تركت تأثيرات خطيرة على حياة المجتمع العراقي، تتطلب المزيد من الدراسات بروح وطنية، تسعى الى الإستشفاء من قيح تلك الإحداث، ومن الخطط الجائرة والمتواصلة من جانب كل أعداد الشعب العراقي. إنهم جميعاً مارسوا كل الذخرة اللانسانية من تجارب لتدمير الشعوب، وشل كل مصادر قوتها. إن ما تقدم محاولة على طريق السعي لمنع وقوع أية فئة من فئات الشعب العراقي، في حبائل التآمر والدسائس والمناهج غير الإنسانية.

يتبع:

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com