مقالات

الخيمة والصرفية:

شبكة بيدر.

الخيمة والصرفية:

الباحث عبد الحميد برتو .

تطورت الحياة الإنسانية بكل جوانبها، خلال مسيرتها المديدة، منذ عصر المشاعية الى يومنا هذا. فعلى صعيد الفكر ونمط التفكير، كان التفسير الخرافي والأسطوري أداة لفهم حركة الكون وظواهره وحياة الإنسان نفسه. ثم جاء الفكر الديني، أعقبته الفلسفة، وأخيراً تربع العلم على موقع الصدارة بكل أنماطه وأشكاله وفروعه ومستوياته. بديهي أن تكون درجات تداخل المراحل بمستوياتٍ متفاوتة حسب حجم التقدم الذي يحققه كل مجتمع على حدة، وحتى كل فرد. بات الوضع الدولي يلعب أدواراً متزايدة بإضطراد في الإعاقة أو فتح بعض المجالات الجديدة.

إنتقلت المجتمعات المختلفة بنسب متفاوتة على صعيد النمو الإجتماعي ـ الإقتصادي، وعلاقات الإنتاج واسلوب الحياة. من المشاعية الى العبودية الى الإقطاع ثم الرأسمالية، لتفتح الأخيرة بشكل خاص باباً صوب الإشتراكية بكل مراحلها. تشهد كل نقلة إجتماعية تداخلاً مع سابقتها ومع المرحلة اللاحقة. من المعترف به على نطاق واسع أن البناء الفوقي، على صعيد القيم الأخلاقية والإجتماعية والثقافية، لا يسير بذات السرعة التي يتطور أو يتدهور فيها البناء المادي والإنتاجي.

احْتَلَّ مسكن الإنسان موقعاً في مركز الحياة الفردية والإجتماعية، بكل مراحل التاريخ. من ظلال الأشجار تقليداً للطيور، الى الكهوف تقليداً للحيوانات، الى الخيمة في نمط أو إسلوب حياة التنقل ـ البداوة، الى الصريفة في الحضارات النهرية بصفة خاصة ـ فقراء الفلاحين، الى المساكن المعروفة اليوم بكل تباينات مستوياتها، ودرجات التنوع في الخدمات المتوفرة فيها: المياه، الكهرباء، الصرف الصحي، سعة المساحة، مواد البناء، نوع التأثيث، الى الخدمات في البيت والشارع والحي والمدنية، المواصلات والإتصالات وخدمات الصحة والأمن … الخ. الى البيوت الذكية. ولن يتوقف السير الى أمام.

تؤثر كل تلك الظروف والأحوال والعلاقات السائدة في كل مرحلة على الوعي العام والفردي، وعلى إسلوب الحياة العامة والخاصة، وعلى القيم الإجتماعية السائدة والقوانين والصحة، العامة منها والفردية، وعلى مستوى تذوق وإنتاج القيم الجمالية وغيرها كثير. وفي ظل الإنتشار الواسع للإعلام الجماهيري ووسائل الإتصال، بدأت الأخيرة تتحول الى عامل هام ومؤثر في صناعة وصياغة الرأي العام والضغط على المعتقدات والعادات والقيم أيضاً.

لا تأتي قيم المجتمع ولا تتغير دفعة واحدة. إنها عملية تراكمية متواصلة. تراكمت فيها حالات التطور والنمو والتراجع والإنكفاء كذلك. لم تكن دروبُ المجتمعات ولا خطوط سيرِها يوماً ذات إتجاه واحد. رحبت أرض الرافدين عبر كل مراحل التاريخ بالموجات السكانية القادمة إليها. إستقر الكثير من القبائل العربية البدوية فيها، الى جانب الممالك العربية المستقرة سابقاً: المناذرة والغساسنة وغيرهما من التجمعات السكانية الواسعة.

