ثقافة

الشاعرة التشيلية غَابريِيلاَ مِيسْترَال: من مُعلمة في مدرسة ابتدائية إلى جائزة نوبل في الآداب.

بيدر ميديا .

الشاعرة التشيلية غَابريِيلاَ مِيسْترَال: من مُعلمة في مدرسة ابتدائية إلى جائزة نوبل في الآداب

 

 

للباحثة التشيلية غلاديس رودريغيس فالديس، أنطولوجيا حول الشاعرة التشيلية غابرييلا ميسترال بعنوان: «دعوة غابرييلا ميسترال» جاء فيها: «كان الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس يقول: إذا كان الكاتب والشاعر الفرنسي بول فاليري يشكل نوعاً من التشاؤم الفرنسي، فإن اللشاعرة التشيلية غابرييلا ميسترال تشكل نوعاً من التشاؤم التشيلي»، وتجدر الإشارة إلى أن فاليري هو الذي كتب مقدمة الطبعة الفرنسية الأولى لديوان غابرييلا ميسترال عام 1946 أي بعد حصولها على جائزة نوبل العالمية في الآداب بعام واحد.

أول امرأة تحصل على نوبل في آداب أمريكا اللاتينية

تطرح المؤلفة على امتداد الصفحات المئة التي تتصدر الأشعار المختارة من هذه الأنطولوجيا، معانى الشوق، والعاطفة، والطيبة، والعطاء، والإرادة، والخير عند هذه الشاعرة، التي تقترن اقتراناً وثيقاً بإبداعاتها الشعرية المتميزة، ويتبين لنا من خلال هذا الكتاب كذلك أن الزمن هو خير معيار لنقد الأعمال الأدبية، حيث أمكنها إنقاذ قسط كبير من أشعار غابرييلا ميسترال، ولابد أن غير قليل من الأشعار التي يتضمنها هذا الكتاب سوف تعيد إلى الأذهان كثيراً من القصائد التي اشتهرت بها هذه الشاعرة الذائعة الصيت، التي تعتبر ظاهرة قد لا تتكرر في عالم الأدب والإبداع في هذا الشق النائي من العالم الذي تنتمي إليه وهو أمريكا اللاتينية، حيث قفزت من مدرّسة بسيطة في مدارس ابتدائية تحضيرية في قرية نائية مغمورة في بلدها تشيلي، إلى ارتقاء سلالم المجد بحصولها على جائزة نوبل في الآداب، في تاريخ مبكر من القرن الفارط (عام 1945) علماً أنها المرأة الوحيدة التي حصلت على هذا التكريم العالمي المرموق في بلدان أمريكا اللاتينية إلى اليوم. وتتطلب هذه المجموعة الشعرية المدرجة في كتاب «دعوة غابرييلا ميسترال» جهداً كبيراً لمتابعة القراءة المتأنية للأشعار الواردة فيه، حتى يتمكن القارئ من استكناه أعماقها، واستبطان معانيها، وسبر رموزها ودلالاتها البعيدة الغور.

دعوة لإعادة قراءة ميسترال

إن دعوة هذه الناقدة الى إعادة قراءة أشعار غابرييلا ميسترال، تضعنا أمام حقيقتين، الأولى هي الدهشة التي تصيب القارئ من مدى عمق هذه الأشعار، ومدى سعة وتشعب وعمق معانيها، وتنوع مضامينها، فضلاً عن جمالياتها. والحقيقة الثانية هي خيبة الأمل التي يشعر بها القارئ بعد قراءته لتصدير واضعة هذه الأنطولوجيا، حيث لا ينسجم هذا التصدير مع العنوان الذي وضعته لكتابها، فضلاً عن الأحكام المُسبقة التي تصدرها في حق شعرها، إن مستوى هذه الأشعار هو الذي جعل القارئ يكوّن فكرة عنها، ويصدر أحكاماً بشأنها بعد قراءته لهذه المجموعة، وبالتالي فإن التقديم المطول للمؤلفة لا يزيد الأمر سوى ضبابية، وهو يُقصينا عن شفافية شعر ميسترال ومستوى فنيته العليا.

