مجتمع

المنصات وأعرافها.

بيدر ميديا.."

المنصات وأعرافها

نادية هناوي

 

ظاهرة المنصات التي انبثقت في حياتنا الثفاقية بعد الجائحة أقل ما يقال فيها إنها ظاهرة صحية جداً، وربما تدعونا إلى القول (ربَّ ضارة نافعة) إذ يتابع، من خلال هذه المنصات، جمهور واسع ومن أصقاع متباعدة في أرض الله الواسعة محاضرين مختصين في موضوعات مختلفة. يحاورهم فيها نخبة من المعنيين بذات الاختصاص أو من اختصاصات مجاورة، وجلّهم من الأكاديميين أو المثقفين المبدعين الذين يلتزمون بأعراف أكاديمية وثقافية عامة في تعاطيهم مع ميادين المعرفة المختلفة. ويتابعهم عادة من هو حريص على الفائدة ونهل المعرفة وإلا ما أفرد حيزاً من وقته لمتابعة مجريات المنصات سواء التي تتسم بطابع نخبوي أكاديمي أو التي تتسم بطابع عام وغير رسمي. ومن الأمور الضرورية والمشروطة التي بها تصل المنصات إلى غاياتها المرجوة؛ هو التزام حاضريها بأعراف محددة في التحاور وآداب التعقيب والتداخل المعهودة في الحضور والتفاعل سؤالا أو جوابا فتسود أجواء الحوار الهادف البناء مع سلامة النية، سواء اتفق الحاضرون أو اختلفوا.
إن أهمية المنصات أوجدتها جائحة كورونا فكانت خير أداة في مواجهة الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي واستطاعت أن توصل بين المتقاطعين، وتقرِّب بين المتباعدين مكانياً وزمانياً. وعلى الرغم من أن خطر الجائحة زال، والحياة عادت إلى طبيعتها بلا موانع أو احترازات، فإن بعض هذه المنصات بقيت لها أهميتها وواصل القائمون عليها نشاطاتهم واستمر عملهم، نظرا لما فيه من فائدة سواء في اختزال الموارد أو استثمار أوقات الفراغ. والمؤسف أن المنصات الافتراضية وبعد مرور أكثر من ثلاث سنين تقريباً على بدء العمل بها ما زال كثيرون يجهلون ما ينبغي أن يكون لعملها من مناهج محددة وأعراف معروفة وسبل واضحة كي لا يستغلها بعضهم لأغراض خاصة، وكي لا تخضع لرغبات من ليسوا أكفاء لها، ليأخذوا من حق غيرهم ممن هم أجدى منهم وأغنى وأنفع ويهدروا وقت الذين يتابعونهم، وبعض منهم لديه التزامات وآخرون يعانون من مواءمة أوقاتهم المحلية مع أوقات المكان الذي منه تبث المنصة.
ومن الأعراف الواجب الالتزام بها الارتفاع عن حب الظهور والتعالم والتعالي، والنأي بالنفس عن التشهير والتجريح أو الاحراج؛ فذلك مكانه المقاهي والحانات أو الشوارع الموبوءة بالمنفلتين والمتنطعين. ثم ما ذنب الجمهور المتلقي وهو يجد نفسه أمام محاضر فارغ يجتر ما يقرأ وهكذا من دون مبالاة ولا مراعاة لشعور الحاضرين.
ومن الأعراف التي ينبغي أن تسود في المنصات لاسيما الثقافية منها، الغنى النوعي بالأفكار والمفاهيم التي تضيف لفكر المتلقين جديدا مع الرقي في التعامل المثمر وتقديم الزاد النافع والمقنع لا أن يأتي المنصة فلان وعلان ليقرأ نصوصه السردية أو المسرحية أو مقالاته الأدبية. فهذا أمر غير مستساغ ولا منطقي، ولقد ولّى ذلك العهد الذي فيه يقرأ الأديب نصوصه على مسامع جمهوره لأكثر من ساعة وبلا فواصل أو مداخلات. وإذا كان هذا الأمر غير لائق في قراءة النصوص الشعرية، فما بالنا إذا كانت القراءات لبحث من الأبحاث او مسودات قصص أو نصوص مسرحية. ومن الأعراف أن تقدم المنصة أشخاصاً معلومة تجاربهم ولهم وزنهم ومعروف باعهم في ميدان تخصصهم أو الوسط الذي يعملون فيه. أما أن يأتي شخص بلا حضور إبداعي أو بإمكانيات ضعيفة أو ما زال على عتبة المضمار الذي يريد التخصص فيه ثم يحاضر على رؤوس الأشهاد وكأنه قضى دهرا في التخصص، فذلك ما لا نفع فيه ولا جدوى، بل هو الخواء والخسران وإهدار الوقت والجهد.
ما دفعني للتطرق إلى هذا الأمر الذي هو من البديهيات، ما رأيته وسمعته في إحدى المنصات الافتراضية وفيها حاضر أحدهم فأنهك الحاضرين بقراءة نصوصه وبمطبات انفلات النص من حاسوبه فضلا عن تضييعه موقع الإعدادت التي لا يعرف كيف يستخدمها بشكل صحيح.
