مقالات

40عاماً‮ ‬على الحرب العراقية‮ – ‬الإيرانية / الحلقة 1.

بيدر ميديا .

عاماً‮ ‬على الحرب العراقية‮ – ‬الإيرانية    1

مصارعة على الطريقة الرومانية‮ ‬

عبد الحسين شعبان

I
مشهد وقائعي‮: ‬في‮ ‬الحيثيات‮ ‬
في‮ ‬22‮ ‬أيلول‮ (‬سبتمبر‮) ‬1980‮ ‬أعلن العراق رسمياً‮ ‬الحرب على إيران بعد مناوشات حدودية وتحرّشات واستفزازات وإعلانات عن تصدير الثورة الإيرانية التي‮ ‬انتصرت في‮ ‬11‮ ‬شباط‮ (‬فبراير‮) ‬1979‮.‬
وجاء ذلك الإعلان بعد تمزيق الرئيس العراقي‮ ‬صدام حسين اتفاقية‮ ‬6‮ ‬آذار‮ (‬مارس‮) ‬1975‮ ‬من على شاشة التلفزيون،‮ ‬وذلك‮ ‬يوم‮ ‬17‮ ‬أيلول‮ (‬سبتمبر‮)‬،‮ ‬أي‮ ‬قبل خمسة أيام من إعلان حالة الحرب‮. ‬والمقصود باتفاقية‮ ‬6‮ ‬آذار‮ (‬مارس‮) ‬هي‮ ‬اتفاقية الجزائر التي‮ ‬وقعها صدام حسين نفسه بصفته نائباً‮ ‬للرئيس أحمد حسن البكر مع شاه إيران محمد رضا بهلوي‮ ‬بوساطة جزائرية‮.‬
ولقيت الاتفاقية المذكورة نقداً‮ ‬شديداً‮ ‬باعتبارها اتفاقية‮ ‬غير متكافئة ومجحفة وألحقت ضرراً‮ ‬بالمصالح العراقية في‮ ‬الماء واليابسة،‮ ‬وخصوصاً‮ ‬الاعتراف بخط الثالويك في‮ ‬شط العرب الذي‮ ‬هو نهر وطني‮ ‬عراقي،‮ ‬لكن المطالبة باستعادة الحقوق العراقية شيء وشن الحرب شيء آخر‮.‬
وكانت الحرب التي‮ ‬استمرت‮ ‬2906  يوماً‮ (‬ألفان وتسعمائة وستة أيام‮) ‬حدثاً‮ ‬من أخطر الأحداث والمنعطفات المأسوية الخطيرة التي‮ ‬مرّت بالمنطقة في‮ ‬تاريخها المعاصر،‮ ‬خصوصاً‮ ‬في‮ ‬حياة الشعبين العراقي‮ ‬والإيراني؛ وهي‮ ‬كارثة شاملة من نمط الكوارث التي‮ ‬سيخصص لها التاريخ على مدى قرون مكاناً‮ ‬مهماً‮ ‬وحيّزاً‮ ‬كبيراً،‮ ‬لاسيّما ما أعقبها من سلسلة كوارث بدءًا بمغامرة‮ ‬غزو الكويت ومروراً‮ ‬بالحصار الدولي‮ ‬وانتهاءً‮ ‬بوقوع العراق تحت الاحتلال العام‮ ‬2003‮.‬
لقد بلغت الحرب العراقية‮ ‬– الإيرانية حدًّا من الشراسة والعنف قلّ‮ ‬نظيره وزادت مدّتها على الحرب العالمية الثانية‮. ‬وشهدت تصعيداً‮ ‬خطيراً‮ ‬شمل المدنيين،‮ ‬سواءً‮ ‬بحرب الناقلات أم حرب المدن أم استخدام السلاح المحرّم دولياً،‮ ‬سواءً‮ ‬عندما ابتدأها النظام العراقي‮ ‬أو عندما واصلتها إيران‮.‬
ووسعت إيران من عملياته الحربية داخل الأراضي‮ ‬العراقية،‮ ‬بعد تحرير العراق لمدينة الفاو،‮ ‬وصعّدت من لغة التهديد الحربي‮ ‬ولوّحت بإغلاق مضيق هرمز،‮ ‬وكان‮  ‬هاشمي‮ ‬رفسنجاني‮ ‬رئيس البرلمان الإيراني‮ ‬حينها قد قال‮: ‬أن المعركة الحاسمة ستتم خلال ثلاثة أشهر،‮ ‬بعد أن انتهى عام الحسم الإيراني،‮ ‬فقامت طهران بتصعيد قصفها للمناطق الحدودية وقصف بغداد بصواريخ أرض‮ ‬– أرض؛ وباحتلال المزيد من الأراضي‮ ‬العراقية في‮ ‬هجوم كربلاء‮ (‬أواخر العام‮ ‬1986‮) ‬والتوجه لاحتلال جزيرة أم الرصاص في‮ ‬شط العرب باستهداف البصرة،‮ ‬وكذلك لاحتلال جزيرة الأسماك في‮ ‬هجوم نصر‮ ‬4‮ (‬26 ‮ ‬حزيران‮ /‬يونيو‮/‬1987‮) ‬كما احتلّت نحو‮ ‬20 ‮ ‬كيلومتراً‮ ‬من كردستان‮.‬
