مقالات

كلام آخر .. سومريون .

بيدر ميديا .

كلام آخر
سومريون
بقلم: أسامة مهران
عندما طلبت مني المخرجة السينمائية العراقية والعالمية الكبيرة الدكتورة خيرية المنصور التواصل مع برنامج فضائي يسمى “سومريون”، كنت مع الصديقة الغالية التي ربطتني بها علاقة مهنية شديدة الرقي على موقعها النافذ “الصدى” والذي يبث من الولايات المتحدة الأمريكية محققًا نجاحًا باهرًا على مختلف الأصعدة العربية والدولية، عندما طلبت مني المبدعة خيرية المنصور أن يكون التواصل مع “سومريون” محققًا لهدف أسمى مع البرنامج، وهو تثبيت المطلوب إثباته، وتوثيق المعلوم في فحواه ورغباته، لم أتردد حيث أن المطلوب إثباته في مكاننا هذا، وفي أيامنا هذه، أن يكون العالم متأكدًا بحق أننا أمة عربية واحدة، وأن ما يتجلى في العراق شرقًا لابد له وأن يضيئ في غربه البعيد على حدود الأطلسي، وفي جنوبه الغامض امتدادًا إلى نهر نيل يعاني الأمرين من الاحتكاكات غير العربية، والملاسنات قليلة الحيلة، والمشاحنات التي قد تفضي إلى حروب والله وحده المستعان.
عندما كان الطلب غاليًا والتواصل مع السيدة الراقية حتميًا فتحت هاتفي للتحدث مع مسئولة “سومريون” وهي تعانق جليد الشمال السويدي من مدينة الرؤى الرمادية ستوكهولم، بالتحديد مع الإعلامية القديرة “هبة نبيل”، كانت طبيعة البرنامج المطلوب استضافتي فيه يحمل طابعًا عراقيًا محضًا، مبدعون من كل فج فراتي عميق، شعراء وأدباء ومفكرون وسياسيون واقتصاديون ومشاهير من كل حدب وكل صوب.
وكانت مهمتي ثقيلة، والقبول بي على منصة هواها عراقي، ومياهها “دجلاوية”، وأرضها من عصر “آشور” و “سومر” أكثر مشقة على “نيلي” مثلي، بحريني بالتربية، ومشوار الحياة وشروط الملامسة الحميمية مع أرض الخلود.
من دون تردد باغت السيدة هبة نبيل بالاتصال وقدمت لها أوراق اعتمادي كضيف، ومستنداتي الثبوتية كشاعر في مهب رياح التفعيلة، وكصحفي في صميم مهنة الأرقام والمخاطر، وبالفعل لم أجد إلا الترحيب بي، القبول بشغف، بالكرم الحاتمي الذي تعودناه من أهلنا بالعراق.
و .. بعد تحضيرات وبروتوكولات، خرجت على “سومريون” بشخصيتي الحقيقية، صحفي عربي وشاعر مازال يجرب ويجرب، ولكن المفاجأة هي من سيدة السومريون الأولى هبة وهي تقدمني على السبعة أعمدة ذاتها التي تقدم بها أشقائنا ومبدعينا في العراق، لا تفرقة بين هذا وذاك، ولا هيهات تفصل بين الأخ وأخيه، وبين الأب وبنيه، بين الأصل والفروع، أو بين الفروع والجذور، جميعها عند الإعلامية الكبيرة هبة نبيل سواسية في حق الانتماء، في بيداء اللحظة وعميق الانتساب، ثم في تشققات الزمن وما فعله بنا عند الذهاب وبعد المآب.
“سومريون” برنامج يرسخ عبر الأثير لوحة من لوحات أدب السير الذاتية المفعم بالتجرد والتشبث بحالة حصار قوامها ساعة وربما يزيد، وعلى الرتبة نفسها من عبقرية المواجهة تبدأ الإعلامية هبة أعمدتها السبعة وكأنها تكتب في صحيفة، أو تنشر على بردية، أو تتحدث لأمم شتى، فالشعر مطلع أو مخرج من قصيدة لشاعر، والمقدمة هي أبيات مقتطعة من هذا الشاعر أو ذاك، جميعها تقدم الضيف على أنه مبدع بالسليقة، وأنه مضاف ومضاف إليه عندما تبدأ عقارب الساعة في التحرك بمؤشر لا يخطئ جادة الزمان والمكان، فيبدأ البرنامج وكأننا في حضرة هارون الرشيد، يتحدث أبو نواس أو عبدالرزاق عبدالواحد، أو بلند الحيدري أو سعدي يوسف من شفتي الإعلامية المبدعة هبة، يعود كل منهم من جديد على ضفة “سومريون” ليعانق الضيف بكل حميمية الشعر الذي كتبوه، والحفاوة التي تعلموها، وحضارة الأيام التي باغتتهم قبل أن يفارقوها ويفارقونا.
أعمدة سبعة في مطلع كل عمود حكاية، وفي مدخل كل حكاية حد أدني وحد أقصى، أحدهما يبدأ من حيث انتهى الآخرون، والآخر ينتهي من حيث انتشر رذاذ الذكريات في كل مكان.
هبة نبيل وبرنامجها سومريون حالة حصار خاصة، ليست كتلك التي فرضها “أدونيس” في ديوانه “شبه الغامض” إلا قليلًا، وليست كذلك الغموض الذي ينتابنا عندما تهب علينا عاصفة غير مضمونة عواقبها ومصير قاطنيها، إنما ككل لا يختلف عن بعضه البعض، وكجزء لا يتجزأ من مجموع لا يقبل الحذف أو الإضافة إلا في حدود قانون المهنة، واعتبارات الأخلاق الإنسانية الحميدة.
و .. خرجت من  “سومريون” مرتديًا عباءة ثقيلة من الأسئلة، ومحملًا بعباءة أثقل من الإجابات الرحيمة، لكن كرسي الاعتراف وجهاز كشف الحقائق عند هبة نبيل لم يكن كبقية الكراسي المكهربة أو الأجهزة المدججة بالمعلومات والتوقعات، ثم الشحن عن طريق “خذ وهات”، إنما لأن الفيضان والتدفق لا يفهمان في لغة التحرش بالحضور عندما نتحرك على ضفة نهر، ولا يتقنان غير الوعي الملبد بالمعارف والفنون، حين يصبح اللامعقول معقولًا، واللامجهول مجهولًا، وشكرًا لك سيدتي.

Skickat från min Huawei-telefon

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com