رسالة ميسترال المخطوطة

ما فتئ يتوالى الحديث ويترى في الأوساط الأدبية المكسيكية والتشيلية عن رسالة مخطوطة طريفة، كانت قد نشرت لأول مرة للشاعرة غابرييلا ميسترال، وكان قد نشر هذه الرسالة المخطوطة وعلق عليها الناقد المكسيكي إدواردو ليساردي، منوهاً بشهرة هذه الشاعرة في أمريكا اللاتينية قبل حصولها على جائزة نوبل، خاصة بعد صدور ديوانها «وحشة» (1922) ثم اتساع شهرتها في البلدان الناطقة باللغة الإسبانية، وفي سائر أرجاء العالم بعد ذلك. كما نوه بهذه الشاعرة العديد من الكتّاب والشعراء في أمريكا اللاتينية في طليعتهم الكاتب الأرجنتيني المعرروف خورخي لويس بورخيس في مقدمة كتابه «تقريظ الظل» الصادر عام 1969. وكتب الناقد إدواردو ليساردي الذي كانت رسالة ميسترال المخطوطة في حوزته، حيث انتقلت إليه من والده الكاتب خوان ليساردي يقول: «إن أباه كان مولعاً في شبابه بمراسلة كبار الشعراء والكتاّب والمبدعين من المعاصرين له في العشرينيات من القرن الفارط، خاصة هؤلاء الذين كان مُعجباُ بهم، وهكذا حصل على جواب من الشاعر الهندي رابندرانات طاغور، ومن شاعرة تشيلي غابرييلا ميسترال، التي كانت تشكو له في رسالتها من قسوة النقد والنقاد، وكانت هذه الرسالة المخطوطة قد أُرسلت من العاصمة سانتياغو وهي مؤرخة في 9 نوفمبر/ شباط 1922.

مقتطفات من رسالة ميسترال

كتبت الشاعرة غابرييلا ميسترال تقول في رسالتها إلى صديقها المكسيكي خوان ليساردي: «سيدي الموقر، أشكرك من كل روحي على رسالتك الرقيقة التي تدل على طيب عنصرك، كما أشكرك على تقريظك لقصائدي في الأم، فقد استلمت الكثير من الشتائم والسباب من غير قليل من المرائين بشأنها، ولا غرو، فإن أصحاب الدنس والفحش يرون كل شيء مُظلماً ومُعتماً وغيرَ نقي، لقد قصدتُ في تلك القصائد تكريم الأمومة فلماذا تبين لهم ذلك قبيحاً ومُستهجناً؟ ولم يكتف هؤلاء ومعهم بعض النقاد والقراء بالتهجم عليّ بأحط النعوت، بل إنهم تطاولوا على شخصي، علماً أن قصائدي ليس فيها ضحالة ولا إسفاف. أنهي إلى علمك أنه لم تصلني المجلة الأدبية إياها التي بعثتها لي، لابد أنها ضاعت في البريد، فهل تتفضل علي وتبعثها لي مرة أخرى في البريد المسجل المضمون، فلي منها فقط أعداد 1،2،3و4». وتخبر الشاعرة ميسترال في رسالتها، صديقها الكاتب المكسيكي خوان ليساردي أنها سوف تعمل على أن ترسل له قصيدة لها مكتوبة بخط يدها كما هي رغبته. وتختتم رسالتها إليه قائلة: «أعود وأشكرك على كلماتك الحارة، كما أشكرك على ثقتك في شخصي، أحييك وأظل رهن إشارتك في هذه الأرض التشيلية، حيث نحب حقاً المكسيك».
واستمر الناقد المكسيكي ليساردي في مقاله حول الشاعرة ميسترال قائلاً: «إن الشاعرة التشيلية دافعت عن نفسها مع صديق لم تعرفه من قبل إلا بعد زيارتها للمكسيك، في ما بعد ضد هؤلاء الذين كانوا يضمرون لها العداء في مقاهي مدينة سانتياغو، وفى بعض الجرائد الأدبية في بلادها، لأنها لجأت إلى إيجاد أسلوب جديد في التعبير عن تجاربها الشعرية المبكرة المبتكرَة، فقد كانت هناك تيارات شعرية ونقدية تتلاطم بقوة آنذاك، وكانت الشاعرة معجبة بها إلا أنها كانت مُعرضة للمحاربة، من قِبَل بعض الأدباء المحافظين، وزمرة من النقاد المتزمتين، وتقول غابريلا ميسترال لصديقها الأديب المكسيكي: «يبدو أن هذه المشكلة التي عانينا منها في تشيلي الكثير لم تخلُ منها الأرض».

