مقالات

هل من جديد في العراق؟ نعم، تمخض الجبل فولد فأراً!

الدكتور كاظم حبيب

مرَّت الآن ستة شهور على تسلّم عادل عبد المهدي رئاسة الوزراء في العراق. حتى الآن لم يستكمل مجلس الوزراء قوامه، في وزارتي الدفاع والداخلية، ولا مجل النواب لجانه ال 25. ولكن الأهم من كل ذلك هو أن رئيس الوزراء ومجلسه لم يخطو خطوة واحدة إلى الأمام في عدة محالات جوهرية تمس كيان العراق كله:

  1. وضع عناصر في مجلس الوزراء لا تنتمي لأحزاب طائفية وعلى أساس المحاصصة الطائفية، أي عنا وطنية مستقلة.
  2. مكافحة الفساد باعتباره المطلب الوطني الملح والمستمر الذي راوغت فيه كل الوزارات السابقة، لأنها تشكل جزءاً أساسياً من الفساد ذاته، والقائمة أيضاً، وبالتالي الفاسدون يواصلون ليس وجودهم في مواقعهم فحسب، بل وفسادهم الكبير أيضاً.
  3. لم يبدأ أي تنفيذ فعلي لبرنامج الدولة الاقتصادي، بل هو السير على منوال الوزارات السابقة في تصريف الأعمال وصرف الأموال بعيداً عن التنمية الاقتصادية، والوعود الفارغة تبدو اليوم للشعب بوضوح كبير، وكما قيل دوماً “العربة الفارغة كثيرة الجعجعة”.
  4. رغم الاتصالات مع مصر والأردن والسعودية، فأن طبق الذهب بأموال العراق يقدم لإيران أولاً، وهي التي تبني اليوم بنيتها الأساسية في مجالات الأمن والحشد والاقتصاد وعموم الدولة والمجتمع، بما لا يفسح أي مجال لقرار اقتصادي أو سياسي مستقل يمكن أن يصدر عن الحكومة العراقية الحالية، كما كان الأمر في عهد رئيس الوزراء الأسبق على نحو خاص. 
  5. الاستجابة لمطالب الشعب في مجال الخدمات لا يزال كما كان عليه قبل ذاك رغم حملات الاحتجاج والإضرابات.

الا يحق للعراقيات والعراقيين يرددون بوضوح كامل المثل الشعبي “تيتي … تيتي … مثل ما رحتي جيتي”، ولكن العودة تكون أسوأ من الذهاب إذ لا حراك جديد وبالتالي يكون التخلف هو سيد الموقف. دعونا نتفحص الأمر.        

فالساحة السياسية العراقية لا تزال، كما كانت منذ الاحتلال الأمريكي-الإيراني للعراق حكراً على قوى الإسلام السياسي يلعبون فيها كما يشاؤون، بل ويحاول البعض منها احتواء القوى المدنية والديمقراطية بتخريجات تبدوا مقبولة ومشجعة، ولكن كما يقول المثل “أبو گروة ايبيّن بالعبره”! كنت أتمنى ألَّا يحصل ذلك، وكنت أمني النفس بأن أكون على خطأ كبير، وأحبتي على صواب، بعكس الأمر الاعتيادي حيث يتمنى المرء أن يكون هو على صواب وآخرون هم  أو آخر هو على خطأ. ولم تتحقق أمنيتي ولا أملي، فتذكرت قول المتنبي الكبير:

مَا كلُّ ما يَتَمَنّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ                         تجرِي الرّياحُ بمَا لا تَشتَهي السّفُنُ