يترحل البدو أملاً بالكَلأِ، ويستقرون طمعاً بالمياه الوفيرة والثمار والخضرة المعطاة. يجري التعود على نمط الحياة الجديدة في الغالب بإنسيابية مقبولة نسبياً. لكن المُثل والقيم والمشاعر لا تتغير بذات السرعة. تتطلب حياة التنقل الدائم شبكة واسعة ومتداخلة مع بعضها البعض، من أنماط السلوك والنظم القيميّة العرفية وأساليب الحياة والتعامل، التي تحكم واقعهم. ترافق وتطبع تلك القيم بإيجابياتها الكثيرة وسلبياتها أيضاً حياة الريف المنحدر من أصول بدوية قريبة العهد. فالفلاح العراقي يشارك أخيه البدوي المتنقل وراء الكَلَأِ والماء مشاعره وقيمه بفعل تواصل الجذور المشتركة. لا أبالغ حين أعثر أو أشير الى علاقات روحية وقيمية وسلوكية بين الخيمة والصريفة. يَقَعُ الإمتحان في الحالتين في ساحةِ ضَنْكِ الحياة نفسها. إن خط الإنتقال من حياة الظعن الى الريف، ومن الأخير الى حواف المدينة، التي تتعايش فيها الكثير من المشتركات والتنافرات، تُشَكل رحلةً تَسْتَحقُ متابعة حركتها ببعدها الإجتماعي، وفي المشاعر والذوق الجمالي، وفي المقدمة منها الشعر عصارة المعاناة التي تقدم حالة تهم الجميع، وليس المتخصصين فقط. سجل خيرالله سعيد شعراً أبرز وأخطر المحن الى مرت على شعب العراق.

تجد في شبكة العلاقات الشخصية والعائلية والقبلية تشابهاً وتقارباً ومفارقات بين الخيمة والصريفة. تحتل بعض الصفات تاج الفخر على كل الصعد، مثل: الشجاعة، الكرم، النخوة، التعاضد، الشهامة، البساطة، الصراحة، الصدق، التعفف وغيرها من الصفات الكريمة. لا تغيب في الوقت نفسه: روح المغالبة، القسوة، المكر، التستر على بعض جوانب الضعف الإنساني، وما الى ذلك. لكل تلك التناقضات أسباب موضوعية فرضتها الحالة الإقتصادية ـ الإجتماعية العامة، وتقلبات الظروف الطبيعية، والموروث التاريخي الثقافي. في الريف تتوسع الفوارق الإجتماعية ليحل النفوذ عند السلطات والإمكانات المادية محل الشجاعة في فضاء البوادي.

تبقى العلاقة بين المبدع ونتاجاته علاقة خَلْقٍ على قاعدة الظروف الملموسة المحيطة والمهارات الفردية. تُفسر تلك العلاقات الكثيرَ من جوانب الغموض في النص الشعري. يشرق ذلك الغموض على النص الشعري نفسه يُغنيه ويشذبه ويُلين زواياها الحادة. ولكي يبقى هذا الفهم غير قسري ينبغي على الناقد والمتذوق الإقتراب المرهف من تلك العوامل. فينبغي تحليل وتقويمِ العمل الإبداعي ضمن الفهم الدقيق لتلك الظروف والتحولات والنظام القيمي السائد.

توجد وحدة لا انفصام فيها، بين سلوك وفلسفة واسلوب حياة الشاعر وبين ابداعاته. ومن أبرز سمات تلك الوحدة يشار الى الصدق والصراحة، ليتحول العطاء الى أرض للفرح والأمل والشجاعة. بدا الشعر الشعبي كأنه يمثل ذوقاً فلاحياً قبل كل شيء. كثير من علماء الإجتماع أشاروا الى الوشائج القوية بين البداوة والتحضر بمعنى السكن المستقر. ولكن تلك التقديرات إعتمدت في الغالب المشاهدات العابرة في تماثل بعض العادات والتقاليد والتقيم. أرى أن تلمس تلك الحالات عبر النتاجات الشعرية من الأدلة المتينة، التي تستحق عناية دقيقة وتفصيلية.

لا نحتاج الى أيِّ مَسْحٍ إجتماعي للشعراء الشعبيين في العراق، للتوصل الى حقيقة أن طابعه الغالب هو جنوبي الموقع والذوق والتجربة الملموسة. تحوي موضوعاته وصوره ومثله الروحية قيماً فلاحية متأصلة في وجود وذاكرة المجتمع، مشدودة الى قيم التلامس المباشر بين الإنسان وفضاء الطبيعة الواسع حوله، يسميه البعض بقيم البداوة. هنا نجد الحبل السري الذي يربط الخيمة بالصريفة بحواف المدن.

