مقالات

‬عاماً‮ ‬على الحرب العراقية‮ – ‬الإيرانية . الحلقة الثانية والاخيرة .

بيدر ميديا .

40‮ ‬عاماً‮ ‬على الحرب العراقية‮ – ‬الإيرانية   2-2

مشهد شخصي‮ ‬وسط نيران الوضع العام

عبد الحسين شعبان

وأكد الباحث في‮ ‬المرتكز الخامس على وقف القتال فوراً‮ ‬وسحب القوات العراقية من الأراضي‮ ‬التي‮ ‬احتلتها ووضع حدّ‮ ‬للكارثة بالجلوس إلى‮  ‬طاولة مفاوضات لإيجاد حل للمشاكل القائمة،‮ ‬وحدّد خريطة طريق وطنية تقوم على‮:‬
إلغاء معاهدة‮ ‬6‮ ‬آذار‮ (‬مارس‮) ‬لعام‮ ‬1975‮ ‬باتفاق رضائي‮ ‬بين الطرفين‮.‬
أو تعديل بعض نصوص المعاهدة المذكورة بما‮ ‬يحقق مصالح الشعبين الجارين‮.‬
أو إيقاف العمل بالمعاهدة المذكورة واستبدالها بمعاهدة جديدة تأخذ بنظر الاعتبار مبادئ القانون الدولي،‮ ‬بحيث لا تؤدي‮ ‬إلى‮  ‬أي‮ ‬إجحاف،‮ ‬وذلك باتباع الطريق الدبلوماسي‮ ‬على أساس اتفاقية فيينا حول قانون المعاهدات‮.‬
‮ ‬وإذا لم تتم الاستجابة إلى‮  ‬تلك الخيارات،‮ ‬فيمكن اللجوء إلى‮  ‬المساعي‮ ‬الحميدة لطرف ثالث،‮ ‬سواءً‮ ‬كان ذلك دولة أم منظمة دولية،‮ ‬لخدمة الغرض الأول،‮ ‬واقترح الباحث دوراً‮ ‬للأمم المتحدة ودول عدم الانحياز للقيام بهذه المهمة،‮ ‬لا سيّما بعد أن تنسحب القوات العراقية من الأراضي‮ ‬الإيرانية،‮ ‬أما الطريق الثالث فقد اقترح الباحث اللجوء إلى‮  ‬التحكيم والقضاء الدولي‮ ‬وهو ما نصّت عليه اتفاقية‮ ‬6‮ ‬آذار‮ (‬مارس‮) ‬ذاتها،‮ ‬كما نصّت على المساعي‮ ‬الحميدة‮.‬
وكان‮ ‬يمكن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية للحصول على رأي‮ ‬استشاري‮ ‬بهذا الخصوص،‮ ‬بما‮ ‬يدّعم وجهات النظر المتعارضة أو‮ ‬يفسّر بنود اتفاقية‮ ‬6‮ ‬آذار‮ (‬مارس‮) ‬لعام‮ ‬1975‮ ‬وبكل الأحوال استبعاد خيار الحرب والحل العسكري،‮ ‬مؤكداً‮ ‬أن‮  ‬المساعي‮ ‬ينبغي‮ ‬أن تنصب الآن وبعد اندلاع الحرب واستمرارها إلى‮  ‬وقف القتال فوراً‮ ‬والبحث عن حلول سلمية تفاوضية وقانونية في‮ ‬الآن ذاته‮.‬
أما المرتكز السادس‮- ‬فهو استحقاق وطني‮ ‬عراقي‮ ‬يتعلق بحق تقرير المصير ورفض الدعاوى التي‮ ‬تريد تغيير النظام لمصلحتها واعتبار تلك المهمة خاصة بالحركة الوطنية وقواها،‮ ‬وهي‮ ‬مهمة حصرية بها وهو ما‮ ‬يمكن أن‮ ‬يؤدي‮ ‬إلى إنهاء الحرب‮. ‬ويمكن مراجعة نصوص الكتاب،‮ ‬لاسيّما الاستنتاجات الأساسية التي‮ ‬وردت في‮ ‬فقرة تجريم المعتدي‮ ‬في‮ ‬ضوء القانون الدولي‮ ‬وما بعدها،‮ ‬بما فيها الخاتمة‮ (‬النزاع العراقي‮- ‬الإيراني،‮ ‬منشورات الطريق الجديد،‮  ‬بيروت،‮ ‬1981‮ ‬ص‮ ‬66‮ ‬وما بعدها،‮ ‬كذلك ص‮ ‬72‮ ‬وما بعدها‮).‬