فحين أُعلن عن تشكل تحالف “سائرون نحو الإصلاح في 17/01/2018 بين التيار الصدري والحزب الشيوعي العراقي وبعض القوى السياسية الأخرى لخوض الانتخابات المحلية، ثم في استمرار هذا التحالف لخوض الانتخابات العامة في 12 أيار/مايس 2018 حمل التحالف شعار “سائرون لبنا الدولة المدنية.. دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية”. وهو شعار جيد وقوي. وفي حينه نشر الموقع الإلكتروني لـ “سائرون” ما يلي: “تؤكد القوى المشاركة في “سائرون نحو الإصلاح” أن هدفها من التكتل هو تعديل مسار العملية السياسية في العراق وحل الأزمات ومغادرة نهج المحاصصة الطائفية، وهو ما أشار إليه عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي مفيد الجزائري الذي صرح للجزيرة نت في الثالث من أبريل/نيسان 2018 بأن هذا التحالف – الذي جمع بين “إسلاميين معتدلينو”علمانيين ديمقراطيين”- يمثل كسراً للطائفية السياسية ونهجاً ربما تتسع قاعدته الجماهيرية في المستقبل.(أنظر: موقع تحالف سائرون، أخذ المقتطف بتاريخ 15/04/2019.) وفي الانتخابات التشريعية لعام 2018 فازت قائمة سائرون بـ 54 مقعداً، كانت حصة الحزب الشيوعي العراقي منها مقعدين، وهما للرفيق رائد فهمي، سكرتير اللجنة المركزية وللرفيقة هيفاء الأمين. ومن مجمل التصريحات الصادرة بشأن سائرون كان ولا يزال يجري تأكيد خمسة مسائل جوهرية: ** من أجل إصلاح الدولة ونهجها، ** ضد الطائفية والمحاصصة الطائفية، ** بناء الدولة المدنية، دولة المواطنة، ** ضد الفساد ومحاسبة الفاسدين، ورفض التدخل الإقليمي والدولي في الشأن العراقي. ليس هناك من عاقل لا يؤيد هذه الأهداف، إن كان حاملها، أو بعض أبرز حامليها جادين لتنفيذها.

والسؤال المهم الذي يواجه كل مشارك ومتابع للساحة السياسية العراقية: ماذا تحقق بالنسبة للأهداف الخمسة الأساسية، على وفق ما يجري فعلياً في الساحة السياسية العراقية، وليس من خلال أي تصور شخصي لما يحصل. أي أترك العدسة تسجل الوقائع ومن خلال الصحافة العراقية التي لم يكذب ما جاء فيها أو يتحفظ عليها.

فأول الأمور السيئة كانت مساومة تسليم السلطة لا لشخصية تكنوقراطية وطنية نزيهة، بل سلمت للإسلامي اليميني عادل عبد المهدي المؤمن بولاية الفقيه والمتشبث بشباك الكاظم ليفرجها له بدون الاعتماد على الشعب. وثاني الأمور السيئة هو التعاون غير المعقول مع قائمة فتح التي تضم كل المليشيات الطائفية المسلحة التي تعود لإيران، والذي لا يتعب رئيس هذا الفتح عن تقبيل يد سيده وفقيه أمره. دعونا نتابع ما ينشر في الصحافة العراقية. بتاريخ 14/04/2019 نشرت جريدة المدى البغدادية تقريرا مهماً وطويلاً للصحفي السيد محمد صالح تحت عنوان “اجتماعات بين الفتح وسائرون تُنهي الخلاف على رئاسات اللجان رغم تحفّظ الكتل الشيعيّة”، جاء فيه ما يلي:

“حسمت اللقاءات الثنائية بين تحالفي سائرون والفتح أسماء رؤساء اللجان البرلمانية ونوابها والمقررين في اجتماع عقد قبل يومين حيث اتفقا مع باقي المكونات على منح القوى الشيعية رئاسة ثلاث عشرة لجنة برلمانية دائمة و12 لجنة للقوى السنية والكردية مناصفة. وسيقوم تحالفا سائرون والفتح بعملية توزيع رئاسات هذه اللجان على الكتل والأحزاب الشيعية. وستناقش مفاوضات اللحظة الأخيرة عدد اللجان البرلمانية الدائمة وإمكانية استحداث لجنة واحدة أو لجنتين لترضية بعض الكتل والمكونات، في حين ماتزال رئاسة لجنتي النزاهة والقانونية غير محسومتين.” (أنظر: محمد صالح، اجتماعات بين الفتح وسائرون تُنهي الخلاف…، 14/04/2019). ماذا يعني هذا النص؟ إنه يعني ببساطة فائقة إن سائرون بأشراف مقتدى الصدر وفتح بقيادة هادي العامري يقرران التوزيع المحاصصي الديني والطائفي للجان مجلس النواب، أي إن المحاصصة الطائفية التي يُراد تجاوزها، تكرست بصورة رسمية وعبر مفاوضات بين سائرون التي تضم التيار الصدري الشيعي وفتح التي تضمن كتلاً شيعية، أي أصبح التكتلان الكبيران يقرران توزيع المقاعد على بقية الأحزاب الشيعية بدلاً من التحالف الوطني أو البيت الشيعي السابق. بهذا المعنى لم تتحقق أية خطوة إلى الأمام في مجال تجاوز المحاصصة الطائفية في العراق بل جرى تكريسها لا في توزيع عدد الوزارات بين الطوائف الدينية فحسب، بل وفي اللجان العاملة في مجلس النواب، وجرى الأخذ بذات القاعدة التي وضعها باول بريمر في أن يكون للشيعة أكثرية وللسنة والكرد الدرجة الثانية والثالثة أو مناصفة، ومن ثم يتصدقون على البعض من أتباع الديانات الأخرى بلجنة أو لجنتين تبتكر لهم. فما هو الجديد، وما هو التغيير الحاصل في هذا الاتجاه، وما هو موقع مبدأ المواطنة في هذا المجرى؟ الشيء الوحيد هو أن سائرون وفتح قرروا توزيع حصة الشيعة عليهما وعلى بقية الكتل الشيعية، وهكذا مع السنة والكرد.

