ثقافة

الرواية النهرية .. والمجتمع .

الروائي واسيني الاعرج .

يُطلق مصطلح الرواية النهرية le roman fleuve، على الروايات ذات المساحات الطويلة، والأجواء الكثيرة التي توحدها إشكالية مشتركة، قبل أن يُختزل المفهوم في الرواية الواحدة والطويلة.

بدأ هذا النوع مع بلزاك، حينما جمع رواياته وبعض قصصه في سلسلة مجلدات تحت عنوان: الكوميديا الإنسانية، الغرض منها تصوير بانوراما عصر بكامله بتقاليده وأعرافه وهزاته السياسية.

مع زولا تغير مفهوم الرواية النهرية، وأصبح يشمل مسار عائلة بكاملها، بأجيالها وتحولاتها، وقد ضمت السلسلة 20 رواية حملت اسم عائلة كبيرة روغون مكارت، Les Rougon-Macquart، يتناوب فيها المواقع، كل من الأغنياء والأرستقراطيين، والفقراء والعمال.

من يتأمل المعمار التخييلي لهذه الرواية النهرية، سيلاحظ أن زولا اختار مسلكاً اجتماعياً واقعياً وزمناً واسعاً مرابطاً بعهد الإمبراطورية الثانية، في مواجهة عصر صعب ومعقد بتحولاته وحروبه، فقد أنشأ زولا مساراً حياتياً متخيلاً من خلال حياة العائلة الاجتماعية، والمالية، والنفسية، والعمالية، وغيرها، وعالج عبرها وضعية حقبة مميزة من تاريخ فرنسا، مبيناً اللحظات الجميلة المليئة بالحب، والخير، والنضال، ورفض الظلم، واللحظات الأسوأ التي أصبح المال فيها سلطاناً، والظلم مداراً، وشكلت هذه النصوص، مجتمعةً، فضاءً روائياً خصباً، موحداً قلقاً أحياناً، وفي أحيان أخرى في قمة ارتقائه.

اقترب زولا في جهده الروائي مما سبق أن فعله أستاذه في الرواية بلزاك في الكوميديا الإنسانية، لكن زولا يصر على الاختلاف بينهما، خياراته كانت، كما يقول، الحفر في الخيال الجمعي الذي تبنته العائلة برجالها ونسائها، في زمن كان أكبر منها، لقد صرح بلزاك بأنه يريد أن يرسم الرجال والنساء والأشياء: «أنا.. أجعل من الرجال والنساء شيئاً واحداً، مع تقبل الاختلافات الطبيعية، وأضع الرجال والنساء في مواجهة الأشياء».

واحدة من رواياته الأكثر شهرة (جيرمينال) صور فيها إميل وزلا هذه الأبعاد الاجتماعية التي قربته من الواقع الموضوعي، دون أن تجعله يغرق فيه، وقد اعتمدت واقعيته الطبيعية على خلق النموذج المعبر، الذي يستجيب لمعايير بناء شخصية تؤمن بضرورة فهم الواقع الاجتماعي الموضوعي وتتحرك من خلاله.

فقد زولا طور شخصية إيتيان لونتييه Étienne Lantier بطل رواية جيرمينال، التي تظهر أيضاً في سلسلة روغون – ماكارت، حتى أصبحت معبرة عن فئة عمالية كبيرة، بل إن هذا النص يتماهى في جانبه العمالي المأساوي مع نص سابق له: الخمارة L›Assommoir.

منح زولا لشخصية لونتييه، صفات الشاب الحيوي الذي يرفض الظلم، حتى يكون البعد التخييلي غنياً، فقد عايش زولا مثل هذه النماذج، واقترب من بعضها وفهم مآسيها وقلقها، تعمّق داخلياً في إيتيان لونتييه، وبين مرتكزات شخصيته القوية التي جعلت منه في النهاية، شخصية قيادية، على الرغم من أنه لم يكن يفكر في ذلك.

وتنتهي رواية جيرمينال إلى محاولة إيتيان لانتييه، مواصلة نضاله العمالي من أجل التنظيم النقابي، لأنه مدرك أنه لا حل آخر للاستمرار غير ذلك.

والخلاصة، أن الرواية النهرية صورت اللوحة الخفية لمجتمع القاع الفرنسي الذي لم تهتم به الرواية الكلاسيكية كثيراً.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com