يعيش مجتمعنا العراقي والعربي عامة، مرحلة إنتقالية مجهضة، فيها عوامل الدفع متنافرة. تخلق لوحة سريالية المشهد، بالإكراه وليس إبداعاً. سادت النظرة الأحادية وطابع التضارب في كل شيء. وخبت روح التحري عن وجوه الإبداع. إختلطت قيم الشك والغضب والتمرد مع قيم الإنبهار الفج بكل ما يمنح صفة جديد، على حساب الثقة بخلاصات التجارب الإجتماعية الخاصة والعامة.

تكشفُ أية وقفةٍ مدققة بنتاج الشاعر خيرالله سعيد في موّاله السومري القصصي، أمام الناقد أو القارئ أو السامع وجهَ الريف العراقي الحقيقي، وجذوره الضاربة في عمق المنطقة. تَعَمَّقَ وتحرى وبحث الشاعر في مجتمعة بجهد كبير، ليسجل إنطباعاته بصدق وأمانة ونظرة فنان أرهقته الحياة، حتى بات عوده أقوى ونظرته أوسع وحسه يتجسد شعراً بلغة العامة من الشعب. إمتلكت نظراته صلابة ومرونة وإشراقاً جعلتها عصية على الطحن، أو تقبل ما ترفضه حكمة مَنْ جاء شعره لأجلهم ومعبراً عنهم. منحت معاناة الخلق والإبتكار وعمق الإحساس شعرَ شاعرنا صفة وليد المعاناة الممتحن.

حين تتكلم الأعمال عن صاحبها، فهي الأكثر دقة وتعبيراً وتعريفاً. إن الموّال هو نوع من أنواع الشعر العربي المعروف منذ زمن طويل. لا أميل الى الترجيحات التي ربطت أصل ونشأة الموّال بعصر هارون الرشيد حين بطش بوزيره جعفر البرمكي. إنه أقدم عهداً وأسبق ضرورة. يوجد إختلاف بين الباحثين حتى على موقع نشأة هذا النوع من الشعر والغناء. هناك مَنْ ينسبه إلى إلى أهالي واسط في العراق وقسم يربطه بالأحواز وإحتمالات أخرى.

يلامس الموّال القوما كرابطة فنية حسب. ظهر فن القوما في أواخر الدولة العباسية ببغداد. عندما اخترعه البغداديون في شهر رمضان، لإيقاظ الصائمين لتناول السحور. روابط الموّال مع العتابة والأبوذية متينة أيضاً. هذه الأخيرة منظومة عاميّة تتألف من أربعة أشطر، الثلاثة الأشطر الأولى تنتهي بكلمة واحدة متّحدة في اللفظ مختلفة في المعنى، إنه الجناس. ينتهي الشطر الرابع من الأبوذية بياء مشددة، تليها هاء مهملة وتسمى القفلة. ينظمها الشاعر وتصبح من مهمة المستمع استخراج معانيها. يتكون الموّال الزهيري من بندين، البند الأول يسمّى بالعتبة، والبند الثاني يسمى الردفة، ولكل بند ثلاثة أشطر، متّحدة الجناس مختلفة المعنى، كما في الأبوذية، أما السابع وهو المسمّى بالقفلة أو الرباط، فيتحد في جناسه مع البند الأول مع مراعاة إختلاف المعنى.

إذا تعاملنا مع الموّال على أساس نفسي ـ إجتماعي نجد الوشائج متينة بين الخيمة والصريفة في تعبيرهما الإجتماعي. ربما ملحمة حياة وشعر الشيخ عبدالله الفاضل تترجم ذلك على أكمل وجه، من حيث الترابط القيمي والنظرة الى الحياة والأسرة والروابط الإجتماعية الأخرى.

تحمل قصة ذلك الشيخ البدوي حالة إنسانية تستحق التحليل العلمي للرواية الشعبية أحداثاً وأدباً. قد تفهم اليوم قصة عبدالله الفاضل بطريقة أفضل في ظل التباعد الإجتماعي الراهن، الذي فرضه شبح الفيروس التاجي ـ كرونا ـ (كوفيد – 19). بديهي أن الرواية الشعبية تشهد إضافة هنا وإجتزاء هناك. ولكن القصة حافظت في كل الأحوال على مصداقية التواتر.