وبالمقابل فإن العراق بعد‮ ” ‬تحرير الفاو‮” ‬واستعادتها من الإيرانيين وسّع هو الآخر من قصف المناطق الكردية التي‮ ‬حاولت القوات الإيرانية التسلّل منها،‮ ‬ولاسيّما قصف حلبجة بالسلاح الكيمياوي‮ ‬ليلة‮ ‬16-17‮ ‬آذار‮ (‬مارس‮) ‬1988‮ ‬واستمرّ‮ ‬بحرب الناقلات وهدّد بمواصلتها ما لم تستجب إيران لنداءات السلام،‮ ‬وأقدم على ضرب الفرقاطة الأمريكية ستارك وسفينة تركية‮.‬
ورفضت إيران جميع المناشدات لقبول وقف إطلاق النار والموافقة على قرار مجلس الأمن‮ ‬598‮ ‬الصادر في‮ ‬تموز‮ (‬يوليو‮) ‬1987‮ ‬ولكنها اضطرّت إلى‮  ‬الرضوخ بعد عام واحد،‮ ‬إلى‮  ‬أن أعلن الإمام الخميني‮ ‬موافقة إيران على قرار مجلس الأمن‮ ‬598‮ ‬وتجرّع كأس السمّ‮ ‬على حد تعبيره،‮ ‬وهكذا توقفت الحرب في‮ ‬8/8/1988‮.‬
وإذا كانت الحرب هي‮ ‬امتداد للسياسة ولكن بوسائل عنفية على حدّ‮ ‬تعبير العالم الاستراتيجي‮  ‬النمساوي‮ ‬كلاوزفيتز،‮ ‬فإن الحرب العراقية‮- ‬الإيرانية هي‮ ‬تطبيق عملي‮ ‬لهذا القول النظري‮ ‬المأثور،‮ ‬لاسيّما ما عكسته سياسة البلدين،‮ ‬ولهذا صحّ‮ ‬عليهما أيضاً‮ ‬ما قاله السياسي‮ ‬البريطاني‮ ‬المعروف‮ ‬غلادستون من أن الحكومة قادرة على المبادرة في‮ ‬الحرب،‮ ‬لأنها خلال الأزمات الوطنية تتمتّع بتأييد الشعب لمدة ثمانية عشر شهراً‮ ‬على الأقل،‮ ‬فإن هذا الأمر تم تجاوزه من الطرفين،‮ ‬وفقد شرعيته،‮ ‬خصوصاً‮ ‬في‮ ‬محاولة التوغل في‮ ‬أراضي‮ ‬الغير،‮ ‬في‮ ‬حين كان الحسم العسكري‮ ‬غير ممكن‮.‬
فالقوات العراقية التي‮ ‬احتلّت أراضي‮ ‬إيرانية اضطرّت إلى‮  ‬التقهقر والتراجع،‮ ‬لأن إيران كانت تدافع عن أراضيها في‮ ‬حين أن القوات العراقية تحارب فوق أراضي‮ ‬أجنبية وبدوافع ملتبسة وغير قانونية،‮ ‬وهو المصير ذاته الذي‮ ‬تعرّضت له القوات الإيرانية الغازية،‮ ‬التي‮ ‬لم تتمكّن من تنفيذ مشروعها الحربي‮ ‬والسياسي‮. ‬
ولعلّها أدركت ذلك منذ معارك شرقي‮ ‬البصرة في‮ ‬تموز‮ (‬يوليو‮) ‬1982‮ ‬التي‮ ‬راح ضحيتها‮ ‬30‮ ‬ألف جندي‮ ‬إيراني،‮ ‬لهذا‮ ‬غيّرت إيران تكتيكاتها،‮ ‬فبدلاً‮ ‬من الموجات البشرية وقذف الألوف في‮ ‬أتون الحرب،‮ ‬أخذت تفكّر بسياسة القضم التدريجي‮.‬