وحين تغيّرت مواقع القوات المتحاربة بالطبع فإن مواقف الباحث هي‮ ‬الأخرى تغيّرت،‮ ‬ولاسيّما بتغيّر طبيعة الحرب،‮ ‬وخصوصاً‮ ‬عندما انسحبت القوات العراقية من الأراضي‮ ‬الإيرانية بعد هزيمة المحمّرة‮ (‬خرمشهر‮) ‬1982‮ ‬لكن الحرب استمرّت،‮ ‬بل وانتقلت إلى‮  ‬الأراضي‮ ‬العراقية،‮ ‬وخصوصاً‮ ‬في‮ ‬العام‮ ‬1983‮ ‬من خلال موجات بشرية للاجتياح وقضم للأراضي‮ ‬واحتلال مواقع ستراتيجية عراقية،‮ ‬حيث انتقل المشروع الحربي‮ ‬والسياسي‮ ‬الإيراني‮ ‬من مرحلة التلويح ليدخل مرحلة التطبيق‮.‬
فبعد أن كانت الحرب عدوانية من جانب النظام العراقي،‮ ‬تغيّرت إلى‮  ‬عدوانية من جانب إيران،‮ ‬التي‮ ‬كانت ترفض وقفها بعد أن بدأها النظام العراقي‮ ‬بحسابات‮  ‬خاطئة،‮ ‬ولعدم إدراكه أن إيران خرجت لتوّها من ثورة وهي‮ ‬تعيش حالة ثورية حيوية،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬دفعها للوحدة الوطنية بوجه خطر خارجي،‮ ‬في‮ ‬حين أن نظام بغداد دخل الحرب معزولاً‮ ‬وبلا حلفاء داخليين،‮ ‬وعلى نفس القدر تطلّب الاستمرار في‮ ‬إدانة الحرب باعتبارها لا تخدم سوى الامبريالية والصهيونية‮ ‬،‮ ‬والدعوة إلى‮  ‬وقفها فوراً‮ ‬والجلوس إلى‮  ‬طاولة مفاوضات لإيجاد حل سلمي‮ ‬ينسجم مع مصالح الشعبين الجارين‮.‬
بعد صدور الكتاب في‮ ‬بيروت تم توزيعه على المكتبات،‮ ‬وأرسل عدداً‮ ‬من النسخ إلى‮  ‬اليمن‮ (‬منظمة الحزب الشيوعي‮) ‬وعدداً‮ ‬آخر إلى‮  ‬سوريا‮ (‬منظمة الحزب أيضاً‮) ‬وبعد نحو شهر احتاج الباحث إلى‮  ‬نسخ أخرى،‮ ‬فذهب إلى‮  ‬بيروت وطلبها من جهة النشر التي‮ ‬كان‮ ‬يمثّلها فخري‮ ‬كريم،‮ ‬فأخبره أنه لم‮ ‬يتبقَّ‮ ‬منها سوى بضعة كتب،‮ ‬ولكنها موجودة في‮ ‬المكتبات،‮ ‬وحاول الحصول على نسخ من عدد من المكتبات التي‮ ‬تم التوزيع عليها،‮ ‬وإذا به‮ ‬يتفاجأ بأن الكتاب أصبح نافذاً‮. ‬
في‮ ‬البداية اعتقدتُ‮ ‬أن هذا الموضوع الحسّاس قد تم تناوله لأول مرّة من جهة مثقف وأكاديمي‮ ‬يساري‮ ‬ولذلك كان الطلب عليه كبيراً،‮ ‬ولكنني‮ ‬اكتشفت أن ذلك اعتقاداً‮ ‬خاطئاً‮ ‬،‮ ‬خصوصاً‮ ‬حين عرفت أن الأجهزة العراقية وبواسطة السفارة العراقية في‮ ‬بيروت قامت بشراء جميع النسخ،‮ ‬وما بقي‮ ‬لديّ‮ ‬من نسخ إنما جمعت بعضها من أصدقاء كنتُ‮ ‬قد أهديتها لهم في‮ ‬وقت سابق،‮ ‬وخطر ببالي‮ ‬عنوان صحفي‮ ‬جميل‮: ‬المخابرات العراقية تشتري‮ ‬كتاب عبد الحسين شعبان‮.‬
