مقالات

القراءة ” الماركسية ” للتاريخ 2

بكل شجاعة وجرأة مقتبستين من ماركس وليين وستالين وبكل أمانة تعلمناها من فردريك إنجلز نقول للمؤرخين بمختلف نحلهم، والسياسيين الذين يجتزئون من التاريخ غير المقروء أسانيدهم، نقول لهم أن التاريخ لا يُقرأ إلا وفق القراءة الماركسية  , لكن ماهي القراءة الماركسية للتاريخ ؟

رأى ماركس بعبقريته المعروفة ما لم يرَ غيره أن المجتمعات البشرية بمختلف أشكالها ومراحل تطورها في أقاليم الأرض المختلفة إنما هي إحدى ظواهر الطبيعة، خُلقت أصلاً بفعل حركة الطيعة وتطورها وستنتهي لذات الأسباب , وعليه فإن المجتمعات البشرية المختلفة بكل أنشطتها المادية والفكرية لا بد وأن تخضع أولاً وأخيراً لقوانين الطبيعة النافذة دون انقطاع .

لقد فرضت الطبيعة ألف شرط وشرط قبل أن تظهر ظاهرة الحياة والجنس البشري على كوكب الأرض  , لا يجوز بحال من الأحوال أن تخامرنا بعض الشكوك في أن الحياة البشرية يمكن لها أن تعاكس قوانين الطبيعة أو أن تخرج عن مسارها كما يفترض بعض محرّفي الماركسية من أن الوعي البشري يمكن له أن يحرف مسار التطور .

كيف يحرف الوعي البشري مسار القوانين التي خلقته وما كان بغيرها سيخلق . . لذلك هناك حتمية تاريخية في مسار التطور وأن الأطروحة الرئيسة لمدرسة فرانكفورت التي تنفي الحتمية التاريخية وتقول بإمكان الوعي البشري أن يستقل نسبيا عن مسار التطور الدينامي ليست إلا من الأنشطة المعادية لتيار الماركسية الجارف .

كل شروط الطبيعة التي تظهر مفاعيلها في مظاهر لا تعد ولا تحصى تعود أصلاً إلى القانون العام للحركة في الطبيعة ألا وهو الديالكتيك الذي اكتشفه ماركس دون أدنى علاقة له بديالكتيك هيجل غير المادي كما يشيع العامة ومجندو البورجوازية الوضيعة , فديالكتيك ماركس هو القانون العام للحركة في الطبيعة وهو ليس قانوناً فيزيائياً فقط بل هو أصل كل قوانين الفيزياء بينما ديالكتيك هيجل هو التناقض في المنطق شبيها بمنطق سقراط .

الديالكتيك ليس قانوناً طارئاً دخل على الطبيعة بعد لحظة من الإنفجار العظيم (Big Bang) كما في النظرية الفيزيائية العامة، أو بعد أن كانت الأرض خربة و روح الله ترفرف فوق الغمر كما افترض الكتاب المقدس في الخلق (Genesis) أو بعد فتق الرتق كما في القرآن , لا يجوز افتراض ذلك على الإطلاق، وعليه لا محيص من الإفتراض إن الديالكتيك هو دون شك السبب الوحيد في وجود الـ(Singularity) أصل الوجود، وهو أيضاً دون شك السبب الوحيد للإنفجار العظيم و إلا لما كان بإمكان القائلين بالإنفجار العظيم الإفتراض بأن الأصل لمليارات المجرات في الكون أنما كان كائنا بحجم حبة البازيلا .

لا يمكن قبول مثل هذا الإفتراض إلا بقبول الديالكتيك على أنه أصل الإنفجار , وبذلك يكون هو الحقيقة المطلقة التي فنيت أعمار الفلاسفة يبحثون عنها واكتشفها أخيراً عبقري الفلسفة والإقتصاد والتاريخ كارل ماركس .

نخلص بعد كل هذا إلى أن الديالكتيك والذي أحد تهيؤاته المجتمع البشري الذي لا يمكن إلا أن يكون محكوماً طولاً وعرضاً بقانونه الذي يتمظهر بثلاثة مفاعيل :
(1) وحدة النقيضين وهوما يعني أن وجود الشيء إنما هو نقيضان متصارعان في وحدة واحدة حيث ينتهي الشيء ولم يعد موجوداً بانتهاء الصراع بين النقيضين .
(2) التغير الكيفي أو النوعي يحدث بعد العديد من التغيرات الكمية والتي تصل حتى الحدود الحرجة فلا تعود ممكنة إذاك تحدث الثورة ليتغير نوع الشيء لنوع جديد قابل للتغير الكمي من جديد .
(3) النوع الجديد يلد معه في جوفه ما ينفيه بعد التغيرات الكمية التي توصله إلى الدرجة الحرجة فيكون إذاك نفي النفي .