إذا اعتبرنا قيام الدولة الصهيونية العام‮ ‬1948‮ ‬والكارثة التي‮ ‬حلّت بالشعب العربي‮ ‬الفلسطيني،‮ ‬حدث من أخطر الأحداث التي‮ ‬مرّت بالمنطقة،‮ ‬فإن اندلاع واستمرار الحرب العراقية‮- ‬الإيرانية لنحو‮ ‬8 سنوات،هي‮ ‬الفصل الأكثر عنفاً‮ ‬وقسوة من الفصول المأسوية التي‮ ‬عرفها تاريخ المنطقة‮. ‬لا‮ ‬يستطيع أحد أن‮ ‬يجادل اليوم أن شن الحرب كان صحيحاً‮ ‬أو خدم شعوب المنطقة،‮ ‬كما أن استمرارها هو الآخر لم‮ ‬يكن صحيحاً‮ ‬بغض النظر عن المبررات والدعاوى للفريقين،‮ ‬فقد‮  ‬حلّت كارثة حقيقية بالشعبين وأزهقت الحرب مئات الآلاف من القتلى والجرحى وعشرات الآلاف من الأسرى،‮ ‬ولكن البعض قد‮ ‬يبرر اليوم تلك المواقف بالقول أنه لم‮ ‬يكن العنصر الحاسم في‮ ‬استمرار أو وقف الحرب أو في‮ ‬فرض الحصار واستمراره من إلغائه،‮ ‬لأن الأمر كان بيد القوى الدولية المتنفّذة،‮ ‬التي‮ ‬لم ترغب بوقف الحرب،‮ ‬بل أرادت استنزاف طاقات البلدين وإنهاكهما لكي‮ ‬يتم إشغالهما عن مشكلات التنمية الإنسانية المستدامة بكل حقولها،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن إبعادهما عن دائرة الصراع العربي‮- ‬الإسرائيلي‮ ‬جوهر مشكلة الشرق الأوسط‮.‬
كما أن سياسة فرض الحصار والعقوبات على العراق كانت تستهدف الاحتواء فالإطاحة،‮ ‬وتلك القناعة كانت سائدة في‮ ‬عهد الرئيس كلينتون وأصبحت تدريجياً‮ ‬تعني‮ ‬الاحتواء المزدوج‮ (‬العراق‮- ‬إيران‮)‬،‮ ‬لكن صدور قانون تحرير العراق من الكونغرس الأمريكي‮ ‬1998‮ ‬وصعود مجموعة الصقور،‮ ‬لاسيّما في‮ ‬عهد الرئيس بوش الإبن،‮ ‬بما فيهم بول ووليفتر وديك تشيني‮ ‬وكونداليزا رايس ودونالد رامسفيلد وآخرين،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن أحداث‮ ‬11‮ ‬أيلول‮ (‬سبتمبر‮) ‬الإرهابية الإجرامية في‮ ‬العام‮ ‬2001‮ ‬ كانت وراء الإسراع بعملية‮ ‬غزو العراق واحتلاله‮. ‬
ولكن القوى الدولية كانت تحتاج إلى‮  ‬أصوات عراقية مؤيدة لخططها وهو ما حصل من جانب بعض القوى المعارضة‮ “‬الرسمية‮”. ‬وإذا كان صحيحاً‮ ‬أنها لم تكن القوى الحاسمة أو المقررة أو المؤثرة‮  ‬في‮ ‬القرار الدولي،‮ ‬لكن الواجب الأخلاقي‮ ‬والإنساني‮ ‬والوطني‮ ‬كان‮ ‬يقتضي‮ ‬عدم تأييد استمرار الحرب أو تأييد فرض الحصار أو تأييد احتلال العراق،‮ ‬وحتى لو استفادت موضوعياً‮ ‬من البيئة المعادية لنظام الحكم في‮ ‬العراق،‮ ‬لكن ذلك شيء مختلف عن الإنخراط في‮ ‬المشروع الخارجي،‮ ‬الذي‮ ‬أوقع العراق في‮ ‬ورطة حقيقية ما‮ ‬يزال‮ ‬يدفع ثمنها باهظاً‮ ‬منذ أكثر من‮ ‬17‮ ‬عاماً‮.‬
وقد اختفت الكثير من الأصوات التي‮ ‬كانت تنادي‮ ‬باستمرار الحرب العراقية‮ – ‬الإيرانية بعد وقفها،‮ ‬لكن البعض نقل رحيله من القوى الإقليمية بما فيها إيران إلى‮  ‬القوى الدولية،‮ ‬لاسيّما بعد مغامرة الحكم في‮ ‬العراق لغزو الكويت في‮ ‬العام‮ ‬1990‮ ‬وخصوصاً‮ ‬بدعوته لتشديد الحصار الدولي‮ ‬على العراق وإحاطة نظامه،‮ ‬وقد تغيّرت بعض المعادلات السياسية،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬دفع بعض القوى الدينية التي‮ ‬كانت ترفض التعاون مع القوى الأخرى،‮ ‬لاسيّما قوى اليسار،‮ ‬إلى‮  ‬القبول بها والجلوس معاً‮ ‬في‮ “‬لجنة العمل المشترك‮” ‬1990‮ ‬ومن ثم في‮ “‬مؤتمر بيروت‮” ‬في‮ ‬العام‮ ‬1991‮ ‬والمؤتمر الوطني‮ ‬العراقي‮ ‬في‮ ‬العام‮ ‬1992‮.‬