ليس هناك حاجة ملحة لإعادة سرد الوضع، الذي وجد فيه الفارس الشجاع نفسه، بعد أن أصيب بالجدري، ذلك المرض الفتاك حينذاك. وَضَعَ المرضُ القبيلةَ في حَيرة من أمرها. ولكن الضرورات تبيح المحظورات. فسلامة القبيلةِ أهم من فارسها وإبن شيخها. تركت القبيلةُ إبنَها وهاجرت. تركت له ما يقيم أوده الى أن يوافيه الموت المؤكد. تركت معه كلبه وخادمه أيضاً. لكن الأخير هرب بعد رحيل القبيلة مدعياً أن عبدالله قد وافته المنية. وتلعب الأقدار دورها في إنقاذ الفارس الشاعر.

نال الشاعر الشيخ عبدالله الفاضل بجدارة لقب شاعر العتابة. تعبيراته رائعة وجذابة. عَبَّرَ بنجاحٍ عن مُثلِ: الشجاعة، الكرم، الفخر، الحماسة والمديح وغير ذلك. خلقت محنته الشخصية علاقة ملحمية مع قبيلته، لتطغى مفردة (هلي) على معظم بدايات ابيات العتابه عنده. باتت سمة خاصة ميزته عن بقية الشعراء في الغناء البدوي.

لنكتفي هنا بتقديم شواهد من شعر عبدالله الفاضل الذي عُرِّفَ كذلك بإسم (ساري العبدالله) بما يؤكد وحدة نظام القيم بين الخيمة والصريفة:

ـ المفردة الأكثر تردداً وحميمية في كلا الموقعين الخيمة والصريفة: هلي.
هلي شالو على مكحول ياشير
وخلو لك عظام الحيل ياشير
يلو تبكي وتهل الدمع ياشير
هلي ماعاد لي منهم رجا

أو:
هلك شالوا على مكحول يا شير
وخلوا لك عظام الجزر يا شير
ولو تبكي بكل الدمع يا شير
هلك شالوا على حمص وحماة

ـ المفاخرة بالحسب والنسب:
هلي في راس مرقاب(ن) يشبون
ودايم لنار الحرب يشبون
هلي ماقادو العطف يشبون
خلوهن حيل لطراد الضحى

وقوله أيضاً:
هلي مالبسو خادمهم سملهم
وبكبود العدا بايت سم لهم
كان أهلك نجم أهلي سمالهم
وكثير من النجم علا وغاب

ـ العتاب المكبوت:
هلي شالوا بليل وما أعلموني
خلوني شبيه المعلموني
تمنيتج يروحي معلموني
معاهم لا صميل ولا زهاب

ـ الدفاع عن الأهل:
هلي مالهم بدار الجار شينا
وهم اللي لعظم الضد جار شينا
يفاضل على الجارات ما جرت شينا
ولا وتوا أصحاب على جناب

أو:
عليك الراي من فاضل يا ديرا
وخشم الضد بالمرهف نديرا
غرم ترعى البويضه بكل ديرا
وغصب عن الشوارب واللحا

ـ وللغزل موقعه يقول عن زوجته ثريا:
هلا بثري والدنيا مسك باه
عطر يا ريحه خدودك مسك بيه
عجاج الظعن عنبر والمسك بيه
أخير من القرايا المعطنات

الغزل المعجون بالمفاخرة ينشد عبدالله الفاضل:
أريد أكوم و ما بالحيل كوةّ
نهودوا زامات الثوب كوةّ
لفاجن يا لحانا الشيب كوة
و بعد بنفوسنا طرد الهوا
هلي بالمركب العالي يشبون
و دوم سراج بالظلمة يشبون

المناجاة مع الذات:
اريد ابجي على روحي وناحي
بعيني حليت الدنيا وناحي
صديج المارحم حالي وناحي
شلي بيه يوم ردات التراب

