مقالات

الأديب الكوردي “بدل رفو” داخل السجن في كوردستان

حقيبة سوداء فيها كتب وأوراق ذكرني بالأديب المصري طه حسين ونجيب محفوظ ، قميصه المربعات وهندامه المتواضع وببسمته المعهودة قابلني وقال اليوم سنذهب لمكان جديد ، ركبنا سيارة أخيه الأستاذ التربوي سربست وسلكنا الطريق من حي الشرطة إلى الجسر المؤدي إلى ( اتيتي ) شارع عريض جميل على مساحة أطرافه جبال شامخة خضراء وروابي مشجرة وفي وسط الجزرة الوسطية وضعت كامرات لمراقبة السيارات المسرعة ، عرفت هذا عندما قلل سربست سرعة السيارة للمحافظة على أمن الناس وعدم وقوع حوادث سير .

سألت الأديب بدل رفو هل حضرت لما ستقوله لهؤلاء الأحداث في السجن فقال : اغلب محاضراتي هنا أو في الخارج تكون عفوية ما عدا بعض النقاط أدونها في ورقة للتذكير ، وعند اقترابنا من بناية سجن الأحداث والنساء الواسعة في منطقة ( اتيتي ) أوقفنا الحارس مستفسرا لوجودنا وهذا حقه وبعد الاتصال بالمسئولين وبالصديق مهدي كلي مسئول مكتبة السجن ، ركنت السيارة في الكراج الخاص بالسجن وسمحوا لنا بالدخول بعد التأكد وعبرنا بوابة السجن ورأينا مساحة السجن واسعة وجميلة تظلها الأشجار والمناظر البهية التقى بنا الأستاذ مهدي كلى وبعض الضباط والمسئولين ورحبوا بنا واتجهنا لغرفة المدير الأستاذ زكي صالح موسى مدير إصلاح الأحداث والنساء في دهوك بدوره رحب بنا وجرى نقاش وحديث عن الثقافة في الخارج وداخل كوردستان والفرق بينهما وأوضاع السجون والثقافة ودور الوعي والمحاضرات النفسية والفكرية والتعليمية ثم استأذنا وخرجنا إلى البناية الخاصة بالصحة التابعة لصحة دهوك. 

والتقينا بالدكاترة من الرجال والنساء وجرى حديث عن الصحة والحالات الصحية في السجن ودور وزارة الصحة في تلبية طلبات هذا المركز الصحي الذي يحتاج مثلا إلى الأدوية وحاجات أخرى ، ثم اتجهنا إلى مكتبة السجن برفقة الأستاذ مهدي كلى التي جمع فيها الأحداث ليلقي عليهم الأديب بدل رفو محاضرة عن تجليات السجن وما يتعلق بشأنها رأينا وجوه الأحداث الذين لا تتجاوز أعمارهم بين 10 – 17 سنة وهذا العمر من الأعمار الصعبة في التوجيه والإصغاء والتوجيه ، وجوه بريئة لا تدل على الشر العقيم وملابسهم نظيفة جميلة كلهم ينظرون إلينا بتساؤل ، وبعد لقاء التحية ، بدأ الأديب بدل رفو في الحديث عن ظروف السجن وعلاقتها بتكوين شخصية الإنسان وأكد لهم بصورة بسيطة قريبة من عقولهم أن هناك ناس خارج السجن ولكنهم مسجونين داخل جهلهم وأسلوبهم الخاطئ في المجتمع ، مسجونين فكريا واجتماعيا وشرح لهم الفرق بين السجن الغربي والسجن الشرقي حيث السجن الغربي يضع السجين في غرفة لوحده رغم توفر كل ما يحتاجه لكن يصاب بالوحدة بالكآبة والجنون أما السجن الشرقي يضع السجين مع مجموعة من السجناء وهنا يتجلى التبادل الفكري والاجتماعي والتواصل النفسي أي الأفضل هنا ما يسمو بالإنسان ، 

وتحدث عن فترة السجن أن تستغل بشكل سليم بالقراءة والكتابة وهناك الكثير من الأشخاص المشهورين كانت بدايتهم الأدبية والمهنية في السجن ، ومثلما هناك أدب الرحلات وأدب المهجر لا بد هناك أدب السجن واسرد بعض الأمثلة الواقعية التي رآها في الخارج وفي عدة دول أوربية وذكر كيف نلسون مانديلا قضى ما يقارب 27 سنة في السجن لكنه خرج وأصبح رئيس دولة لفترة زمنية ثم تنازل عنها في الانتخابات لكي يعلم الآخرين معنى الديمقراطية ويعطي فرصة للكفاءات أن تأخذ دورها فلا يمكن التشبث في المنصب أو الكرسي للأبد ، ما دام الآخر سيأتي وينفع المجتمع والبلد أكثر ، وتحدث عن تفاصيل السجون وأنواعها سجون الأحداث والسجون السياسية  والنفسية والعسكرية ومهماتها وواجباتها .