‮ ‬III
مشهد شخصي‮ ‬في‮ ‬خضم المشهد العام‮: ‬الوالدة‮ ” ‬نجاة حمود شعبان‮”‬
لكي‮ ‬استكمل حكاية كتابي‮ ” ‬النزاع العراقي‮ – ‬الإيراني‮” ‬الذي‮ ‬جلب أذى كبيراً‮ ‬لعائلتي‮ ‬،‮ ‬ولا أرغب هنا في‮ ‬الحديث عن تفاصيل تتعلق بالدور الذي‮ ‬قمت به،‮ ‬لكي‮ ‬لا تفسر وكأنها ادعاءات،‮ ‬إذْ‮ ‬كثيراً‮ ‬ما نقرأ عن بطولات وتحدّيات كبرى،‮ ‬لا‮ ‬يدّعيها الباحث،‮ ‬ولا‮ ‬يريد بأي‮ ‬شكل من الأشكال تناولها،‮ ‬خصوصاً‮ ‬وأن بعضهم،‮ ‬ولا سيّما بعد الاحتلال العام‮ ‬2003‮ ‬ سطّر ملاحم لا حدود لها،‮ ‬وإذا كان ثمة ما‮ ‬يُذكر فرصيده لا‮ ‬يعود لي‮ ‬شخصياً،‮ ‬بل للعائلة،‮ ‬وخصوصاً‮ ‬لوالدتي‮ ‬نجاة شعبان ووالدي‮ ‬عزيز شعبان،‮ ‬وأعتزّ‮ ‬بأنني‮ ‬ابناً‮ ‬لهذه العائلة المتحابّة،‮ ‬المتسامحة،‮ ‬الصبورة،‮ ‬المعطاءة‮ ‬،‮ ‬المضحيّة‮.‬
وجزء من هذا الحديث هو وفاء لرحيل والدتي‮ ‬ولروحها الطاهرة وعذاباتها التي‮ ‬لا حدود لها طيلة أكثر من‮ ‬20 عاماً‮ ‬مثل الكثير من الأمّهات العراقيات المنكوبات،‮ ‬وهو وفاء لروح والدي‮ ‬الراحل وعينه على باب الدار وأذنه على الإذاعة ووجهه إلى‮  ‬التلفزيون على أن‮ ‬يسمع خبراً‮ ‬عن‮ ” ‬الغائب‮” ‬غير‮ ” ‬المرخّص‮” ‬بذكر اسمه إلاّ‮ ‬إيماءً،‮  ‬جئت على ذكر ذلك في‮ ‬حواراتي‮ ‬مع التميمي‮ ‬المنشورة في‮ ‬كتاب‮ ” ‬المثقف في‮ ‬وعيه الشقي‮- ‬حوارات في‮ ‬ذاكرة عبد الحسين شعبان‮ ” ‬إعداد توفيق التميمي،‮ ‬دار بيسان،‮ ‬بيروت،‮ ‬2014‮.‬
لقد صدر الكتاب في‮ ‬العام‮ ‬1981 وباسمي‮ ‬الصريح،‮ ‬ولو راجعت الأسماء التي‮ ‬كانت تكتب في‮ ‬تلك الفترة ستجد أنها قليلة،‮ ‬بل وقليلة جداً،‮ ‬خصوصاً‮ ‬وأن الأسماء المستعارة مثل أبو فلان وأبو فلتان كانت ظاهرة شائعة وقد تكون لها مبرراتها،‮ ‬لا سيّما ما تثيره من احتمالات ملاحقات حكومية‮. ‬وقد سبق نشري‮ ‬للكتاب أن كتبت مقالتين عن الحرب العراقية‮- ‬الإيرانية في‮ ‬صحيفة تشرين السورية‮ (‬شهر تشرين الثاني‮/‬نوفمبر‮/‬1980‮)‬ أي‮ ‬بعد شهرين من وقوع الحرب،‮ ‬بالتوجّه ذاته،‮ ‬وأثارت حينها ردود فعل‮  ‬متنوّعة،‮ ‬لاسيّما معالجتها المسألة من زاوية وطنية وحقوقية‮. ‬
