مقالات

شخصيات رومانسية.

بيدر ..

شخصيات رومانسية

رباح آل جعفر

كان السياسي‮ ‬البارز فائق السامرائي‮ ‬سفيراً‮ ‬للعراق في‮ ‬القاهرة أعوام الخمسينات،‮ ‬في‮ ‬ذلك الوقت كان النضال العربي‮ ‬رومانسياً‮ ‬والمقاهي‮ ‬تزدهر بزبائنها الثوريين قبل أن‮ ‬يتوزعوا على مقاهي‮ ‬الثورة في‮ ‬منافي‮ ‬العالم،‮ ‬وكان السامرائي‮ ‬متفائلاً‮ ‬بالوحدة العربية الكبرى،‮ ‬ويعطي‮ ‬مهلة لقيام هذه الوحدة عشر سنوات فقط‮!. ‬
بينما كان الوزير والنائب اللبناني‮ ‬أميل البستاني‮ ‬أقلّ‮ ‬تفاؤلاً‮. ‬كان‮ ‬يقول إن دولة الوحدة التي‮ ‬تجمع العرب على قلب خافق بالحنين إلى سوق عكاظ بلا جواز سفر تحتاج منّا إلى عشرين سنة‮!. ‬
اختفى البستاني‮ ‬في‮ ‬البحر فجأة‮. ‬فوقف الشاعر الحالم رئيس وزراء السودان محمد أحمد محجوب‮ ‬يخطب في‮ ‬الجماهير قائلاً‮: ‬إذا اتفقنا على دولة الولايات العربية المتحدة فمن الممكن أن نحقق هذا الحلم الجميل خلال خمس عشرة سنة قادمة‮!.‬
كان ذلك في‮ ‬العصر الرومانسي‮. ‬كل شيء فيه أنيق ورقيق،‮ ‬والناس تسترخي‮ ‬على الموسيقى،‮ ‬وتنام على الموشحات،‮ ‬وتصحو على الطقاطيق‮. ‬أنشد فخري‮ ‬البارودي‮ “‬بلاد العرب أوطاني‮” ‬فغنّى فريد الأطرش‮ “‬بساط الريح‮”‬،‮ ‬وكتب عبد الله البردوني‮ “‬زحف العروبة‮” ‬فغنّى سيد مكاوي‮ “‬الأرض بتتكلم عربي‮”‬،‮ ‬وتغزّل رشيد سليم الخوري‮ ‬بالحسناوات من‮ “‬بنات العروبة‮” ‬فغنّى عبد الحليم حافظ‮ “‬الوطن الأكبر‮”.. ‬ظل عبد الحليم وفيّاً‮ ‬لجيله الناصري‮ ‬حتى عاد من لندن ملفوفاً‮ ‬بنعش الأنغام،‮ ‬وانكشفت حكاية زواجه السرّي‮ ‬بالسندريلا سعاد حسني،‮ ‬وأصبحت زقرقة العصافير بشارة خير عند النوافذ‮.‬
غادر عبد الوهاب عصر الكلاسيكية فألهب الحماس في‮ “‬دعاء الشرق‮” ‬بلحنه الأوبرالي‮. ‬التحقت السيدة أم كلثوم بعشاق الوحدة العاطفية،‮ ‬كانت تغنّي‮ ‬فترقص لغنائها المقاعد وتحظى بمليون قبلة على الهواء من الشعب العربي،‮ ‬حتى أن الشاعر جميل صدقي‮ ‬الزهاوي‮ ‬كتب‮ ‬يخاطبها من بغداد‮:‬
يا أم كلثــومَ‮ ‬إنّا أمّـةٌ‮ ‬رزحــتْ
تحتَ‮ ‬المصائبِ‮ ‬أحقاباً‮ ‬فسلّينا
ولم تفلح قصائد أحمد رامي‮ ‬بتسلية الزهاوي‮ ‬ولا في‮ ‬زواجه من أم كلثوم،‮ ‬فتزوجها سرّاً‮ ‬مصطفى أمين الصحافي‮ ‬الأول في‮ ‬الأربعينات،‮ ‬وكتب لها قصة‮ “‬فاطمة‮” ‬التي‮ ‬تحولت إلى فيلم سينمائي،‮ ‬ثم ماتت بسرطان الحنجرة‮.‬
في‮ ‬ذلك الوقت كان‮ “‬رموزنا الوطنية‮” ‬يرتفعون بأفكارهم الثورية فوق الأيدلوجيا الطائفية والأثنية ولم‮ ‬يكونوا ضيوفاً‮ ‬على الفنادق الغربية‮.  ‬
أقبل الموسيقار زكريا أحمد على الرومانسية من باب‮ “‬الأمل‮” ‬غنّاها في‮ ‬بيت محمد التابعي‮. ‬أسّس الساحر التابعي‮ ‬مدرسة رومانسية في‮ ‬الصحافة كان من تلاميذها علي‮ ‬أمين جعلت الناس‮ ‬يقرأون الصفحة الأخيرة قبل الأولى‮. ‬لم‮ ‬يخرج عن مدرسة التابعي‮ ‬سوى محمد حسنين هيكل‮.  ‬
ازدحمت المقاهي‮ ‬بعشاق الوحدة العربية‮. ‬جاءت فيروز من الضيعة تبحث عن‮ “‬زهرة المدائن‮”. ‬عزف فريد الأطرش على لحن الاشتراكية،‮ ‬أمّا شقيقته الحسناء أسمهان‮ “‬آمال الأطرش‮” ‬القادمة من السويداء السورية فكانت تغيض أم كلثوم برنين صوتها في‮ ‬أغنية‮ “‬رجعت لك‮”‬،‮ ‬لكنها عاشت حياة قصيرة فولدت في‮ ‬البحر وغرقت في‮ ‬النهر قبل أن تتحول إلى نجمة سينما مشهورة في‮ ‬فيلم‮ “‬غرام وانتقام‮”.‬
في‮ ‬تلك السنوات كتبت الطالبة جيهان رؤوف زوجة أنور السادات رسالتها‮ “‬الشعر الرومانسي‮” ‬لتمنحها سهير القلماوي‮ ‬شهادة الدكتوراه في‮ ‬الرومانسية العربية بامتياز‮.‬
مات عبد الناصر فأصبح ذكرى حزينة‮. ‬أفاق العرب من رومانسيّاتهم‮. ‬انتهت أغاني‮ ‬الوحدة العاطفية فنسيتها الإذاعات والتلفزيونات،‮ ‬وبدأت تبث الميلودراما البكائية‮. ‬هجر العشاق المقاهي،‮ ‬مثلما هجروا دور السينما والمكتبات‮. ‬توالت علينا الصادمات الفاجعات من‮ ‬يوم النكبة إلى‮ ‬يوم النكسة،‮ ‬ومن الانفتاح إلى الانبطاح،‮ ‬ومن سنوات النضال إلى سنوات الاحتلال‮!.‬

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com