مقالات

فالين؟ لوين؟ ارجعوا… «تيتا ماري» جدة لبنان تعزف لكم فوق ركام بيتها المحطم.

شبكة بيدر .

فالين؟ لوين؟ ارجعوا… «تيتا ماري» جدة لبنان تعزف لكم فوق ركام بيتها المحطم

مريم مشتاو

 

فالين؟ لوين؟ ارجعوا!
انتشرت صورة صادمة ومؤثرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وعرضتها أيضاً الفضائيات العربية، لعدد مخيف من أبناء وطننا المنكوب في قاعة المغادرة في مطار رفيق الحريري في بيروت.
خلص فالين؟
ولكن كيف ترحلون وهناك شباب في وسط بيروت في منطقة «الكارنتينا يبنون» بأياديهم البيوت. يعيدون الشبابيك إلى أماكنها ويسندون الأبواب بأذرعهم القوية؟
انظروا خلفكم، سترون بنات الوطن يعملن جنباً الى جنب. يساعدن بعضهن البعض، دون تذمر أو شكوى ويعملن ليل نهار في غياب السلطات. ينخلن التراب. ينخلن ذكرى أربعة أغسطس/آب ليسقطن الألم ويصبح التراب جاهزاً ليرفعه الشباب فوق أكتافهم.
هكذا ترتفع يومياً تلك المباني المنحنية ويرتفع معها شجر الأرز مستعيداً اخضراره.
هكذا تخرج الطيور المحروقة من حضن الموت بأجنحة بيضاء تفرشها في فضاء المدينة. علها تتخلص من دخان الانفجار الأسود، الذي لبسته منذ أكثر من أسبوع بفعل انفجار تسبب به إهمال المسؤولين وإجرامهم.
فالين؟ لوين ارجعوا!
ألا تخجلون من عيني الطفل جورج، الذي ولد على أضواء الهواتف بعد الانفجار في مستشفى مدمر بالكامل. طفل ولد من قلب الموت. ولد كي يمنحنا أملاً وعزيمة. كي يخبرنا بأن بيروت لا تهزم. ترحلون؟ ماذا ستقولون له حين يكبر؟
فالين؟ ارجعوا!
ألم تسمعوا أن هناك عرساً أكملت مراسم زفافه بعد تحطم الكنيسة، ورغم أنف الركام والدماء والجروح المفتوحة؟
لقد لوثت الدماء ثوب عروسه الأبيض، ولكنها مسكت بيده وأكملا طريقهما صوب المذبح المحطم. هناك فوق الركام توج حبهما بإكليل من ورد.
فالين؟ معقول فالين؟
كيف ترحلون؟ ألم تشاهدوا صورة كارين حتى كرم وهي تسند تابوت زوجها حيناً وتابوت أخيها حيناً آخر وبعدها تهرول لتضم تابوت ابن عمها. لقد تمكنت من المشي رغم انكسارها. ترحلون؟ لم يبق لها سواكم. أنتم وحدكم ستعيدون زرع أرضها وزرقة سمائها.
فالين؟ كيف؟ ولو؟
أنسيتم ذلك العجوز، الذي كان لشدة فقره ينام في الشارع وبعد الانفجار راح الشارع وتركه وحيداً ينتظر استعادة خطواته القديمة.
لا لن تذهبوا. معاً سنعيد له ظلال الأشجار ونوقظ العصافير المتعبة ونغرد لها فترفرف حوله من جديد. سنعيد له رائحة الكعك في الشوارع وصوت البائعين وهم يقدمون له بعضاً من فاكهتهم المتمددة فوق العربات.
لا ما رح تفلوا!
هناك عريس ماتت عروسه قبل حفل العرس. لكنه تزوجها بعد موتها ورقص مع التابوت وعلق محبسها برقبته. قرر أن يكمل المشوار رغم الألم.
كيف ستتركوه وحيداً. كيف؟
لا. لن تذهبوا. وسيورق عريسنا بفعل الحب كل يوم من جديد ويزيد إخضراره اخضراراً. لقد احتمل التحام لحظات الموت والحب. حبست سماء المدينة دموعه حتى تعود غيومها شفافة كما نعرفها.
لا. لن نخذله.
فالين؟ لوين؟ ارجعوا!
الطفلة يارا السعيد عمرها ست سنوات. أصيبت يوم الانفجار وترك الزجاج على وجهها خرائط من دماء. خافت كثيراً يومها.
ولكنها ما زالت تحلم بوطن يسعنا جميعاً.
وتيتا «ماري» جدة لبنان. تدمر بيتها بالكامل. ولكنها جلست فوق الركام تعزف على البيانو بهدوء أرعب الموت. وعزيمة أخافت الخراب. لقد ارتقت أناملها بالوجود. عزفت لتؤكد لنا أن الحياة تستمر. وأن الأنغام لن تتوقف، رغم أنف الطغاة. أصابع الضوء أنارت قناديل المدينة. لا تطفئوها وترحلوا.
لوين فالين؟
لقد رحلنا قبلكم وتركت الهجرة في قلوبنا نفقاً من الأوجاع يمتد حتى مرفأ بيروت. رحلنا قبلكم ولكننا نمطر بشدة كل صباح حين يتسلل صوت فيروز إلى أعماقنا. ويهدنا الحنين حين نشم رائحة القهوة في أحد المقاهي العربية في مدينة غريبة.
وماذا نخبركم عن تجاعيد وجوه أمهاتنا التي حفرها الغياب بعمق كي يجرحنا. وعن أياديهن المتشبثة بخيوط نسائم بعيدة.
أنخبركم عن ليل حزين يلفنا بشاله الحريري الطويل وينده باستمرار قمر بيروت كي يسكب ما تبقى من نوره في قناديلنا المنسية.
عن ذلك النداء البعيد الذي نسمعه كل صباح. نداء التراب الرطب من قرانا القديمة.
عن صدى صلوات ضائعة تعلو من المدى البعيد:
بيروت بيروت لا تتركينا.
كي لا يتركنا الرب. لا ترحلوا وسنعود.
إن بيروت تندهنا!

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com