بعد بضعة أسابيع‮  ‬وربما أشهر وكنت قد عدت من بيروت إلى‮  ‬الشام التي‮ ‬كانت مسؤوليتي‮ ‬فيها،‮ ‬وإذا بي‮ ‬أجد ورقة تحت الباب تقول إن الرفاق في‮ ‬بيروت اتصلوا وطلبوا عودتك إلى‮  ‬بيروت فوراً،‮ ‬لأن والدتك وصلت إلى‮  ‬هناك،‮ ‬وقد توجست خيفة،‮ ‬وشعرتُ‮ ‬أن أمراً‮ ‬جللاً‮ ‬قد حدث وكنت أعرف مثل هذه الأساليب التي‮ ‬اتبعت مع بعض المعارضين على نحو محدود‮. ‬وذهبت إلى‮  ‬مقر اللجنة المركزية‮ (‬قرب السفارة السوفيتيية‮) ‬وهو البيت الذي‮ ‬استأجرته باسمي‮ ‬للحزب،‮ ‬وأبلغت الرفاق في‮ ‬المكتب بالأمر،‮ ‬خصوصاً‮ ‬وأن الوقت أصبح متأخراً‮ ‬نسبياً‮. ‬وفي‮ ‬اليوم الثاني‮ ‬تحرّكت بوقت مبكّر بسيارة من الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين إلى‮  ‬بيروت،‮ ‬ووصلتها قبل الظهر،‮ ‬وبعد أن توجهت إلى‮  ‬مكتب‮  ‬الحزب في‮ ‬بيروت علمت أن الوالدة في‮ ‬مكان قريب من‮ “‬جمهورية الفاكهاني‮” ‬التي‮ ‬كانت ملاذنا،‮ ‬وذهب معي‮ ‬للقاء الرفيقين فخري‮ ‬كريم وعبد الرزاق الصافي،‮ ‬وعندما قابلتها بكت بكاءً‮ ‬مرًّا وقد تحفّظت عن الكلام وعندما تحدثت كانت متردّدة،‮ ‬إلى‮  ‬أن طلبت منها ذلك،‮ ‬وقد قدمت روايتها التي‮ ‬عدت ودونتها ودققت بعضها بعد‮ ‬20‮ ‬عاماً‮.‬
قالت بالنص‮: ‬لقد اعتقلونا جميعاً‮ ‬بعد أن سكنوا في‮ ‬البيت معنا لمدة خمسة أيام،‮ ‬وكانوا‮ ‬يأكلون ويشربون معنا وبجيوبهم مفاتيح الغرف،‮ ‬لاسيّما‮ ‬غرفتك في‮ ‬الطابق العلوي،‮ ‬وصادروا جميع حاجياتك الشخصية،‮ ‬ولاسيّما المكتبة والشهادات والرسائل والأوراق وكل ما‮ ‬يعود لك بالكامل،‮ ‬وبعدها جاءت السيارات وحملتنا إلى‮  ‬المخابرات،‮ (‬لا تدري‮ ‬أين؟ ولكنها تقول إلى‮  ‬الأمن‮) ‬وكان والدك مريضاً‮ ‬ومتعباً،‮ ‬حتى أنهم حملوه مع فراشه،‮ ‬وقد استدعاني‮ ‬شخص لم أكن أعرف من هو،‮ ‬لكنهم قالوا أنه المسؤول،‮ ‬وذلك بعد مقابلات مع آخرين،‮ ‬الذين أخبروني‮ ‬أن قضيتكم‮ ‬يحلّها‮ ” ‬المدير الكبير‮”‬،‮ ‬وهناك جرى الحوار بين والدتي‮ ‬الحاجة نجاة شعبان وبين المسؤول الكبير‮. ‬
قالت لم أكن أعرف من هو إلاّ‮ ‬بعد مضي‮ ‬سنوات،‮ ‬وقد شاهدته على التلفزيون خلال محاكمته فصرخت‮: ‬إنه هذا ولم‮ ‬يكن سوى‮  ‬برزان التكريتي‮.‬
تقول الوالدة‮: ‬
قال لي‮: ‬تقبلين‮ ” ‬إبنج‮” (‬ابنك‮) ‬مع العجم‮ (‬الفرس المجوس)؟