وأستعيد هنا حواراً‮ ‬مع الصحافي‮ ‬توفيق التميمي‮ ‬المختفي‮ ‬قسرياً‮  ‬بعيد انطلاقة حركة الاحتجاج التشرينية العام‮ ‬2019‮ ‬وكان قد سألني‮ : ‬كتبت كثيراً‮ ‬من الكتب والدراسات والأبحاث،‮ ‬فهل لديك مشروع توثيقي‮ ‬للحرب العراقية‮ ‬– الإيرانية،‮ ‬تقدّمه للأجيال التي‮ ‬لم تتلوّث بسخام ودماء هذه الحرب والمآسي‮ ‬التي‮ ‬عاشها شعبي‮ ‬البلدين؟
وباستعادة التاريخ،‮ ‬فثمة دروس عسى أن نستفيد منها؛ فعندما اندلعت الحرب كنت قد وصلت لتوّي‮ ‬إلى‮  ‬دمشق‮ ‬– بيروت،‮ ‬وكان بعضنا‮ ‬يعتقد أن الحرب ستنتهي‮ ‬بعد أسبوع واحد أو ربما ثلاثة أسابيع أو حتى شهر‮. ‬وكنت قريباً‮ ‬ممن‮ ‬يقول‮: ‬أنتم لا تعرفون الإيرانيين،‮ ‬فهم حتى لو انسحب صدام حسين من إيران،‮ ‬فهم لن‮ ” ‬لزكَة جونسون‮”‬،‮ ‬لأنهم إذا‮  ‬يتركوه تناقشوا حول مسألة فقهية أو لغوية،‮ ‬فقد تدوم ستة أشهر وقد‮ ‬يضطرّون بعدها للعراك،‮ ‬وقد‮ ‬يعودون إليها بعد أعوام،‮ ‬فما بالكم وأن صدام حسين هو الذي‮ ‬بادر بالهجوم عليهم،‮ ‬ولا تنسوا أنهم ما زالوا في‮ ‬ربيع الثورة وفي‮ ‬حالة وطنية من التلاحم‮. ‬ولعلّ‮ ‬الثورة أية ثورة تخلق مثل هذه الحالة وهو ما شاهدناه في‮ ‬العديد من الثورات والانتفاضات الشعبية،‮ ‬وأعترف أنه لم‮ ‬يستطع أحد منا التكهن بأن تلك الحرب ستطول ثماني‮ ‬أعوام بالكمال والتمام‮.‬
وخلال تلك الأعوام المريرة كتبت دراسات‮  ‬وأبحاث عديدة بُعيد الحرب مباشرة ونشرتها في‮ ‬بعض الصحف والمجلات العربية،‮ ‬ثم أصدرت كرّاساً‮ ‬بعنوان‮ ” ‬النزاع العراقي‮- ‬الإيراني‮- ‬ملاحظات وآراء في‮ ‬ضوء القانون الدولي‮” ‬وصدر في‮ ‬بيروت أوائل العام‮ ‬1981‮ ‬وقامت المخابرات العراقية بجمعه من المكتبات على الرغم من دفاعه عن حقوق العراق التاريخية في‮ ‬المياه واليابسة ورفضه المشروع والبديل الإيراني،‮ ‬ولكنه من جهة أخرى أدان الحرب التي‮ ‬شنّها صدام حسين واعتبرها لا تخدم سوى الامبريالية والصهيونية،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬يستحق عليه المساءلة؛ وألقيت محاضرات عديدة عن الحرب وآفاقها،‮ ‬لاسيّما بعد أن انتقلت إلى الأراضي‮ ‬العراقية،‮ ‬والمخاطر والتحدّيات المحتملة خارجياً‮ ‬وداخلياً‮.‬
