رأي

صورة تذكارية: نافذة إلى جيل لن يعود مؤيد البدري.

بيدر ميديا.."

صورة تذكارية: نافذة إلى جيل لن يعود مؤيد البدري

 

زيد خلدون جميل

 

يقول المثل الإنكليزي «الصورة تساوي ألف كلمة» A Picture is Worth a Thousand Words. لكن هناك صور تاريخية تساوي الملايين من الكلمات، لأنها تمثل جيلا كان له تأثير خاص علينا، وأشخاصا نميزهم، فالصورة التاريخية التي من هذا النوع تبين جيلا بأكمله بكل أحاسيسه وأفكاره في تلك اللحظة التي التقطت فيها، أي أنها أكثر بكثيرمن مجرد أشكال بيضاء وسوداء، وهي لا تمثل الأشخاص الظاهرين فيها فقط، بل تاريخ مجتمع ووطن.
أما بالنسبة للصورة الموضحة هنا، فهي صورة لطلاب الصف الخامس الثانوي في ثانوية الأعظمية في بغداد عام 1952. ولمن لا يعرف العراق، فإن منطقة الأعظمية في بغداد كانت الأكثر تأثيرا في مسيرة العراق الثقافية والسياسية في القرن العشرين. وتبدو هذه الصورة وكأنها نافذة حية لعصر آخر من مدينة بغداد، حتى إن الجميع يدون وكأنهم ليسوا في صورة من الماضي، بل في صورة من المستقبل البعيد، الذي نحلم به. وتجعلنا نتمعن في وجوه الحاضرين فيها، وكأنهم يتحدثون إلينا في هذه اللحظة، ويخبروننا بمشاعرهم وطموحاتهم، فقد كانوا مختلفين تماما عنا، إذ ملأت الطموحات والمبادئ السامية نفسياتهم، وكانوا مؤمنين أن بغداد والعراق سيرتفعان إلى أرقى مستويات العالم في المستقبل القريب، لكن ليتنا نستطيع إخبارهم بما حدث بعد هذه الصورة. وكان رد فعل كل من شاهدها غير عادي في حجمه ونوعه، بسبب الإعجاب بها، لاسيما حول كون مظهر الشباب العراقي آنذاك أفضل بكثير مما هوعليه الآن، وأن التعابير اللطيفة على وجوههم تنم عن حالتهم النفسية المستقرة وأوضاعهم الصحية الممتازة، وأدبهم الجم. لكنها تمثل كذلك عصر هؤلاء الطلاب من استقرار اجتماعي واحترام كبير للثقافة بشكل عام وتجليل المتفوقين فيها.
كان أول من ميزت في الصورة الشخصية العراقية الشهيرة مؤيد البدري الذي قد يكون أشهر شخصية في تاريخ العراق الحديث، وكذلك خلدون جميل (وضعت نقطة على كل منهما في الصورة) الذي كان المصدر الأول للمعلومات عن الصورة. وقد قصّ لي بعض معارفي الذين عرفوا مؤيد البدري شخصيا عن طيبته وشخصيته المرحة، واستقامته قبل أن يصبح الشخصية الرياضية والإعلامية الأولى في تاريخ العراق الحديث، فقد كان من أعضاء فريق ثانوية الأعظمية لكرة القدم، وبعد ذلك أصبح الأول على كلية التربية الرياضية في بغداد، فأرسلته الحكومة العراقية لدراسة الماجستير في التربية الرياضية في الولايات المتحدة الأمريكية. وبعد عودته إلى الوطن قدم عام 1963 أشهر برنامج في تاريخ التلفزيون العراقي، هو برنامج «الرياضة في اسبوع» ذو المقدمة الموسيقية المميزة المأخوذة من أوبرا «حلاق أشبيلية» التي كان مؤيد البدري قد اختارها بنفسه، وبلغت شهرة البرنامج درجة أنها أصبحت المقطوعة الأشهر في العراق، وعرفها الجميع بموسيقى «الرياضة في أسبوع» أما مؤلفها الموسيقار الإيطالي جياكينو روسيني، فلم يعرفه أحد إطلاقا، وكأن من قام بتأليفها هو مؤيد البدري نفسه.

كان أول من ميزت في الصورة الشخصية العراقية الشهيرة مؤيد البدري الذي قد يكون أشهر شخصية في تاريخ العراق الحديث، وكذلك خلدون جميل (وضعت نقطة على كل منهما في الصورة) الذي كان المصدر الأول للمعلومات عن الصورة.