والأكثر إساءة لما كانت تقول به سائرون في توجهها لإلغاء المحاصصة وجعل السلاح بيد الدولة ما ورد في التقرير المذكور، حيث كتب السيد محمد صالح بناء على تصريح قيادي في سائرون لم يذكر اسمه ما يلي: “أما بخصوص تمسك تحالف سائرون برئاسة لجنتي الأمن والدفاع البرلمانية يبرر القيادي قائلا إن “التيار الصدري يمتلك أكبر فصيل مسلح (سرايا السلام) فضلا عن وجود مشروع إصلاحي لتحالف سائرون في وزارتي الدفاع والداخلية والأمن الوطني وإنهاء عملية الفساد المستشرية في هذه المؤسسات”. اين أصبح شعار إنهاء المليشيات الطائفية المسلحة، أين صار شعار كل السلاح بيد الدولة فقط. إن بقاء التيار الصدري مالكاً لسرايا السلام، وهادي العامري لفيلق بدر، والخزعلي لعصائب الحق، وكتائب حزب الله والعشرات من المليشيات الطائفية المسلحة والكثير منها من إنتاج وتوجيه وأشراف وتمويل إيراني، فماذا حدا مما بدا!! ألا يصلح المثل الشعبي هنا أيضاً: “تيتي..تيتي .. مثل ما رحتي جيتي…”. لم يتغير ما كان ينبغي أن يتغير على وفق تصريحات قادة سائرون. لست ممن كان يعتقد بان التغيير سيحصل ما دام عادل عبد المهدي تسلم رئاسة الحكومة، بل كنت أعول اساساً على الحركة المدنية الشعبية التي صمدت ونمت منذ سنوات وأن تتسع لتغير من ميزان القوى، بما في ذلك تأمين التعاون مع قواعد قوى إسلامية نظيفة وواعية، لفرض نفسها على الشارع والنخب الحاكمة لتغيير الوجهة الجارية حتى الآن، .إلا إن الوعود الكبيرة التي أطلقها عادل عبد المهدي، لم تنفذ بأي حال وبقي كل شي على ما هو عليه، بل وأن تصبح المحاصصة الطائفية رسمية وتعلن في الصحافة علناً وبروح طائفية مقيتة ومكشوفة، إذ لم يعد هناك أي تردد في التوزيع الطائفي في مجلس النواب، الذي يصرخ ليل نهار، بأنه لا يعمل على أساس طائفي. هذا هو مربط الخيل. وليس هناك أي اعتراض عليه مِن منْ هم في مجلس النواب على هذا التوزيع المخل والمضر بالعراق وشعبه، فيما عدا ما وصلني من خبر جديد من “اتحاد العشب” تحت عنوان “ضرورة تحقيق التوازن السياسي لا “المحاصصاتي” في تشكيل اللجان البرلمانية: ولكن النصوص المقتطفة من مشاركة الرفيق رائد فهمي لا تتضمن هذه الصراحة في مناهضة التوزيع الطائفي كما في العنوان، واليكم ما جاء فيه: ” اعتقد ان الموضوع يتضمن أكثر من بعد، الأول كفاءة وخبرة الأشخاص وهذا مهم جدا، والبعد الثاني هو ضرورة تحقيق التوازن السياسي داخل اللجان، بمعنى يجب ان تعكس حجم الكتل السياسية المختلفة داخل مجلس النواب”. ثم أكد: “توازن الكتل السياسية في اللجان، يعكس رأي الشعب، الذي اعطى صوته لها، وهذا يعني انه ايد مشروعها، من هنا لا يمكن ان يجري الالتفاف على الارادة الشعبية ونتائج الانتخابات” ثم يضيف الخبر الصحفي بأن الرفيق منبهاً الى انه لا يقصد بالتوازن السياسي “التوازن القومي والمذهبي”. (انظر: “رائد فهمي: ضرورة تحقيق التوازن السياسي لا “المحاصصاتي”، في تشكيل اللجان البرلمانية”، المركز الإعلامي للحزب الشيوعي العراقي.) كنت أتمنى، نعم كنت اتمنى وأمل أن يكون موقف الحزب الشيوعي العراقي، المناهض للطائفية ومحاصصاتها من حيث المبدأ والممارسة، أكثر وضوحاً وصراحة في تصريح الرفيق رائد فهمي، وفي رفضه لموقف سائرون في التعاون مع فتح لتنظيم التوزيع المحاصصي لرؤساء اللجان ونوابها والمقررين فيها، وتبرئة الحزب من هذا العمل الطائفي البغيض، وأن يكون موقف الحزب في رفض ذلك في مجلس النوب أيضاً.