إن للمنصات أسسها التي يعرفها من يريد أن يكون محاضرا فيها ومحورا من محاورها، فذلك هو الذي يحفظ للمنصات هيبتها ويؤكد أهميتها ويعزز ضرورات الاستمرار على المشاركة فيها والمتابعة لها. والتقيد بهذه الأعراف هو الذي يجعلنا نبارك مساعيها ونعزز دورها ونشد على أيدي القائمين عليها وندعو إلى انتشارها. أما أن تصبح المنصات جوفاء بلا أعراف ولا أسس ولا عطاءات نوعية فذلك ما يجعلنا ندعو إلى تقليص فاعلياتها والحد من انتشارها أو استمرارها لأنها صارت من سقط المتاع الذي يجب التصدي له وربما محاربته كي لا نقبل مثل هذا الاستخفاف بالمتلقين واستمراء الظهور الرخيص.
أقول إن الذي يحفظ للمنصة هيبتها هو تقديرها للجمهور لا لدوره كمشارك فاعل حسب، بل لانه عنصر مهم في التباري بين المنصات. وما يعزز هذا التباري هو استقدام مبدعين أكفاء ومحاضرين ذوي باع. وبوجود أساتذة ذوي اختصاص أو اكثر من اختصاص، يغتني الجمهور ويغدو متحفزا للتعقيب والتداخل والتفاعل معه والثناء بروح إيجابية. ولا نستبعد أن تشهد المنصات بسبب مشاعية الحضور في قسم منها خروج متلق من المتلقين بسلوك شاذ عن المناخ المعرفي الذي يسود المنصة على طريقة «خالف تعرف» فهذا وارد، ولكن وجود الاعراف يمنح مدير المنصة ضبط الاجواء وبما يجعل الفائدة عامة للجميع يضيف جديدا أو يطرح اختلافا موضوعيا.
إن الالتزام بأعراف المنصات أمر واجب لا ينبغي أن يغفل عنه أي محاضِر نبيه، يدرك أن للمنصة طبيعتها ولها أغراضها، وعليه أن يسعي إلى تحقيقها لا أن يقوم بخرق الأعراف الأكاديمية للمنصة التي تستضيفه فيستطرد ويخرج عن الموضوع أو يوجّه المنصة لأغراضه الشخصية سياسيا أو شعاراتيا.
ومن غير اللائق أبدا أن يأتي المحاضر وهو لا يعرف كيف يستعمل إعدادات المنصة مستغلا وقت الحاضرين وظاهرا بمظهر المتعلم المبتدئ كما لا يجوز أن يستغل حضوره ليمارس سلوكيات أو يقوم بحركات غير لائقة كأن يظهر ماسكا – طيلة حديثه – سيكارته ودخانها الكثيف ينتشر في فضاء المكان الذي يجلس فيه محاولا أن يجعل – السيكارة- ترسم له صورة المتعالي الذي يراد هذا الشخص أن يوحي بها إلى رائيه؛ ومشاهد أخرى فيها يحصل التنابز والصلف وسلاطة الألسن مما قد لا نجدها سوى عند ثلة من الموتورين يمارسونها في بعض المقاهي التي قد لا يسلم من أذاها روادها الطيبون.
ويبقى لمدير الجلسة دوره المهم في حفظ الاحترام لمنصته، فإن رأى أمرا منبوذا أو خرقا أو مشاكسة قام بمهمته في إيقاف هذا الخرق، محافظا على مناخ الجلسة العلمي من دون أن يتهاون في السماح لأحد الحضور بالتمادي أو المغالاة كي لا يحرج المحاضر ويؤثر سلبا على سير الجلسة بل يوزع الدقائق بانتظام ما بين ( المحاضر) و(المتداخلين ) وبذلك يجري الحوار سلسا مفيدا.
إن هذه الممارسات النابية لو تكررت ستتفاقم السلبيات كما أن شيوع مثل هذه التصرفات داخل المنصات سيدفع المبدعين – أكاديميين وغير أكاديميين- إلى التردد في قبول دعوات المشاركة فيها. وتصبح المنصات من ثم عائقا في تطور هذه الفعاليات النافعة بدل أن تكون وسيلة مهمة في هذه المرحلة في التفاعل المعرفي وإشاعة الجمال وإغناء الثقافة.
ولمعالجة حال كهذه ينبغي أن يصار إلى وضع شروط صارمة لحضور المنصات ولائحة تعليمات ملزمة للسماح للمشاركة فيها، أما من يخرقها فليس لمدير الجلسة سوى أن يوقفه فورا أو حتى أن يخرجه من دائرته نهائيا، حفاظا على سلامة هذه المنصات واستمراريتها وأداء دورها المهم في رفد الثقافة الخاصة والعامة بزادها المعرفي المتنوع وحرصا على محاضريها ومتابعيها من عبث متصيدي الظهور والمتطفلين المتعالين والمتعالمين.
ونُشيد في هذه المناسبة ببعض المنصات التي حققت لنفسها حضوراً واضحاً بسبب التزامها بالأعراف الأكاديمية سواء مع المحاضِرين أو الجمهور فضلاً عن رجاحة ومهنية من يقومون عليها، وأغلبهم من المبدعين والأكاديميين من أصحاب الهمة والأناة والدربة.
*كاتبة من العراق

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com