أتبنى في النقد الفني رأياً يفيد، بأن أي عمل إبداعي، يحمل في ذاته حدثاً أو فعلاً إجتماعياً داخل بيئة معينة. يحمل إمتدادات مجتمعية وأبعاداً تاريخية وثقافية. ذلك الفعل هو إنعكاس لحالات نفسية ـ إجتماعية، عامة كانت أو فردانية. يَتبين من خلال النظرة الفاحصة ما يتفاعل ويتجلى عند المبدع والناقد والمتلقي على المستوى النفسي والإجتماعي حول كل حدث وحالة. كلما كان العمل الفني راقياً في قيمته وحقيقته الإبداعية. كلما تعددت القراءات وتنوعت له وعنه. يساهم تضافر جهود أكثر من عامل في توضيح الصورة الإجتماعية والنفسية القائمة في الحدث المعني بجلاء. يكتشف الشاعر خلال التقويم النفسي ـ الإجتماعي صلات وروابط بين المجموعات الإجتماعية. قد لا يراها حتى الباحث المتخصص. لأن زاوية رؤية الفنان مختلفة في بعض جوانبها. لدى كل من الباحث والشاعر مساحات رؤية مختلفة، تتلامس عند محيطهما حول الحدث، ولكنهما غير متطابقتين على الإطلاق، بمعنى لكل منهما مساحة رؤيته الخاصة والمستقلة.

تكثف الشعر الشعبي في جنوب العراق وفي باديته. ظَهَرَ شعراءٌ تميزوا بحسن إجتماعي أبعدَ وأعمق من اللحظة القائمة فقط. يصبح السؤال مشروعاً عن حالة الشعر الشعبي في بقية أجزاء العراق. توصلنا الى حقيقة أن الشعر المغنى حاجة إجتماعية. فهذا يدفعنا الى التحري عن حالته في بقية أجزاء الوطن العراقي.

بات من الثابت أن الجنوب ومناطق بادية الحجر وأطراف من بداية الشام العراقية تحتضن وجوداً شعرياً واسعاً، شعبياً هنا وبدوياً هناك. فماذا عن الأنبار ومنطقة الجزيرة الفراتية مثلاً. هذه مناسبة لدعوة النقاد المهتمين بالشعر الشعبي الى إستخدام أسلوب المقارنة بين شعر منطقتين أو ثلاثة من العراق لإكتشاف عمق الوشائج الفنية والثقافية المشتركة. مثل هذه الدراسات إضافة لأهميتها من حيث الإختصاص، تنطوي على أهمية وطنية وإنسانية وجمالية. فالمقارنة طريقة للتعرف والإكتشاف. ويُعد الإبداعُ بكل وسائله طريقاً مجرباً يخلق أرقى حالات التقارب الإنساني الواعد بين أبناء الشعب الواحد.

يستطيع الشاعر الشعبي الباحث الدكتور خيرالله سعيد أن يمارس دوراً مهماً في هذا الميدان. إن الدراسات المقارنة بين فنون الشعر الشعبي بمناطق العراق تتمتع بأهمية خاصة في الظروف الراهن. هذا لو توفر لدى الباحث متسع من الوقت الى جانب المصادر الضرورية. فالصدق والأمانة يمنحان شاعرنا موثوقية عالية. بديهي أني أشعر بكم الجهد الذي بذله الرجل في موّاله السومري وفي النظر الى الماضي الذي عاني من الكثير من المصاعب والإهمال وغيرهما.

ربما من المناسب وضع بعض الملاحظات العجلى عن الشعراء الشعبيين في الأنبار بالقدر الذي يؤكد عمق العلاقة بين الخيمة والصريفة. تضم هذه المنطقة عدد كبير من الشعراء الشعبيين. وتحتل العتابة والأبوذية مكانة مهمة في الغناء الشعبي. ظلت الدراسات عن هذا الميدان قليلة. ولم تحظ بالعناية الضرورية. هذا على الرغم من أن لكل مدينة في الأنبار شاعرها وأحياناً لكل قبيلة.

نشير هنا الى بعض الشعراء الشعبيين من غرب العراق، منهم: بدران أحمد بريگع الهيتي، عبد العزيز حبيب العاني، أحمد بن جاسم العبيدي، جميل الجبوري، طلال سليم آل جعفر، سليم العبد الله، سمران كيصوم الجغيفي، وسام الغريب الجميلي، أسامة المعيوف، أحمد محمد هندي. وهنا شعراء قريض كثيرون، لا نشير إليهم لأن الإهتمام هنا منصب على مَنْ مارس صياغة الشعر الشعبي، كلياً أو جزئياً.