وكتبت عدداً‮ ‬من الدراسات،‮ ‬بما فيها إنجاز ملفّات خاصة عن الجانب القانوني‮ ‬في‮ ‬النزاع،‮ ‬وشط العرب كنهر وطني‮ ‬عراقي‮ ‬واستخدام القوة في‮ ‬العلاقات الدولية وحرب المدن وحرب الناقلات،‮ ‬وعن أوضاع الأسرى العراقيين والإيرانيين في‮ ‬ضوء الشريعة والقانون الدولي،‮ ‬وعن سيناريوهات الحرب،‮ ‬والنفط والحرب،‮ ‬والقضية الكردية والحرب،‮ ‬والصراع العربي‮- ‬الإسرائيلي‮ ‬والحرب،‮ ‬وبانوراما الحرب،‮ ‬والحرب والحسم العسكري‮ ‬وغيرها‮…‬الخ وآمل أن أتفرّغ‮ ‬لجمع تلك المواد وتأطيرها وتعزيزها لتصدر كموسوعة خاصة بالحرب العراقية‮ ‬– الإيرانية،‮ ‬بعضها كُتب خلالها وبعضها بعد مرور سنوات عليها،‮ ‬لاسيّما تقييماتها،‮ ‬أو أن‮ ‬يتفرّغ‮ ‬أحد الباحثين‮  ‬للقيام بهذه المهمة،‮ ‬خصوصاً‮ ‬لتوثيق مواقف القوى والشخصيات العراقية‮.‬
وسعيت بكل ما أستطيع في‮ ‬المحافل الدولية والعربية للترويج لفكرة إن هذه الحرب عبثية،‮ ‬وأن الجهود‮ ‬ينبغي‮ ‬أن تنصرف لوقفها دون تحقيق مكاسب منها،‮ ‬وإنها مدانة عندما بدأها الحكم في‮ ‬العراق في‮ ‬22‮ ‬أيلول‮ (‬سبتمبر‮) ‬العام‮ ‬1980‮ ‬وعندما أصرّت إيران على مواصلتها منذ انسحاب الجيش العراقي‮ ‬من الأراضي‮ ‬الإيرانية،‮ ‬بعد معركة المحمّرة‮ (‬خورمشهر‮) ‬العام‮ ‬1982‮ ‬ وهي‮ ‬حرب تدميرية لطاقات الشعبين،‮ ‬وأن الحل المناسب هو الجلوس إلى‮  ‬طاولة مفاوضات طبقاً‮ ‬لقواعد القانون الدولي،‮ ‬دون نسيان حقوق العراق التاريخية والتي‮ ‬تم التنازل عنها في‮ ‬اتفاقيات سابقة،‮ ‬لاسيما اتفاقية‮ ‬6‮ ‬آذار‮ (‬مارس‮) ‬العام‮ ‬1975‮ ‬ لكن الأمر‮ ‬يحتاج إلى‮  ‬وسائل سلمية لتسوية الخلافات‮.‬
وكان رأيي‮ ‬وما‮ ‬يزال أنه كلّما كان العراق ضعيفاً،‮ ‬كلّما تمدّدت إيران داخله،‮ ‬والعكس صحيح‮. ‬ولعل ما‮ ‬يحتاجه الشعبان العراقي‮ ‬والإيراني‮ ‬هو علاقات متوازنة ومتكافئة وإلى صداقة وحسن جوار ومشترك إنساني‮ ‬على أساس حق تقرير المصير واحترام الخصوصية والسيادة وعدم التدخل في‮ ‬الشؤون الداخلية‮. ‬
II
مشهد قانوني‮ – ‬سياسي‮: ‬الصديق الإيراني‮ ‬المحتمل
ظلّ‮ ‬البعض‮ ‬ينظر إلى إيران باعتبارها عدوّاً‮ ‬تاريخياً‮ ‬دائماً‮ ‬ومستمراً‮ ‬وأنه لن‮ ‬يتغيّر،‮ ‬في‮ ‬حين هناك من‮ ‬يعتبرها عمقاً‮ ‬استراتيجياً‮ ‬له لاعتبارات مذهبية أو آيديولوجية،‮ ‬فكيف السبيل لإحداث تغيير في‮ ‬العلاقات العراقية‮ – ‬الإيرانية؟ وهل‮ ‬يتم ذلك بالحرب أو بالوسائل العسكرية،‮ ‬أم بالعمل والتعاون على أساس المصالح؟ ولعلّ‮ ‬الكثير من المشتركات التاريخية والدينية تجمع إيران بالعراق،‮ ‬والأهم من ذلك هو المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة،‮ ‬التي‮ ‬تحتاج إلى‮  ‬توفير بيئة سلمية ومدنية لكي‮ ‬تزدهر وتتعمّق،‮ ‬خارج دائرة العداء،‮ ‬وذلك بتغيير موقعها إلى صديق محتمل على أساس التكافؤ والمساواة.