كل الأشياء في الطبيعة ومنها المجتمعات البشرية تتطور وفقاً لهذا القانون ولما كان النفي يولد مع ولادة المنفي فذلك يؤكد الحتمية التاريخية , وعليه وبعد كل هذا يتأكد بأن التاريخ لا يقرأ إلا وفق القراءة الماركسية .

كانت قراءة ماركس للتاريخ تقول، كما شرح في البيان الشيوعي 1937، أن التناقض بين قوى الإنتاج المتنامية باستمرار في ظل النظام الرأسمالي من جهة، وعلاقات الإنتاج الحديدية الثابتة التي لم تعد تتسع لتنامي أكثر لقوى الإنتاج من جهة أخرى، سينتهي إلى ثورة تطيح الطبقة العاملة بالنظام الرأسمالي وتتولى السلطة كي تقوم بالتحضير، خلال فترة قصيرة نسبيا وصفت بالإشتراكية، للدخول في الحياة الشيوعية حين تنتهي رحلة الأنسنة إلى التكامل وحين لا يعود الإنسان يشبه إنسان اليوم وقد تطهر تماما من آثار الوحشية التي تحدرت إليه من أصوله السحيقة عبر المجتمعات الطبقية بأشكالها المختلفة وقد أباحت استغلال الإنسان لأخيه الإنسان .

في مارس 1871 نهض عمال باريس واستولوا على السلطة في كومونة باريس لكن نظراً لفقرهم في الوعي وخبرتهم المحدودة في الصراع الطبقي لم تعمر كومونتهم أكثر من شهرين، وهو ما انعكس في إحباط ماركس حيث تحقق من أن عمال أوروبا وهم الأكثر تقدماً في العالم ليسوا بعد في مستوى الثورة الإشتراكية فكان أن حل الأممية الأولى التي كان قد شكلها في العام 1864 وعوّل عليها بالقيام بالثورة الاشتراكية العالمية، حلّها في العام 1873 ولم يعد يقوم بأي نشاط ثوري قبل وفاته في مارس 1883 .

لكنه كتب في العام 1882 في مقدمة لترجمة البيان الشيوعي إلى الروسية عن احتمال أن تقدح شرارة الثورة الإشتراكية في روسيا ليلتهب أوارها في أوروبا المتقدمة صناعياً , وهو ما حدث فعلا فقد استولى العمال الروس بقيادة لينين على السلطة في روسيا في العام 1917 وقامت ثورات عمالية في ألمانيا والمجر وجمهوريات البلطيق في العام 1919 ومرة أخرى في ألمانيا في العام 1923 ولكن بسبب الفقر بالوعي اللينيني من جهة وتكالب القوى الرأسمالية والرجعية بما في ذلك أحزاب الأممية الثانية المنحلة من جهة أخرى لم تصمد هذه الثورات بوجه الأعداء .

لم يتحول الشيوعيون المفلسون عن إدعائهم بأن ثورة البلاشفة 1917 جاءت من خارج التاريخ بالرغم من أن عمال روسيا وفلاحيها الفقراء إلتفوا حول البلاشفة وأنزلوا هزيمة ساحقة في الحرب الأهلية بالبورجوازية وفلول الإقطاع وجنرالات القيصرية وهو ما مكّن لينين من القول في افتتاح المؤتمر التاسيسي للأممية الشيوعية في 6 مارس 1919 أن البروليتاريا الروسية أثبتت على أنها أكثر وعياً وأشد صلابة وثورية من البروليتاريا في انجلترا وفي ألمانيا .

بل وعقب ذلك مباشرة تمكن العمال والفلاحون الروس من سحق تسعة عشر جيشاً أرسلتها الدول الرأسمالية جميعها لسحق البولشفية في مهدها كما أعلن وزير الحرب في بريطانيا ونستون تشيرتشل الذي أرسل ثلاث جيوش استهلك تجهيزها كل أموال الدولة البريطانية الغنية فكان أن تعالى صراخ مجلس العموم ضد الانفاق على الحرب وهو ما أرغم تشيرتشل على الإستقالة . وفي العام 1921 أعلنت دولة العمال الأولى في التاريخ دولة الاتحاد السوفياتي الإشتراكية على عرض قارتي آسيا وأوروبا . كيف يمكن القول أن ثورة أكتوبر الاشتراكية جاءت من خارج التاريخ ؟

بعد حروب مدمرة دامت لثمان سنوات 1914 – 1921 انتهت أراضي الجمهورات السوفياتية الخمس عشرة لتكون قفراً بلقعاً وتبيت الشعوب السوفياتية على الطوى بكلمات لينين نفسه، وهو ماحدا به لأن يقرر “الخطة الإقتصادية الجدديدة – النيب” (New Economic Plan) التي قضت بالسماح للشركات الرأسمالية الأجنبية العمل في الاتحاد السوفياتي , خلال أربع سنوات فقط 1922 – 26 عاد مستوى الاقتصاد السوفياتي إلى مستوى الاقتصاد الروسي قبل الحرب في عام 1913 وبدأ الحد من خطة النيب مبكراص كما أوصى لينين عكس ما يدعي الشيوعيون المفلسون .