لا كرامة لنبي في قومه

الحادثة التي وقعت للشاعرة التشيلية الشهيرة حيث كانت في البداية تتعرض في بلادها لنقد لاذع وهجوم عنيف، يصلان حد الشتائم والسباب، كما تقول لصديقها الأديب المكسيكي، تذكرنا بحادثة مماثلة وقعت للمطرب والملحن المصري الموسيقار محمد عبد الوهاب في بداية عهده بالموسيقى، حيث أبان منذ شبابه عن علامات النبوغ المبكر، وأمارات التفوق الكبير في عالم الموسيقى والألحان، وقد عمل بنشاطٍ منقطع النظير من أجل بث روح جديدة في الموسيقى العربية، التي كان أحدَ أبرز وجوهها في منتصف القرن الفارط، وبالفعل كان يجتهد، ويضع ألحاناً جميلة، ومقطوعات موسيقية جديدة حقق بها نجاحات باهرة، وشهرةً واسعة في مختلف البلدان، وعلى الرغم من الجهود الحثيثة التي كان يبذلها من أجل هذا التجديد، الذي كان يسعى إليه، كانت الانتقادات المريرة توجه إليه في مختلف وسائل الإعلام، وكبريات المجلات، والصحف التي كانت تصدر في مصر في ذلك الوقت مثل «روز اليوسف»، و»الأهرام»، و»المقطم». وسواها،وعندما ضاق ذرعاً بهذه الانتقادات ذهب ليشتكي إلى صديقه أمير الشعراء أحمد شوقي، وبعد أن أصغى الشاعرُ إليه وإلى شكواه باهتمام بالغ، قال له: إذن الجميع ينتقدونك، ويتهجمون عليك، وأضاف قائلاً له: غداً أريدك أن تأتي لزيارتي من جديد، وأن تُحْضِر معك جميعَ الصحف، والجرائد، والمجلات التي تنتقدك. وفي اليوم التالي عندما حضر الموسيقار محمد عبد الوهاب وبيده رزمة كبيرة من تلك المطبوعات والمنشورات، التي طلب منه الشاعر المجدد إحضارها، ووقف أمامه، قال له أحمد شوقي: جميل، الآن ضَعْ هذه الرزمة على الأرض، واصعد فوقها، وعندما وضعها محمد عبد الوهاب على أرضية الغرفة ووقف عليها، عندئذٍ قال له الشاعر: ألاَ تشعرُ أنك عَلَوْتَ أكثر من ذي قبل؟ هذه المجلات، والجرائد، والمطبوعات إنما تمنحك شهرةً واسعة، وترفع من شأنك، وتُعلي من مقامك، وتجعلك أكبرَ في عيون الجميع! وهذا ما حدث على وجه التقريب مع الشاعرة التشيلية الشهيرة غابرييلا ميسترال في بلادها في أول عهدها بقرض الشعر.
هنا بضعَ أبياتٍ من ترجمتي عن اللغة الإسبانية نظمتها الشاعرة غابرييلا ميسترال أيام شبابها تحت عنوان ( قبلات) تقول فيها:
هناك قبلاتٌ تُفصح عن نفسها تلقائياً / إنها حُكم الحب المُدان / هناك قبلاتٌ تُمنحُ بنظرة / هناك قبلاتٌ تُمنح بالذاكرة / هناك قبلاتٌ صامتة ونبيلة / هناك قبلاتٌ غامضة وصادقة/ هناك قبلاتٌ تمنحها الروح / هناك قبلاتٌ محظورة وحقيقية/ هناك قبلاتٌ حارقة وجارحة / هناك قبلاتٌ تسلبُ الحواس / هناك قبلاتٌ غريبة تند عن / آلاف الأحلام التائهة الضائعة / هناك قبلاتٌ مُتوترة تُخفي / مفتاحاً لم يستطع أحدٌ فك شفرته / هناك قبلاتٌ قد تسبب في مأساة / كم من ورودِ البرُوش نُزعتْ عنها أوراقُها / هناك قبلاتٌ مُعطرة وقبلاتٌ دافئة / تخفقُ في شوقٍ حميمي / هناك قبلاتٌ تترك في الشفاه بصمة / كحقلِ شمسٍ بين جليديْن / هناك قبلاتٌ تبدو وكأنها زنابق / سامية ساذجة ونقية / هناك قبلاتٌ خادعة جبانة وحانثة/ كم علمتكَ تقبيلَ قبلاتٍ باردة / من قلبٍ صخريٍ صاخبٍ / أنا سأعلمك التقبيل بقبلاتي الخاصة / اخترعتُها من قلبي خصيصاً لفمك

٭ كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم كولومبيا.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com