قلت له إننا عرب أقحاح،‮ ‬وهل سمعت أن أحداً‮ ‬في‮ ‬حضرة الإمام علي‮ (‬رض‮) ‬من العجم؟ ولدينا فرامين سلطانية كُتبت منذ نحو‮ ‬500‮ ‬سنة‮” ‬ونحن‮  ‬سدنة الروضة الحيدرية‮ -“‬السرّخدمة‮”‬،‮ ‬أي‮ ‬رؤساء الخدم،‮ ‬ونحن نتشرّف بذلك‮.‬
قال‮: ‬نعم نحن نعرف أنكم عرب،‮ ‬ولو كنتم عجم لرميناكم خارج الحدود وتخلّصنا منكم،
قلت له‮: ‬لا أفهم ذلك كيف‮ ‬يكون إبني‮ ‬عجمياً‮ ‬وهو عربي‮ ‬أصيل من نسل قحطان ومن‮ “‬حِمْيَر‮” ‬ولدينا شجرة تثبت ذلك‮. ‬قال‮: ‬أتقرئين؟
قلت له‮ : ‬نعم،‮ ‬فأخرج كتاباً‮ “‬وردي‮ ‬اللون‮” ‬عليه اسمك وأطلعني‮ ‬عليه،‮ ‬قائلاً‮: ‬هذا ما كتبه ابنك وهو‮ ‬يؤيد العجم ضد بلاده‮. ‬فخفت وسكتت‮!‬
ثم واصلت حديثها معنا‮: ‬
قال لي‮: ‬أتعلمين أن هذا الكتاب موجود على طاولة السيد الرئيس منذ حوالي‮ ‬شهر؟
فسألناها ماذا قالت له؟
فقالت‮: ‬سكتُ‮ ‬ولم أنبزّ‮ ‬ببنت شفة‮.‬
قال‮: ‬عليك الذهاب إلى‮  ‬بيروت،‮ ‬نحن لا نريد شيئاً‮ ‬منه‮. ‬نحن نعطيه الأمان إذا أراد أن‮ ‬يعود إلى‮  ‬وظيفته في‮ ‬الجامعة فأهلاً‮ ‬وسهلاً،‮ ‬وإذا رغب في‮ ‬منصب سياسي‮ ‬فنحن نعده بذلك،‮ ‬وإذا لم‮ ‬يرغب في‮ ‬العودة فعليه أن‮ ‬يختار إحدى سفاراتنا لنعيّنه فيها،‮ ‬وإذا لم‮ ‬يفعل ذلك،‮ ‬ليعلم أن مصيركم جميعاً‮ ” ‬الإعدام‮”.‬
قالت‮: ‬قلت له،‮ ‬نحن لا ذنب لنا،‮ ‬إن ولدي‮ ‬كبير ولا‮ ‬يسمع إلينا أو‮ ‬يأخذ بنصائحنا،‮ ‬وأنا إمرأة كبيرة ولا أستطيع السفر والمجازفة في‮ ‬هذه الأوضاع بالذات،‮ ‬ولديّ‮ ‬أحفاد أنا مسؤولة عنهم،‮ ‬فنظر إليّ‮ ‬بشرز وقال عليك التنفيذ و”إلاّ‮” ‬وكرّرها ثلاث مرّات و”إلاّ‮”‬،‮ ‬قلت له نحن نتبرأ منه،‮ ‬وأنتم حكومة فإذا أخطأ فيمكن معاقبته‮.‬
قال‮: ‬إذا لم‮ ‬يفعل ما طلبناه منه،‮ ‬فيمكن أن‮ ‬يكتب لنا ورقة‮ ‬يقول فيها أنه‮ ‬يتعهّد بعدم النشاط والكتابة ضد الحكومة،‮ ‬و”الاّ‮ ” ‬فإن مصيركم كما قلتُ‮ ‬لكِ‮.. ‬ثم قال إن مصيركم بيده وهو من‮ ‬يستطيع إنقاذكم والحكومة رحيمة معكم‮. ‬قالت‮: ‬بكيّتُ‮ ‬وتوسّلتُ،‮ ‬وحينها انفجرتْ‮ ‬بالبكاء بصوت عالٍ،‮ ‬لكنه دعا أحد الذين دخلوا علينا،‮ ‬كما تقول‮: ‬وقال له اعمل لها جواز سفر إنْ‮ ‬لم‮ ‬يكن لديها جواز سفر،‮ ‬وأجلب صوراً‮ ‬لها،‮ ‬وسألني‮ ‬هل لديك جواز سفر؟ قلت له نعم فقال أين هو؟ قلت له في‮ ‬البيت‮.‬