وبقدر ما نستحضر التاريخ للفهم والدلالة والعبرة،‮ ‬فإننا لا نعيده ولا نعيش فيه أو نغرق في‮ ‬فصوله،‮ ‬لأننا سنكون أسرى للتاريخ‮  ‬أكثر من التفكّر بالحاضر ورؤية استشرافية للمستقبل،‮ ‬ولا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يتحقق ذلك دون عراق قوي‮ ‬بمواطنته ودعم شعبه.وبخصوص الموقف من الحرب فقد اختلفت معظم قوى المعارضة العراقية الرسمية في‮ ‬رؤيتها،‮ ‬فبعضها لاسيّما القوى الدينية الشيعية كانت تدعو إلى‮  “‬استمرار الحرب حتى النصر‮” ‬وهو ما‮ ‬ينسجم مع المشروع الإيراني‮. ‬أما القوى الكردية فقد كانت أقرب إلى‮  ‬الرؤية الإيرانية آنذاك،‮  ‬في‮ ‬حين أن بعض المجموعات المحسوبة على سوريا كانت تدعو إلى‮  “‬عدم توسيع رقعة الحرب‮”. ‬
أما الحزب الشيوعي‮ ‬وبعد جهد جهيد وصراع داخلي‮ ‬حاد وانشقاقات‮ ‬،‮ ‬فقد قدّم شعار وقف الحرب والإطاحة بالدكتاتورية،‮ ‬بعد أن كان الشعار بالمقلوب‮.‬
كان‮ ‬يخيّل لي‮ ‬أن الحرب العراقية‮- ‬الإيرانية بفعل استمرارها ووحشيتها واحتمالات إتّساع دائرتها كأنها مصارعة على الطريقة الرومانية القديمة،‮ ‬التي‮ ‬لا تنتهي‮ ‬الاّ‮ ‬بمقتل أحد الطرفين المتصارعين وإعياء وإنهاك الطرف الآخر حد الموت أحياناً،‮ ‬وهو ما كتبته في‮ ‬جريدة الحقيقة اللبنانية قبل انتهاء الحرب بعام واحد‮ (‬تموز‮/‬يوليو‮/‬1987‮ ‬وقبيل صدور قرار مجلس الأمن‮ ‬598‮).‬
وفي‮ ‬وقت سابق كنت قد أجبت على سؤال آخر بخصوص كتابي‮ ‬الموسوم‮ ” ‬النزاع العراقي‮- ‬الإيراني‮” ‬وملابساته‮ ‬،‮ ‬لاسيّما موقف السلطات الحاكمة من صدوره فأشرت إلى أنه‮: ‬صدر في‮ ‬بيروت في‮ ‬النصف الأول من العام‮ ‬1981‮ ‬وكتب مقدمة له الرفيق باقر ابراهيم‮ (‬عضو المكتب السياسي‮ ‬للحزب الشيوعي‮ ‬العراقي‮ ‬في‮ ‬حينها‮) ‬والذي‮  ‬أشار فيه إلى‮ : ‬أن الكثير من الباحثين بحثوا في‮ ‬موضوع الخلاف الحدودي‮ ‬بين العراق وإيران،‮ ‬وما جرّه ذلك من نزاعات طيلة قرون عديدة،‮ ‬ويتناول الموضوع الذي‮ ‬يضعه الرفيق عبد الحسين شعبان بين أيدي‮ ‬القرّاء،‮ ‬هذا النزاع،‮ ‬في‮ ‬ضوء قواعد القانون الدولي،‮ ‬وذلك جانب وجدته هاماً‮ ‬وضرورياً‮ ‬لكل المناضلين التقدميين وكل مواطن أن‮ ‬يلمّ‮ ‬به‮… ‬ويعرّي‮ ‬الدكتور شعبان في‮ ‬بحثه بصورة ملموسة وحيوية حيل النظام القانونية التي‮ ‬يلتجئ إليها باستخدام التضليل والخداع‮… ‬وينطلق في‮ ‬تحليله للنزاع من منطلقات المنهج‮ ” ‬الماركسي‮”- ‬اللينيني‮ ‬في‮ ‬البحث،‮ ‬وهو إلى‮  ‬جانب التزامه بتلك المنطلقات‮ ‬يجتهد في‮ ‬بحثه ويستنتج الحلول بطريقة حيوية‮” .‬
استند الكتاب إلى‮  ‬عدد من المرتكزات الأساسية هي‮: ‬