ويعتقد الكثيرون أن سبب شهرة البرنامج كانت موضوعه، أي الرياضة، لكن هذا كان في الواقع أحد سببين لذلك النجاح، حيث كان السبب الآخر شخصية مؤيد البدري نفسه، إذ نجح في إظهار شخصيته الجذابة للمشاهدين بشكل جعلهم يعتقدون أنه صديق العمر لكل منهم، ولذلك أحبه الجميع على اختلاف اتجاهاتهم السياسية والاجتماعية والثقافية. وكنت قد قابلت البدري، ولهذا حكاية طريفة تعود إلى عام 1970 عندما أتى المصارع عدنان القيسي إلى بغداد للقيام بعدة نزالات استعراضية بدعوة من الحكومة العراقية. وقام الإعلام الحكومي العراقي بحملة إعلامية هائلة حول تلك النزالات، ما جعلها الشغل الشاغل في أوساط الرياضيين والشباب في العراق، مستغلا عدم معرفة العراقيين بحقيقة هذه النزالات، حيث ظنها أغلب الناس نزالات حقيقية. وكنت آنذاك تلميذا في المدرسة الابتدائية، وكل من في المدرسة لم يكن يتكلم إلا عن هذا الأمر. ولذلك، بدأت ألح على والدي لحضور أولى النزالات، وسرعان ما استجاب لإلحاحي، وأخذني إلى ملعب الشعب، حيث كان سيتم النزال فيه. وكنا مبكرين عندما وصلنا الملعب، وكان خاليا من الجمهور، ومن الواضح أن الملعب قد أعدّ لعدد غير عادي من الجمهور لحضور ذلك النزال. وما أزال اتذكر الحلبة في وسط الملعب والقائمين على تنظيم النزال، يعملون بكل همة ونشاط ليكون كل شيء على أتم وجه. واتجهنا نحو الحلبة، فإذا بشخص يقف أمامنا وهو يراقب ما يحدث، ولم يكن هذا الشخص إلا مؤيد البدري، الذي كان من أصدقاء والدي القدماء، وكانت الدهشه بادية على محياه. وبعد السلام والتحية ابلغه والدي ضاحكا أن ابنه، أي أنا، يريد مشاهدة النزال، ما أثار استغراب مؤيد، الذي بادر قائلا «إنها مسخرة حقيقية. لا تحضرها، فإنها لا تستحق المشاهدة». وهنا نظر إليّ والدي مبتسما وقرر العودة إلى المنزل، ولم أبدِ أي اعتراض. وكان البدري ضد هذه النزالات الاستعراضية، التي لم تكن سوى تمثيلية سخيفة انطلت على أغلب الناس في تلك الفترة.
كان أول ما فعلته عند عثوري على هذه الصورة التاريخية محاولة التعرف على أسماء الطلاب الظاهرين فيها، ومن منهم لا يزال على قيد الحياة. واستطعت التعرف على ثلاثة عشر منهم، وتأكدت من كون أربعة منهم فقط على قيد الحياة، واتصلت بثلاثة منهم، وللأسف فشلت في الاتصال بمؤيد البدري نفسه لأنه كان مريضا في الولايات المتحدة الأمريكية. ولمعرفة المزيد عن من في الصورة، لجات إلى الفيسبوك حيث وضعتها في عدة صفحات خاصة بالعراقيين. لكن على الرغم من رد الفعل الهائل الذي أثارته الصورة من إعجاب وتعليقات لم يعرف أحد شيئا عن هؤلاء الطلاب، بل لم يميزهم أحد، باستثناء مؤيد البدري طبعا. وأثار الأمر لديّ تساؤلات كثيرة، فإذا كان أغلبية الطلاب قد توفوا، فأين أولادهم وإخوانهم وأصدقاؤهم؟ وهل اختفى الجميع دون أثر إلى الأبد؟ وألا يتابع أي منهم ما يحدث في وسائل التواصل الاجتماعي؟ وهل وصلت درجة اللامبالاة إلى هذا الحد؟ قد يبدو هذا مرعبا، لكنني كنت في الواقع أبحث عن جيل قد مضى دون عودة، بكل تراثه وذكرياته، تاركا إيانا وكاننا لقطاء لا تاريخ لنا.

باحث ومؤرخ من العراق

 

كلمات مفتاحية

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com