نذكر بصدد الجهود المبذولة لدعم الشعر الشعبي. إن جامعة الأنبار إنفردت دون غيرها من المؤسسات الرسمية والشعبية بعقد عدة مهرجانات للشعر الشعبي. وبصدد التذوق والنفوذ، نقلت وسائل التواصل الإجتماعي قبل أعوام قصيدة للشاعر سريح الزريجاوي الرميثي في مهرجان غرفة المحامين في الأنبار. دارت القصيدة حول خصائص أهل العراق. أبكي الشاعر الراحل حينها الحاضرين بحرقة، تحت تأثير روعة القصيدة والروح التي إنطوت عليها. صحيح أن الحديث يجري عن حالة واحدة، ولكنها تساهم في تقديم صورة ما عن الحالة العامة.

أعرض فيما يلي بعض النماذج من الشعر الشعبي لمَنْ يُلقب بشاعر مدينة هيت، التي تحتل موقعاً وسطاً بين البادية والجزيرة، هو السيد بدران أحمد بريگع الهيتي، علها تساعدنا في تلمس التشابه بين الشعر الشعبي في جنوب وغرب العراق. وفي الكشف عن العلاقات بين الخيمة والصريفة. (الأبيات وردت في مقال للدكتور قحطان محمد صالح الهيتي، نُشر في الحوار المتمدن، تحت عنوان “علم من مدينتي، الشاعر بدران أحمد بريگع الهيتي”:

يصف السيد بدران فيضان الفرات عام 1927 بقصيدة مطلعها:
آه يـــا ربــــي ولانــــه
منـــك نريـــد الإعــانة
من حضرتك سيل جانه
غــرّگت كــل النبـــات

وختمها:
والمناخ بهيــت صايـــر
من الخوضه الى بصاير
گام صــاعد ع المنايـــر
هـاذي كلهــا معجــزات

وله في المدائح النبوية (الأذكار) أكثر من قصيدة كانت تنشد في حلقات الذكر في تكية السيد الحلاب، وفي غيرها من التكايا. ومنها قصيدة في عام 1942:
اصبــر لحكــم الواحـد الديـاني
الله عظيــم الشــأن مـاله ثانـي
اصبر لحكمه واشـتغل بالطاعـه
والروح عنــدك يا فقـير وداعــه
ولوذ بمحمــد في قيام الســاعة
حاضر أبـو القاسـم على الميزان

يقول في قصيدة أخرى وفي العام نفسه:
يا حيــدر الكرار أريــد أناخـكم
ما خاب كلمن يحتمي بحماكم
رجواي بالمحشر هناك الكاكم
يا آل احمـد انتو صيروا ظلالي

ومن غزلياته:
بنفسي قرينه مثقفه وحبــوبه
بلجي بأمر الله إلـى مكتــوبـه
قـادر يا ربــي تكــدر تسـويها
تغير فكـرها لعبـدك تخليـهـا
أنــذر نـذر يـوم الإلي تهديهـا
ليل ونهار اسجد وصيح التوبه
***
حلــوه الگصايــب نازلـه لحزامـه
يشتعل خدها والوسـط بيه شامه
لا خطــت ورده امشـكله بالهامـه
تسبي الخلگ فوگ الشعر مذبوبه
***
تذبح جميع الشاف طولـه ولونـه
الثـغر حلقـه ولظـم ليلو سـنونـه
عليـك لــو دحگ فشگ بعيــونـه
خوف وخطر كل من يمر بصوبـه

وأخيراً، لم تَطرح هذه المادة مسألة دراسة العلاقة بين الفصحى والعامية كهدف لها هنا، لأنها مسألة تتجاوز الأهداف الملقاة على الموضوع قيد الدراسة. لكن تلك المسألة تستحق بذل عناية فائقة وحذرة بصددها. وعليه لا بأس من بعض الإشارات، نقول: كلما تقدم التعليم وتقدمت الأمم تقلصت المسافة بين الفصحى والعامية. لا ينبغي الميل الى تعميم الفصحى أن يشل دور العامية في خلق وعي إجتماعي جديد أكثر تطوراً وإنسانية في الظروف الملموسة. عدم محاربة الفصحى تحت طائلة صعوبة القواعد. أظهرت تجارب مدرسية إمكانية توليد لغة سليمة، لا يشوبها أي خطأ لغوي، من خلال التعليم السليم بالفصحى دون اللجوء الى القواعد النحوية في البدء.

يتبع …

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com