‮ ‬المرتكز الأول‮ ‬يقوم على أن النزاع العراقي‮- ‬الإيراني‮ ‬هو نزاع سياسي،‮ ‬ولكن جانباً‮ ‬قانونياً‮ ‬مهماً‮ ‬فيه،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬اقتضى متابعته تاريخياً‮ ‬بشكل مكثف،‮ ‬بعيداً‮ ‬عن الاعتبارات العنصرية أو المذهبية،‮ ‬التي‮ ‬أريد الترويج لها عشية وبُعيد إعلان الحرب من جانب العراق في‮ ‬22 أيلول‮ (‬سبتمبر‮) ‬1980‮.‬
المرتكز الثاني‮ ‬استند إلى‮  ‬معاهدة فيينا حول قانون المعاهدات لعام‮ ‬1969‮ ‬في‮ ‬بحث الاتفاقيات العراقية‮- ‬الإيرانية،‮ ‬ولاسيّما اتفاقية‮ ‬6‮ ‬آذار‮ (‬مارس‮) ‬العام‮ ‬1975‮ ‬المذلّة والمجحفة،‮ ‬والتي‮ ‬وقّعها صدام حسين مع شاه إيران في‮ ‬الجزائر وبوساطة الرئيس هواري‮ ‬بومدين وكان لوزير الخارجية آنذاك عبد العزيز بوتفليقة دوراً‮ ‬مهماً‮ ‬فيها،‮ ‬وقد سبق للكاتب أن ناقش هذه الاتفاقية في‮ ‬حينها في‮ ‬إطار رسالة كتبها إلى‮  ‬المكتب السياسي،‮ ‬مورداً‮ ‬جوانب الضعف فيها،‮ ‬لا سيّما هدر حقوق العراق في‮ ‬الماء واليابسة،‮ ‬وخصوصاً‮ ‬فيما‮ ‬يتعلق بشط العرب وخط الثالويك،‮ ‬الذي‮ ‬هو أعمق نقطة في‮ ‬وسط مجرى النهر وحتى البحر عند انخفاض منسوب المياه،‮ ‬وهو أمرٌ‮ ‬خطير وفق علماء الجيولوجيا‮ (‬علم طبقات الأرض‮) ‬والطوبوغرافيا‮ (‬علم التضاريس‮)‬،‮ ‬إذ سيعني‮ ‬ذلك انتقال النهر كلّياً‮ ‬إلى‮  ‬إيران بعد نحو‮ ‬100 عام،‮ ‬حيث سيتراكم الطمى والغرين وعوامل التعرية في‮ ‬الضفة العراقية،‮ ‬ناهيكم عن كون النهر أصلاً‮ “‬نهر وطني‮ ‬عراقي‮”‬،‮ ‬وليس نهراً‮ ‬دولياً،‮ ‬لكي‮ ‬يتم اعتبار الثالويك‮ (‬الذي‮ ‬هو خط وهمي‮) ‬الخط الفاصل للحدود‮.‬
ومن الطريف الإشارة إلى أنني‮ ‬حضرت احتفالاً‮ ‬دولياً‮ ‬في‮ ‬الجزائر في‮ ‬العام‮ ‬2010‮ ‬بمناسبة مرور‮ ‬50‮ ‬عاماً‮ ‬على صدور الإعلان العالمي‮ ‬لتصفية الكولونيالية‮ (‬الاستعمار‮) ‬الذي‮ ‬صدر عن الأمم المتحدة في‮ ‬14‮ ‬كانون الأول‮ (‬ديسمبر‮) ‬العام‮ ‬1960‮ ‬وقدّمت بحثاً‮ ‬في‮ ‬المؤتمر الاحتفالي،‮ ‬بعنوان‮ ” ‬ديناميكية حق تقرير المصير والقانون الدولي‮”‬،‮ ‬وذلك في‮ ‬القاعة نفسها التي‮ ‬جمعت صدام حسين بشاه إيران محمد رضا بهلوي،‮ ‬في‮ ‬مؤتمر قمة الدول المصدّرة للنفط،‮ ‬وصوّرت حينها عدسات التلفزيون والكاميرات عناق‮ “‬الأخوة الأعداء‮” ‬في‮ ‬رواية الأخوة كارامازوف للروائي‮ ‬الروسي‮ ‬دوستويفسكي‮ ‬في‮ ‬قاعة‮ “‬قصر الأمم‮”‬،‮ ‬حيث تم التوصّل إلى‮  ‬توقيع اتفاقية‮ ‬6‮ ‬آذار‮ (‬مارس‮) ‬1975‮ ‬بين العراق وإيران والتي‮ ‬أدّت إلى‮  ‬إنهاء الحركة الكردية المسلّحة مقابل تنازلات قدّمها العراق إلى‮  ‬إيران،‮ ‬لا سيّما في‮ ‬شط العرب بقبول خط الثالويك وتنازله عن أراضي‮ ‬عراقية في‮ ‬منطقة نوكان وناوزنك في‮ ‬كردستان العراق‮.‬