أعادوني‮ ‬إلى مكاني‮ ‬حيث‮ ‬يتكدّس الأطفال وصراخهم وكذلك والدك‮ ” ‬الحاج عزيز شعبان‮” ‬وأختك سميرة وزوجها فاضل الريّس وزوجة حيدر شقيقك‮. ‬بعد ساعتين أو ثلاثة أخذوني‮ ‬إلى‮  ‬البيت وأحضرت لهم جواز سفري‮ ‬وبعد‮ ‬يومين سافرت ووصلت إلى‮  ‬بيروت‮. ‬وقد زودّوني‮ ‬بعناوين لا أعرف لمن تعود وإن قرأت الأسماء،‮ ‬وقد وصلت إلى‮  ‬بيروت وبعد توجهي‮ ‬من المطار بالتاكسي‮ ‬إلى‮  ‬العنوان أوقفنا حاجز وبعد تفتيش أوراقي‮ ‬وجواز سفري،‮ ‬قالوا لي‮ ‬تفضلي‮ ‬انزلي،‮ ‬ونزلت وأخذوني‮ ‬إلى‮  ‬مكان فيه رشاشات ومسدسات ومسلحين،‮ ‬وقد سألوني‮ ‬عدّة أسئلة من أعطاك العناوين ولمن تريدين الوصول،‮ ‬كنت خائفة هل أخبرهم أم لا؟ لا أدري‮ ‬ولكنني‮ ‬قلت لهم جئت إلى‮  ‬بيروت للعلاج وأعطوني‮ ‬هذه الأسماء في‮ ‬بغداد لمساعدتي‮ ‬للوصول إلى الطبيب‮.‬
وبعد نحو خمس ساعات جاءت سيارة وأبلغوني‮ ‬بالصعود إلى‮  ‬الأعلى حيث كنت تحت الأرض،‮ ‬وذهبت مع سائق ووصلت إلى‮  ‬مكان آخر فيه مسلحين أيضاً،‮ ‬ولكنني‮ ‬خفتُ‮ ‬أكثر وبكيت بصمت‮. ‬سألني‮ ‬الحرّاس والذين استقبلوني‮ ‬فيما بعد لمن تريدين قلت لهم الأسماء التي‮ ‬لديّ،‮ ‬واتضح أنها أسماء تيسير قبعة وبسّام أبو شريف‮ (‬من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين‮)(‬هذا ما عرفناه بعد اطلاعنا على الأوراق التي‮ ‬لديها‮).‬
وحسبما‮ ‬يبدو فقد كانت هناك أشبه بعملية تبادل مع الكتائب،‮ ‬فتم تسليم الوالدة إلى‮  ‬الجبهة الشعبية،‮ ‬ويبدو أن الجبهة الشعبية سلّمت مخطوفاً‮ ‬إلى‮  ‬الكتائب‮. ‬وكانت المخابرات العراقية بعد مصادرة حاجياتي‮ ‬الشخصية،‮ ‬بما فيها صوري،‮ ‬قد وجدوا فيها ما‮ ‬يوصلهم لي‮ ‬في‮ ‬بيروت فأعطوها عناوين قبعة وأبو شريف وآخرين لا أتذكرهم حالياً،‮ ‬وكذلك عنوان مكتب بيروت وتلفون الذي‮ ‬كان مسؤولاً‮ ‬فيه فخري‮ ‬كريم‮.‬
استمعنا إلى‮  ‬هذه القصة وكانت الوالدة تتوقف بين الحين والآخرلتقول‮” ‬إنهم‮ ‬ينوون قتلك،‮ ‬عليك عدم العودة حتى لو أعدمنا‮”. ‬اتفقنا على تنظيم موعد لزيارة طبيب لها،‮ ‬وأخذت معها بعض الأدوية ولا أتذكر إن كان الطبيب حسّان عاكف حمودي‮ ‬أو‮ ‬غيره‮ ‬،‮ (‬في‮ ‬مستشفى فلسطيني‮ ‬يعود إلى‮  ‬فتح‮) ‬وقد عملنا لها حجزاً‮ ‬وهمياً‮ ‬في‮ ‬فندق وفاتورة حساب وهمية‮ (‬مدفوعة لثلاثة أيام‮) ‬وقد مكثت معها اليومين التاليين في‮ ‬بيت خاص مع آخرين،‮ ‬ثم اصطحبها أحد الرفاق إلى‮  ‬المطار‮ (‬لا أتذكّره‮) ‬لتوديعها،‮ ‬ولم أظهر معها في‮ ‬أي‮ ‬مكان باستثناء زيارة لمكان قريب في‮ ‬العمارة ذاتها أو شقة قريبة لا أتذكّر،‮ ‬بدعوة من عصام الخفاجي‮.‬