ثم أعطى فرصة للسجناء الأحداث للأسئلة وسألوا عن دور السجون في الأفلام وهل هي حقيقية ؟ فرد عليهم بان المنتجين لا يهتمون سوى بالمال وشرح لهم كيف مثلا سجين بملعقة يخرق جدارا ؟ ووضح لهم إنها بعيدة عن الحقيقة وكل ما في الأمر الربح المادي ، وبعد الانتهاء من الأسئلة أخذنا صور تذكارية أمنية لم تظهر وجوههم ، وابتسموا ورأينا ملامح الراحة والاطمئنان والفرح .

وأهدى الأديب بدل رفو بعض مؤلفاته للمكتبة ووقع عليها ، ثم سلمنا عليهم وخرجنا نزور مطعم السجن والطعام المهيأ للسجناء وقابلنا مسئولي المطبخ فرأينا الوجبة الغذائية التي تقدم للمدير والضباط والمراتب نفسها تقدم للسجناء ، ثم ودعنا الجميع بفرح عميق ، ولا بد من كلمة هنا التي أشيد فيها لدور الأديب بدل رفو في جهده الفكري والأدبي والإنساني المميز ، فقد حضرت معه محاضرة سابقة ألقاها في إعدادية باعذرى في قاعة واسعة وبحضور ما يقارب (250 ) طالب وطالبة ، هذا الجهد التوجيهي يحسب له علما دون مقابل مادي ، همه الوعي الإنساني وخدمة الفكر الذي يسمو بالمجتمع ، وكلمة لا بد مهما كان السجن المغلق المنعزل عن المجتمع الذي يقيم فيه الشخص المذنب لتنفيذ العقوبة  التي أصدرتها المحكمة بقرار من القاضي لخروجه من القواعد والقوانين الاجتماعية ومهما توفرت المرافق الحيوية والترفيهية والعملية للمساجين فلا بد من الاهتمام لهذه الشريحة وفق هيكلة ونظام إدارة متطور واعي في كل ما يتعلق بالسجن والسجين ، وهذا ما لمسناه في إدارة الأستاذ زكي صالح موسى مدير سجن الأحداث والنساء .

فالسجون وجدت لحماية المواطنين وحفظ الأمن وتنظيم العلاقات في المجتمع  وفي نفس الوقت تقويم سلوك المنحرف وإعادة تأهيله اجتماعيا وفكريا وروحيا ونفسيا وسلوكيا بتوفير المساحة الملائمة والتهوية والمرافق الصحية والخدمات التعليمية والتثقيفية والمحاضرات الإنسانية التوجيهية التي تصحح المسار الفكري للمساجين فوجود الأطباء والأخصائيين والاجتماعيين ومن مختلف التخصصات يساند على تقويم السجين ونمو وعيه وإدراكه ولا شك يعتمد نجاح السجن على عوامل عديدة منها كفاءة المسئولين والقائمين على إدارة أمور السجن .

وكذلك وجود الأخصائي الاجتماعي والنفسي اللذان يتواصلان مع عائلة السجين ومع المسئولين عن أحوال السجن ، هذا التكافؤ الاجتماعي يساعد السجين على استرداد الثقة والاستقرار النفسي وتقوية إرادته وثقته بالآخر وبالتالي تقبل نظرة الآخرين له في المجتمع . نشكر إدارة سجن الأحداث والنساء في دهوك بمديرها الأستاذ زكي صالح موسى والأستاذ مهدي كلى وكل الضباط والإداريين على حسن الإدارة والاستقبال وتبقى كلمة الفصل في قول الحقيقة الإنسانية من خلال حضور العلماء والأدباء والمختصين كوجود الأديب بدل رفو الذي قدم ما لديه من توجيه وفكر واعي سهل وممتع ليصل إلى عقول الأحداث ليقوم المسار في خدمة المجتمع عامة.

بقلم الكاتب

عصمت شاهين دوسكي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com