ليس هذا كل ما يجري في العراق، بل هناك أشياء أخرى، انظروا إلى ما يقوم به رئيس الوزراء العراقي. إنه لا يكتفي باستيراد ما قيمته 20 مليار دولار أمريكي سلعاً وخدمات من إيران، بأسعار خيالية لدعم إيران، كما طلب رئيس وزراء إيران حسن روحاني، بل أكد إنه سيصرف 40 مليار دولار أمريكي لدعم إيران، في وقت يعاني العراق الأمرين تحت وطأة الواقع الراهن، ولاسيما في محافظات نينوى وغرب العراق التي اجتاحها داعش بفضل وجود الأحزاب الإسلامية السياسية على رأس السلطة في العراق. لست إلى جانب الحصار الاقتصادي الأمريكي ضد الشعب الإيراني، فهو جريمة بشعة، عانى الشعب العراقي منها وليس صدام حسين وطغمته المجرمة حين فرض على العراق، ورفضت القوى الإسلامية السياسية العراقية المطالبة برفعه انتقاماً من النظام، ولكنه كان إساءة للشعب، إذ إن قرار الحصار الأمريكي لا يعاقب النخب الحاكمة ولا الملالي في إيران، إذ إنها لن تعاني من عواقب هذا الحصار، بل الشعب الإيراني وحده هو من يعاني الأمرين، والتي بدأت أثارها تشتد من خلال ارتفاع حجم البطالة واتساع جديد لقاعدة الفقراء والجوع والحرمان.

ولكن علينا تشخيص الواقع التالي في العلاقة مع إيران: فمنذ تولي نوري المالكي السلطة في العراق في عام 2006 حتى يومنا هذا، توجهت مئات المليارات من الدولارات الأمريكية من الخزينة العراقية بشكل رسمي أو غير رسمي (غير شرعي) إلى الخزينة الإيرانية والسوق الإيراني وبأساليب كثيرة. (على من يرغب الاطلاع أكثر يمكنه مراجعة خطاب أحمد الجلبي حول إيرادات العراق التي بلغت 550 مليار دولار أمريكي في خمس سنوات، ومنها 312 مليار دولار ذهبت عبر مزاد البنك المركزي إلى البنوك الخاصة بذريعة استيراد في حين إن مبلغ الاستيراد الفعلي لم يزد عن 155 مليار دولار أمريكي، فأين ذهبت البقية. وهل اغتيل لهذا السبب كما يشاع؟) اعتقد أن السيد عادل عبد المهدي قد وقف عند شباك السيدة معصومة في مدينة قم أخيراً وأقسم، وهو يقبل الشباك، بأنه سيقدم كل شيء لصالح إيران حتى لو كان العراق كله وجميع أهله. التحليل الواقعي والمنطقي يشير إلى أن ما أشرت إليه في أعلاه هو عين الصواب، فالماضي يعيش حاضرنا وحاضرنا يعبر عن ماضٍ عالق في العراق لم يتحرر منه بعد، ونحتاج إلى المزيد من الجهود الشبابية التطوعية والحراك المدني الشعبي لتساهم في تخليص العراق من جحيم ومستنقع الطائفية ومحاصصاتها والفساد السائد. إنها المآسي والمحن والأزمات التي يعيشها الشعب ويعاني منها في آن وبقسوة، ولن يحلها سوى النضال والحراك المدني الشعبي لتغيير ميزان القوى في صالح القوى المدنية والديمقراطية، تيارها الديمقراطي، الذي عول عليه الكثير، لصالح إقامة الدولة الديمقراطية العلمانية.       

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com