اتفقنا معها على ما‮ ‬يلي‮: ‬أن تبلغ‮ ‬الأجهزة أنني‮ ‬غير موجود في‮ ‬بيروت،‮ ‬بل أنها سمعت أنني‮ ‬في‮ ‬إسبانيا،‮ ‬أعيش هناك،‮ ‬وأنها ظلّت خلال الأيام الثلاثة في‮ ‬الفندق،‮ ‬وأنها راجعت طبيباً‮ ‬لمساعدتها وأعطاها أدوية وضعتها في‮ ‬حقيبتها اليدوية،‮ ‬وأنها مستعدّة وكذلك الوالد إن طلبوا منه التبرؤ مني‮ ‬علناً‮ ‬في‮ ‬التلفزيون أو في‮ ‬الجريدة‮ ‬،‮ ‬وحتى لو قتلتني‮ ‬الحكومة فهي‮ ‬سوف لا تحزن عليّ‮ ‬إذا كان الأمر ضد الوطن.وتستدرك الوالدة الحاجة نجاة شعبان لاحقاً‮: ‬أن الذي‮ ‬قابلني‮ ‬بعد عودتي‮ ‬هو نفسه الذي‮ ‬التقاني‮ ‬عند سفري‮ ‬والمقصود هنا‮ ” ‬برزان التكريتي‮” ‬وعندما وصلت إلى‮  ‬الجملة الأخيرة،‮ (‬أي‮ ‬حتى لو قتلتني‮ ‬الحكومة‮ …) ‬قال‮: ‬إي‮ ‬نحن نقتل وراح تشوفين،‮ ‬ولكنه‮ ‬غيّر الكلام وقال‮: ‬هل صحيح أننا نقتل،‮ ‬فقلت له أنتم حكومة ولكم الحق في‮ ‬معاقبة المخالفين أو الناس ضد القانون،‮ ‬فضحك وقال نحن نعطيكم فرصة أخرى،‮ ‬لكنكم تذكّروا‮: ‬أنتم تحت مراقبتنا وأي‮ ‬شيء‮ ‬يصلكم من هذا‮ “‬الابن الضال‮” ‬أوصلوه لنا في‮ ‬الحال،‮ ‬وإذا أرسل أحداً‮ ‬يتصل بكم أبلغونا فوراً،‮ ‬وأعطانا أرقام تلفونات،‮ ‬وقلت له حاضرون وكل ما تريده الحكومة ننفّذه،‮ ‬وكنت أرتجف خوفاً‮.‬
كنّا قد اتفقنا معها أنها بعد وصولها بعشرة أيام ولغرض الاطمئنان أن تكتب لنا رسالة وترسلها بالبريد دون اسم المرسل وهي‮ ‬موجّهة إلى‮  “‬ياسين سعيد‮” ‬وتحت رقم صندوق بريد،‮ ‬وفيها تبلغنا أن الوالد بدأت صحته تتحسن،‮ ‬وفي‮ ‬حالة زيادة الضغط عليهم تكتب أن صحته بدأت تسوء،‮ ‬وانتظرنا عدة أسابيع ولم تصل أية رسالة،‮ ‬وعندما سألت الوالدة بعد‮ ‬20 عاماً‮ ‬عن الحادث،‮ ‬بعد مدّة الفراق الذي‮ ‬استمرّ‮ ‬بيننا،‮ ‬قالت لي‮ ” ‬ولله إنتو بطرانين‮” ‬– إنتو تدرون شكو؟ أي‮ ‬أنكم بطرانين ولا تعرفون ماذا‮ ‬يجري‮ ‬في‮ ‬العراق؟
خلال السنوات الثلاث الأولى أو بعدها تعرّضت العائلة إلى‮  ‬ضغوط كثيرة واستدعاءات عديدة،‮ ‬وكان مسؤولو المخابرات والأمن وأمن المنطقة والمنظمة الحزبية في‮ ‬زيارات متّصلة للعائلة،‮ ‬لدرجة أن صلاتها انقطعت بالعالم الخارجي‮ ‬تقريباً،‮ ‬باستثناء زيارات الدكتور ناهض شعبان للاطمئنان على أحوالها،‮ ‬وكانت