لكنّ‮ ‬تلك الاتفاقية بذاتها أصبحت عقدة جديدة من العقد التاريخية التي‮ ‬أضيفت إلى‮  ‬النزاع العراقي‮- ‬الإيراني،‮ ‬وهي‮ ‬ما تزال محطّ‮ ‬أخذ ورد ونقاش وجدل،‮ ‬وحروب ونزاعات،‮ ‬نحو أربعة عقود من الزمان،‮ ‬ولعلّ‮ ‬فصلها الأكثر مأسوية كان هو الحرب العراقية‮- ‬الإيرانية‮ ‬1980-1988‮ ‬ التي‮ ‬تعتبر من تداعياتها عملية‮ ‬غزو الكويت العام‮ ‬1990‮ ‬وصعود موجة الإرهاب،‮ ‬وفيما بعد احتلال العراق‮ ‬2003‮.‬
أما المرتكز الثالث،‮ ‬فإنه على الرغم من أن الحرب وقعت دون مراعاة حتى بنود هذه الاتفاقية المجحفة،‮ ‬أو قواعد القانون الدولي،‮ ‬إلاّ‮ ‬أنني‮ ‬لم أنسَ‮ ‬حقوق العراق حتى وإن كان الجيش العراقي‮ ‬قد اجتاح الأراضي‮ ‬الإيرانية،‮ ‬فإدانة الحرب شيء والإشارة إلى‮  ‬الحل السلمي‮ ‬واللجوء إلى‮  ‬المفاوضات لاستعادة حقوق العراق،‮ ‬شيء آخر،‮ ‬كاشفاً‮ ‬ومناقشاً‮ ‬الدعاوى الإيرانية التي‮ ‬تردّدت حينها،‮ ‬فيما‮ ‬يتعلق برفض وقف الحرب واشتراط التفاوض إلاّ‮ ‬بإزاحة النظام العراقي،‮ ‬أو إقامة نظام إسلامي،‮ ‬وهو ما صرّح به سفير إيران في‮ ‬موسكو السيد موكري،‮ ‬ومطالبة إيران بتعويضات عن خسائر الحرب،‮ ‬قالت حينها أنها تبلغ‮ ‬150‮ ‬مليار دولار،‮ ‬واستفتاء أكراد العراق بالانضمام إلى إيران أو استقلالهم عن العراق،‮ ‬وكذلك وضع مدينة البصرة تحت‮ ” ‬السيادة الإيرانية‮” ‬بصورة مؤقتة،‮ ‬واعتبرتُ‮ ‬تلك المزاعم والدعاوى استفزازية وغير قانونية وغير شرعيّة‮.‬
وفي‮ ‬المرتكز الرابع دعوت إلى‮  ‬تجريم المعتدي‮ ‬في‮ ‬ضوء القانون الدولي،‮ ‬لا سيّما للجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة والترحيل والاغتيال والجرائم ضد الجنس البشري‮ ‬وغيرها،‮ ‬إضافة إلى جرائم الحرب،‮ ‬وذلك طبقاً‮ ‬لاتفاقيات جنيف لعام‮ ‬1949 وملحقيها لعام‮ ‬1977‮(‬بروتوكولا جنيف الأول والثاني‮ ‬الصادران عن المؤتمر الدبلوماسي‮ ‬الدولي‮ ‬1974-1977‮) ‬واستناداً‮ ‬إلى‮  ‬ذلك أفترض أن البدء بشن الحرب وارتكاب عدد من الانتهاكات السافرة والصارخة،‮ ‬سواءً‮ ‬ضد الإنسانية أم جرائم الإبادة أم ضد الجنس البشري‮ ‬أم جرائم الحرب،‮ ‬يستــــحق الإحـــــالة إلى القضاء في‮ ‬ضوء القـــــانون الدولي‮ ‬طبقاً‮ ‬لما‮ ‬يزيد عن‮ ‬15 وثيقة دولية وبموجب تهم أربعــــــة أساسية‮. ‬
وكانت تلك أول دعوة مسبّبة لإحالة صدام حسين إلى القضاء،‮ ‬ولكن من موقع قانوني‮ ‬وحقوقي،‮ ‬وتردّد حينها كثيرون من التعاطي‮ ‬معها،‮ ‬أما لاعتبارها‮ “‬غير واقعية‮” ‬أو‮ “‬غير ممكنة‮”‬،‮ ‬أو هي‮ ‬أقرب إلى‮  ‬يوتوبيا أو حلم راود ذهن الباحث،‮ ‬ناهيكم عن أن منطقها القانوني‮ ‬كان من الصعب استيعابه،‮ ‬خصوصاً‮ ‬وأنه تجاوز بعض الأطروحات السياسية والشعارات العامة السائدة،‮ ‬لكن الباحث وضع حلم نورمبرغ‮ ‬عراقية أمامه وظلّ‮ ‬يدعو إليه‮.‬
يتبع

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com