مقالات

لكتابة في‮ ‬غير زمانها إنتحار.

بيدر ميديا .

لكتابة في‮ ‬غير زمانها إنتحار
رباح آل جعفر
تفضل الصديق الدكتور أحمد عبد المجيد رئيس تحرير صحيفة‮ (‬الزمان‮)‬،‮ ‬فدعاني‮ ‬بمحبة وشوق أن‮ ‬يكون لي‮ ‬موطئ قلم،‮ ‬أو نافذة أطلّ‮ ‬منها على القارئ بعد خمس سنوات من الغياب عن الصحافة تكفي‮ ‬من الحوادث لملء خمسين سنة‮. ‬
وأنا أدرك أن الكتابة في‮ ‬غير زمانها انتحار،‮ ‬فكيف إذا كان الزمان نفسه امتلأ بالفراغ،‮ ‬وتاه في‮ ‬الفوضى،‮ ‬وتعمّق في‮ ‬السطحية‮.. ‬وكانت الصحافة تقف على حافات الغروب في‮ ‬وطن‮ ‬ينحر نفسه بنفسه؟‮!.‬
عرفت الصديق أحمد عبد المجيد في‮ ‬الأزمنة الخوالي‮ ‬محارباً‮ ‬قديماً‮ ‬في‮ ‬دنيا الصحافة حتى آخر قطرة حبر‮. ‬لا‮ ‬يتنازل عن موقف ولا‮ ‬يدسّ‮ ‬قلمه في‮ ‬التراب،‮ ‬وكان بيننا على مساحة هذا العمر إرث من محبة،‮ ‬توافقنا بغير اتفاق بما تيّسر لنا من أشواق،‮ ‬وكتبنا بأصابعنا الشموع من أجل أن‮ ‬يطلع النهار وقصصاً‮ ‬لعلها تستحق أن نحكيها ذات‮ ‬يوم‮.‬
أعود إلى‮ (‬الزمان‮) ‬من باب الحنين إلى الكتابة الصحفية بعدما عشت هذه المهنة بقلبي‮ ‬ووجداني‮ ‬سنوات ممتدة كانت فوارة بالآمال‮. ‬لكن ولسوء الحظ تراجعت الصحافة الورقية وتوارت في‮ ‬عصر التكنولوجيا أمام قرائها،‮ ‬وتهتكت حروفها،‮ ‬وتعطلت كثير من هذه الصحف وأقفلت أبوابها وبعضها‮ ‬يصدر على استحياء،‮ ‬وتساوى المبدعون والأدعياء‮.. ‬ولم‮ ‬يعد عهدنا بها عهد ذلك الفارس ولا عهد مزامير تُتلى علينا كل صباح‮.‬
ولعلّ‮ (‬الزمان‮) ‬من بين صحف نادرة بقيت تقاوم بأقلام كتيبتها الصحفية من عشاق التجدد،‮ ‬شباباً‮ ‬وشيوخاً،‮ ‬لتحمي‮ ‬خط الدفاع الأخير عن هذه المهنة النبيلة،‮ ‬التي‮ ‬كثر المتسلّلون إليها من خارج السرب،‮ ‬و(الزمان‮) ‬لا تكف مخيّلتها عن التجدد والإبداع في‮ ‬محاولة تأسيس مدرسة صحفية عراقية لا تفصل الدقّة عن الحماسة،‮ ‬ولا الكفاءة عن الأمانة‮.. ‬ومن المؤكد أنها مستعدة لمن أراد أن‮ ‬يفتح الدفاتر ويكشف الحساب‮.‬
ويتذكر الزملاء من جيلنا كيف كنّا سعداء ونحن مقبلون بحماسة الشباب على المهنة التي‮ ‬أحببناها بحثاً‮ ‬عن المتاعب‮. ‬نجمع الأخبار ونتبارى في‮ ‬اختيار المانشيت ونتنسّم رائحة الحبر في‮ ‬المطابع كأننا نتنسّم من شميم عرار نجد على حد قول البدوي‮ ‬العاشق،‮ ‬فإذا دارت ماكنات الطبع كانت قلوبنا تدور‮.‬
في‮ ‬حوار ثوري‮ ‬مع طه حسين،‮ ‬يقول الشاعر نزار قباني‮:‬
إن أقسى الأشياء للنفس ظلماً‮ ‬
قــلمٌ‮ ‬في‮ ‬يـــد الجـبانِ‮ ‬الجـبانِ
وفي‮ ‬بلاد‮ (‬تستطيع أيّة بندقية‮ ‬يرفعها جبان،‮ ‬أن تسحق الإنسان‮) ‬ماذا‮ ‬يفعل الكاتب عندما‮ ‬يخيبُ‮ ‬زمانه،‮ ‬وتخذله آماله،‮ ‬وتغدو أيّامه معجونة بالكآبة،‮ ‬والانحناء أمام نثارات من الصور الحزينة‮.. ‬غير أن‮ ‬يتوارى قلمه،‮ ‬ويلجم حنجرته،‮ ‬ويسكت صوته‮.. ‬مثل‮ (‬ذئب‮ ‬يذوق دمه فيختنق)؟‮!.‬
ماذا أقول في‮ (‬الزمان‮) ‬بعد سنوات من الغياب،‮ ‬وهل بقي‮ ‬شيء‮ ‬يُقال؟‮.‬
الكاتب لا‮ ‬يملك من السلاح إلا قلمه والقلم في‮ ‬أفضل أحواله ليس جيشاً‮ ‬ولا حزباً‮. ‬الأديب العالمي‮ ‬همنجواي‮ ‬فهم الكتابة بأنها لعبة مع الموت‮. ‬الشاعر الفرنسي‮ ‬أندريه شينيه طال لسانه فقتلته مقصلة الكونكرد في‮ ‬مشهد أغرب من الخيال وأقرب من الحقيقة‮. ‬شاعر اسبانيا العظيم‮ ‬غارسيا لوركا لم‮ ‬يعثروا لجثته على أثر في‮ ‬الحرب الأهلية،‮ ‬دفنوه في‮ ‬قبر مجهول،‮ ‬وصدقت نبوءته عندما كتب قصيدة‮ ‬يقول في‮ ‬أبياتها‮: (‬عرفتُ‮ ‬أنني‮ ‬قتيل‮: ‬فتّشوا المقاهي‮ ‬والمقابر والكنائس،‮ ‬افتحوا البراميل والخزائن،‮ ‬اسرقوا ثلاثة هياكل عظمية،‮ ‬لينتزعوا أسنانها الذهبية،‮ ‬ولم‮ ‬يعثروا عليّ،‮ ‬ألم‮ ‬يعثروا عليّ؟ نعم‮! ‬لم‮ ‬يعثروا عليّ‮)!.‬
أتذكر أني‮ ‬قلت‮ ‬يوماً‮ ‬للشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي،‮ ‬وكنّا جالسين في‮ ‬مكتب صديقنا المفكر الأستاذ عزيز السيد جاسم‮: ‬إن على الشاعر الكبير أن‮ ‬يتوقف عن الكتابة،‮ ‬وردّ‮ ‬عليّ‮ ‬ممتعضاً‮: ‬لماذا لا تطلب،‮ ‬إذن،‮ ‬من هذا الشاعر أن‮ ‬ينتحر؟‮!.‬
ليكن الأمر كذلك،‮ ‬قلت للبياتي،‮ ‬فالكاتب العظيم هو الذي‮ ‬يحترق‮.. ‬والكتابة في‮ ‬غير زمانها انتحار‮.‬

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com