حجّته معه باعتباره طبيباً،‮ ‬وكان والدي‮ ‬شبه مقعد في‮ ‬المنزل بعد أن ترك العمل وأجبر نفسه على‮ ” ‬تقاعد مبكر‮”‬،‮ ‬فباع محلّه في‮ ‬سوق التجار‮ (‬خان النبكه‮) ‬في‮ ‬بغداد وعاش على بعض أملاكه وأملاك والدتي‮ ‬وما وفّره من مدّخرات،‮ ‬وكانت زيارات الأخوال متباعدة،‮ ‬وكذلك العم الوحيد المتبقي،‮ ‬وهي‮ ‬زيارات شبه خاطفة،‮ ‬وبرضى الطرفين،‮ ‬المُستقبِلْ‮ ‬والمُستَقبَل،‮ ‬والكل كانوا في‮ ‬حالة رعب شديد،‮ ‬ويتفهّمون وضع العائلة الخاص‮.‬
عناصر مخابرات
في‮ ‬مطلع العام‮ ‬1985‮) ‬ربما في‮ ‬أواخر شباط/فبراير‮) ‬جاءت عناصر من المخابرات وطلبت من والدتي‮ ‬السفر إلى‮  ‬تركيا للاتصال بي‮ ‬من هناك ودعوتي‮ ‬لزيارتها في‮ ‬اسطنبول،‮ ‬لكن والدتي‮ ‬رفضت ولكنهم أرغموها على الرضوخ،‮ ‬فأخذوا جواز سفرها وثمن التذكرة منها،‮ ‬وجاءوا إلى‮  ‬المنزل بعد‮ ‬يومين ومعهم التذكرة وتأشيرة الدخول والجواز،‮ ‬وتذكّرت والدتي‮ ‬ما أخبرتها به في‮ ‬بيروت بأنهم ربما‮ ‬يكونون معها في‮ ‬الطائرة،‮ ‬وعليها لو حاولوا مجدداً‮ ‬عدم المجيء والتملّص من الأمر بكل الوسائل،‮ ‬وهنا تشجعت وصرخت وقامت بالخروج إلى‮  ‬الشارع،‮ ‬فأوقفها رجال المخابرات ومنعوها،‮ ‬وهي‮ ‬تصرخ بأعلى صوتها،‮ ‬واتصلوا بأحد المسؤولين من تلفون المنزل وأبلغوها بتأجيل السفر،‮ ‬وفي‮ ‬مساء اليوم التالي‮ ‬أصيب والدي‮ ‬بجلطة دماغـــية،‮ ‬لم تمهله طويلاً،‮ ‬وأظـــن أنه توفي‮ ‬في‮ ‬مطلع آذار‮ (‬مارس‮) ‬1985‮.‬باختصار هذه هي‮ ‬قصة الكتاب التي‮ ‬دفعت العائلة بسببه ثمناً‮ ‬باهظاً‮ ‬،‮ ‬وانتهز هذه الفرصة للقول أنني‮ ‬فخور بهذه العائلة‮: ‬الوالد والوالدة اللذان تحمّلا بسببي‮ ‬آلاماً‮ ‬لا حدود لها،‮ ‬وأجدها مناسبة للاعتذار لهما،‮ ‬لأمر لم‮ ‬يكن لي‮ ‬يدُ‮ ‬فيه،‮ ‬كما لم‮ ‬يكن لي‮ ‬حيلة به،‮ ‬وهكذا هي‮ ‬السياسة في‮ ‬بلداننا وفي‮ ‬مجتمعاتنا العربية،‮ ‬وبالأخص في‮ ‬العراق الذي‮ ‬وصلت فيه العقوبة إلى‮  ‬الدرجة الرابعة،‮ ‬ناهيكم عن القتل على الهوّية،‮ ‬واستبدّ‮ ‬به العنف والإرهاب إلى‮  ‬درجة مروّعة‮.‬
كنّا نحلم بأن نستطيع أن نسير بأوطاننا باتجاه الحداثة والعمران والجمال والخير والعدالة والسلام،‮ ‬لكن بعض أحلامنا تحوّلت إلى‮  ‬كوابيس لعوائلنا التي‮ ‬لا ذنب لها،‮ ‬ربما سوى لأنها عوائلنا‮.‬
انتهى

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com