مقالات

العراق.ورقة إصلاح بيضاء أم رمادية ؟.

بيدر ميديا .

يحيى الكبيسي

 

قدمت الحكومة العراقية الشهر الماضي ورقة للإصلاح الاقتصادي أطلقت عليها اسم «الورقة البيضاء» أعدتها خلية الطوارئ للإصلاح المالي التي شكلها مجلس الوزراء برئاسة وزير المالية في أول اجتماع له بعد حصوله على الثقة (تحديدا في 12 أيار/ ماي 2020) بهدف إدارة الوضع المالي في ضوء الازمة المالية الراهنة، ووضع الحلول اللازمة لتحقيق الإصلاح المالي وتحسين أداء المؤسسات المالية.
وتتبنى الورقة سيناريو ان متوسط أسعار النفط العراقي يبلغ 35 ـ 45 دولارا أمريكيا للبرميل في عام 2020، و45 ـ 55 دولارا أمريكيا في عام 2021. واستنادا إلى ذلك، فلن تتمكن عائدات النفط المتوقعة لعامي 2020 و 2021 من تغطية مدفوعات الرواتب للموظفين والمتقاعدين بصورة كافية بغض النظر عن أية نفقات جارية. وهو ما يعني عجزا حقيقيا في الموازنة، من ثم تمويل هذا العجز عبر الديون الخارجية والمحلية. فوفقا لأرقام وزارة المالية، فان رواتب الموظفين تصل إلى 34.7 مليار دولار، في حين تصل رواتب المتقاعدين إلى 10 مليارات دولار تقريبا، وفقا لأرقام عام 2019. وهذه الأرقام مرشحة لكي تصل إلى 47.4 مليار دولار فيما يتعلق برواتب الموظفين، و12.8 مليار دولار في العام 2021 فيما يتعلق برواتب المتقاعدين (طبعا لا تعلمنا الورقة لماذا هذه الزيادة غير المفهومة في رواتب الموظفين والمتقاعدين!).
والمفارقة غير المفهومة أن الورقة تشير صراحة إلى ان «التمويل النقدي غير المباشر» من البنك المركزي العراقي سيكون المصدر الوحيد المتبقي لتغطية العجز في الموازنة (على الرغم من ان قانون البنك يحظر عليه منح الديون للحكومة من الأصل). وتكشف الورقة ان الاحتياطي النقدي البالغ قد انخفض من 68.29 مليار دولار في نهاية كانون الأول 2019 إلى 60.94 مليار دولار في آب 2020! وان هذا المبلغ يمكن أن يوفر تمويلا لمدة اثني عشر شهرا تقريبا، ولكن هذا الانخفاض في الاحتياطي النقدي سيؤدي في نهاية المطاف إلى أزمة حقيقية في الدينار العراقي، يصاحبها احتمال انهيار قيمته.
وتشير الورقة إلى أنها تسعى إلى تحقيق هدفين استراتيجيين أساسيين؛ الأول: هو الشروع في برنامج إصلاحي جذري لوقف نزيف وعجز الموازنة، لتوفير المساحة المالية والزمنية الكافية لتنفيذ الإصلاح على المدى المتوسط. بينما يسعى الهدف الثاني في برنامج الإصلاح إلى وضع الاقتصاد والموازنة في مسار مستدام. وفق خطة تمتد 3 ـ 5 سنوات لذلك.
فيما يتعلق بالإصلاح المالي المستدام، تتحدث الورقة عن ترشيد النفقات وتقليص عجز الموازنة إلى نسبة مستدامة بمقدار 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي. وتقليص نسبة فاتورة الرواتب والأجور من الناتج المحلي الإجمالي من 25٪ إلى 12.5 ٪ خلال ثلاث سنوات. وإيقاف تمويل صندوق التقاعد من الموازنة العامة، وحصرها بصندوق التقاعد، وتخفيض الدعم الحكومي لتصل إلى نسبة 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وأخيرا خفض الدعم المالي للشركات المملوكة للدولة بنسبة 30٪ سنويا (أي انهاء هذا الدعم خلال ثلاث سنوات والعمل على خصخصة هذا القطاع بالكامل).
ولكن الورقة لا تخبرنا ما آلية الوصول إلى هذا التخفيض المستدام في عجز الموازنة، ما دامت هذه الموازنة تعتمد بنسبة تزيد عن 90٪ على ايرادات تصدير النفط على أحسن تقدير؟ وبالتالي سيبقى الامر مرهونا بأسعار السوق العالمي للنفط وليس بإصلاحات داخلية حقيقية، حتى لو استطاعت الحكومة، افتراضا، زيادة الإيرادات غير النفطية إلى أعلى مستوياتها، او تخفيض الدعم إلى أدنى مستوياته!