البلشفي الأعظم والتلميذ العبقري للينين يوسف ستالين أثبت للعالم أن النظام الإشتراكي أكثر غنىً من النظام الرأسمالي الغني بأربعة أو خمسة أضعاف، فما بين العام 1928 – 1938 تضاعف مجمل الإنتاج السوفياتي عشر مرات وتضاعف أعداد الطبقة العاملة بنفس النسية وفي العام 1936 كانت الصحف الأميركية تقارن رغد العيش في المدن السوفياتية مقابل شظف العيش وطوابير الشوربة في المدن الأميركية  وانتقل الاتحاد السوفياتي خلال تلك الفترة القصيرة نسبيا ليكون أقوى دولة في العالم كما ثبت ذلك عملياً في الحرب العظمى حيث لم تصمد أكبر إمبراطوريتين إمبرياليتي، بريطانيا وفرنسا أمام ألمانيا النازية أكثر من أسابيع معدودة بينما حاربها الاتحاد السوفياتي أربع سنوات ومع نهاية السنة الرابعة احتل برلين ورفع راية المنجل والمطرقة على رايخ هتلر، الرايخ الثالث .

مرة أخرى كيف لمجندي البورجوازية الوضيعة الإدعاء أن ثورة أكتوبر جاءت من خارج التاريخ وهي تملي شروطها على العالم، كل العالم، في نهاية الحرب العالمية الثانية في مؤتمر بوتسدام ؟ من هو الأحمق الذي سيصدق ذلك !

ماكانت ثورة التحرر الوطني لتتفجّر في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية لو لم تكن نهاية الحرب على أيدي دولة العمال الإشتراكية دولة الحرية والتحرر , ما بين العام 1946 والعام 1972 تحررت جميع الدول المحيطية وأعلنت استقلالها فأصدرت الأمم المتحدة في العام 1972 إعلانها الشهير يؤكد نهاية الاستعمار في العالم ويحل لجنة تصفية الاستعمار التابعة للأمم المتحدة , الدول المستقلة تمتنع آلياً عن استقبال فائض الإنتاج المتحقق بالضرورة الرأسمالية في مراكز الرأسمالية , وبعد أن تعذر تصريف فائض الإنتاج توقفت مراكز الرأسمالية عن إنتاج البضائع وانهار بذلك النظام الرأسمالي الذي لا يقوم إلا على إنتاج البضاعة .

ليس من المثير للدهشة والاستهجان في آن أن البورجوازية الوضيعة، التي هي قبل كل شيء آخر معادية بطبيعتها وطبيعة دورها في الإنتاج الوطني للنظام الرأسمالي، وبعد أن آلت إليها السلطة في كل أقطار العالم عبر انحراف لمسار التاريخ شقته البورجوازية الوضيعة السوفياتية في الخمسينيات، تجند الكثيرين ومنهم شيوعيون مفلسون يدّعون بديماغوجية وقحة تثير الإشمئزاز أن النظام الرأسمالي لم ينهر بل تغوّل وازداد توحشاً في استغلال الشعوب , ومما يثير الضحك والسخرية أكثر من ذلك هو الإدعاء بالعولمة على مسار التغوًل بينما لم يتعولم النظام الرأسالي قبل الحرب العالمية الأولى وقد بلغت قوته القمة آنذاك .

مثل هذه الإدعاءات السخيفة من قبل مجندي البورجوازية الوضيعة لا تثير الدهشة والاستهجان حيث بغيرها يتوجب على البورجوازية الوضيعة أن تعلن عن هوية نظامها في الإنتاج الذي ليس له هوية على الإطلاق طالما أنه حقاً ليس إلا فوضى الهروب من الاستحقاق الإشراكي ومع ذلك تفرضه على العالم عبر إدعاءات سخيفة مثل إداعائها باقتصاد المعرفة (Knowledge Economy) الذي يأخذ به بعض الشيوعيين الذين انفتلت رؤوسهم دون أن يقَرّوا على أن ما سمي باقتصاد المعرفة يحكم بنهاية التاريخ . . !

 

بقلم الكاتب

فؤاد النمري

 
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com