عندما يتم اللجوء إلى الإنشاء اللغوي من دون أية آليات واضحة ومحددة، وعنما يتم التلاعب بالأرقام من أجل الإقناع، فنحن أمام ورقة إصلاح رمادية وليست بيضاء

كما ان الورقة لا تخبرنا ما الآلية التي ستعتمدها لتخفيض فاتورة الرواتب والأجور إلى نصف ما هي عليه من الناتج المحلي الإجمالي، فق بلغ الناتج المحلي الإجمالي للعراق وفقا لأرقام 2019 ما قيمته 234.09 مليار دولار، ووفقا لهذه الأرقام فان الورقة تتحدث عن خفض فاتورة الرواتب والأجور من 58.5 مليار دولار إلى 29.2 مليار دولار، وهو أمر غير مفهوم تماما، فهل يتم الحديث هنا عن تخفيض الرواتب مثلا، او تخفيض عدد العاملين غير المتاح أصلا، ام افتراض إمكانية زيادة الناتج المحلي الإجمالي بشكل مضطرد؟
أخيرا لا تخبرنا الورقة كيف يمكن لصندوق التقاعد ان يغطي هذه العدد المتزايد من المتقاعدين، وبالتالي حجم رواتبهم، التي تبلغ تبعا لأرقام وزارة المالية ما يصل إلى 12.8 مليار دولار من صندوق تقاعد لا تزيد موجوداته عن 6.8 مليار دولار تبعا لأرقام صندوق النقد الدولي الذي سبق له أن حذر من إمكانية نفاذ هذه الموجودات خلال أربع سنوات!
أخيرا لا تخبرنا الورقة كيف سيتم حل مشكلة الجيش الحقيقي من العاملين في القطاع العام في حالة الذهاب إلى خيار خصخصة القطاع العام المملوك للدولة؟
ولكن المفارقة أن خطة تحقيق الاستقرار المالي المستدام التي تنشده الورقة تتناقض مع التوسع غير المنطقي في زيادة الدين العام! فقد عمدت الحكومة في بداية ولايتها على تقديم مشروع قانون الاقتراض المحلي والخارجي لتمويل عجز الموازنة في العام 2020 بمبلغ 5 مليار دولار من الاقتراض الخارجي، و12.8 مليار دولار للاقتراض المحلي، والذي تم تشريعه في حزيران/ يونيو 2020. لتعود الحكومة لتقديم مشروع قانون آخر للاقتراض الخارجي والمحلي. وقد تضمن مشروع القانون الجديد أرقاما صادمة لحجم الإيرادات النفطية المتوقعة لهذه الأشهر الأربعة والتي تزيد قليلا عن 12 مليار دولار، فيما لا يزيد مجموع الإيرادات غير النفطية المتوقعة عن 1.7 مليار دولار. فيما تبلغ تقديرات النفقات العامة لهذه الأشهر الأربعة أكثر من 49.4 مليار دولار، يضاف إليها مبلغ 4.78 مليار دولار لعقود التراخيص، ومبلغ 427.6 مليون دولار لتعويضات الكويت، وبالتالي فان ثمة حاجة لاقتراض 35.55 مليار دولار لتغطية عجز الموازنة للأشهر الأربعة الأخيرة من هذه السنة فقط! كما ان الورقة تؤكد ان العجز سيشمل موازنة العام 2021 أيضا، وهذا يعني أنها يمكن ان تلجأ مرة أخرى إلى الاقتراض!
في حين تؤكد لنا ورقة الإصلاح تراكم الديون المضافة إلى الديون السابقة، والتي غير المسددة، سيؤدي إلى زيادة الإنفاق في الموازنات المستقبلية، وكذلك زيادة العجز المستقبلي فيها، مما يزيد في نهاية المطاف من الدين الحكومي. وكذلك فان تراكم ديون شركات النفط العالمية سيؤدي إلى انخفاض الإنتاج، مما يحد من الإيرادات المستقبلية ويزيد من العجز في الموازنة!
في بيان لوزارة المالية صدر بتاريخ 30 تشرين الأول/ أكتوبر، في الشهر الذي صدرت فيه ورقة الإصلاح البيضاء، ان الدين العام ليس مفرطا مقارنة بحجم اقتصاده، وان حجم هذا الدين ما زال عند حدود 75٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وانه لم يصل بعد إلى نسبة 100٪ منه! في حين سبق للمستشار الاقتصادي لرئيس مجلس الوزراء أن نشر مقالا في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين ان النسبة المعيارية الدولية المقبولة للدين العام يجب ان لا تزيد عن 60٪ من الناتج المحلي الإجمالي! وواضح أن تصريح وزارة المالية إنما هو مجرد محاولة لإقناع مجلس النواب للتصويت على مشروع القانون المقترح للاقتراض، والايهام بان ليس ثمة مخاطر حقيقية في ارتفاع معدلات الدين العام!
عندما يتم اللجوء إلى الإنشاء اللغوي من دون أية آليات واضحة ومحددة، وعنما يتم التلاعب بالأرقام من أجل الإقناع، فنحن أمام ورقة إصلاح رمادية وليست بيضاء!

كاتب عراقي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com