مقالات

زفزفات الفانتازيا و ألوان زخارفها في اشعار مظفر النواب..

هيئة التحرير .

 جاسم المطير

(موقع الناس)

الدكتور حسين شعبان كاتب خطّاف..

أول مرة في حياتي أحسّ أننّي مختطف . نعم مختطف بمعنى انني شعرت بالاستلاب السريع. لكن الخطف هنا ، لم يكن خطفاً ،كما عرّف معناه المباشر ، الأخفش الأكبر ، أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد . نحوي عربي ولد بالبحرين و سكن البصرة و توفي فيها عام 793..م . انما كان ، هذا المعنى نوعاً من الاستلاب الجذاب اكتشفته ، بنفسي، حين كنت اقرأ مقالة فيسبوكية ، كانت بالأساس محاضرة خطتها ذاكرة الأخ الصديق الدكتور حسين شعبان بيراعٍ ذهبيٍ خاص ، بمناسبة خطّة ذات علامة كردية – عربية تحت رعاية منظمة كلاويز الكردية ، احتفاءً بشاعرٍ لا أحد يدري هل هو مملوك لمدرسة لهجوية بصراوية ام كوفية ، بينما هو مملوك ، أصلاً ، لتهذيب لغوي – لهجوي ، كرخي – بغدادي أو كرخي – كظماوي. هذا المُكرّم ، المقصود، اسمه مظفر النواب ، اسم شائع بكل مدن وأرياف العراق ، بما في ذلك مدن وأرياف إقليم كردستان .

أهناك مَنْ يستحق لقب : مجدد الشعر الشعبي أو لقب الصوت الشاعري الفصيح ، متشامخاً بإرادةِ الجماهير الشعبية و ليس بسيوفِ الأنظمة العربية ..؟

هل هناك غير مظفر النواب من مثّل صوت الغضب العربي بجانب بعض شعراء جيله ، بوجه اعدائه من كل حدبٍ و نوعٍ ، مستحملاً عذاباً واقعاً على عاتق الفقراء من حافظي اشعاره ومن المتمردين على أعداءِ الفقراء ، بالرغم من معاناته مرضاً خطيراً شاملاً ، من أخمص قدمهِ حتى قمة رأسه ..؟

هل هناك شعرٌ عادلٌ يفرح به الناس أكثر من شعر مظفر النواب..؟

مهما تسامت نجوم الشعر العراقي يظلّ مظفر النواب في أعالي السماء الشعري ، مهما تكاثفتْ الغيوم ومهما تفحّم لغو البعض من المتهكمين و الأعداء غير الصالحين .

يظل شعر مظفر النواب ، كما في كلام واحدة من أغنيات المغنية العظيمة فيروز شايف البحر شو كبير .. شايف السما شو بعيدة ..! نعم يظل شعر مظفر النواب اكبر من البحر و ابعد من السماء .

كل ما تقدّم من إشاراتٍ و سؤالاتٍ أجاب عليها الدكتور شعبان بمقالةٍ واحدةٍ.

ما ابدع التناغم بين الكلمات يحقق بها هذا الباحث عن ابتهال الإجابة على كل ما يتحرّك في دواخل عراقييْن عن أبنٍ وهبوه للنضال الشعبي ، اسمه مظفر النواب ، صنع أشياءً شعريةً ، شعبيةً .

طيبة كلماتها ، غزيرة معانيها ، كلها ، متوازنة أبياتها بقصيدة الريل و حمد ، ثم استجاب فيها لنداء بلاء من أعماق ام شامات و هيلها و قهوتها .

كنتُ سعيداً الى الحد الأقصى بقراءة (كل شيء) عن مظفر النواب موجود بدارة مقالة واحدة. المقالة خطها كاتبها واختطها بنهج معرفي اجتاز فيه حالات التقدير الثقافي ، الراقي. . اول مرة اقرأ مقالة كنت فيها مسرعاً ، مسيطراً . فقرة تجرّني الى فقرة اخرى من دون توقف او تعب. بل كنت التقط المعلومة عن الشاعر مظفر النواب ، كما لو كنتُ ألتقط حصى ذهبية من شاطيء بحر هاديء ، بالرغم ان اطار المعلومات المقدمة بهذه المقالة مدوناً مرسوماً بذهني او كانت قد احتلت منزلتها المفخمة في قلبي.

لا أتردد في الشهادة بالقول ان ما كتبه الدكتور حسين شعبان كان مكرمةً من مكارمه بحفلِ تكريم مظفر النواب في شهر شباط ، من سنة عشرين عشرين ، بمدينة السليمانية .

هي مقالة فضلى، تجد طريقها ، مخطوطاً، معلوماً ، في قلب كل قارئ عراقي لا يستطيع ان يعرف او يحزر صعوبة ظروف معيشة مواطن عراقي آخر . مثلما لم يكن الشعب الألماني ، كله، يعرف كيف كان يعيش المواطن كارل ماركس في غربته الباريسية او البلجيكية او اللندنية و هو قد انجز تأليف كتابٍ خطيرٍ عن الاقتصاد السياسي بادئاً بكتابة المؤلف الثوري – العلمي (رأس المال) الذي يخيف الطبقة البورجوازية ، كلها .. حتى اليوم ، لا يعرف الالمان كيف كانت تعيش زوجة كارل ماركس في منفاها .

الفرق شاسع بين النشاط الشعري لمظفر النواب و النشاط السياسي لكارل ماركس بهدف تطبيق (البيان الشيوعي) .. لكن النشاطين ثوريان يرعبان طبقة استغلالية من نفس النوع و لو ببلدين مختلفين أضاءت مقالة الدكتور شعبان الكثير من جوانب حياة مظفر النواب. كانت مقالة تضربُ بأخفافها ضرباً شديداً بقصد تنبيهي الى صلب ما يبتغيه كاتبها ، شاعر الشباب وشاعر الحب المضيع في قرية ام شامات بين قطار الليل و دك القهوة و طحنها.

ترى .. اي اُسلوب اهتز به قلم الدكتور حسين شعبان آمراً إياه ، بالإبداع. لا شك انه بحالات اقصى الأبداع ، في كل مرة كتب فيها متوجهاً الى قلوب القرّاء . لكن ما كتبه هذه المرة ، داخل سطور مقالته و ليس بينها ، كما هي عادة من يعتمد على القول: (في ما بين السطور) . كانت خبطة مقالته جارفة جعلت ظلام نهارات الزمن المريض المحيط بسرير مظفر النواب من نوع خطير الذكر و الذاكرة اسمه ( داء باركنسون). ما اصدره الدكتور حسين كان لبناً رائباً ، ً تماماً ، عن كل ذكرى من ذكريات حياة الشاعر مظفر النواب، خاصة حين انقطع لنفسه و للشعر الشعبي بقصد تجديده في خبّاطة قصيدة عنوانها (للريل و حمد) .

لو أعطاني أي واحدٍ من قرّاء مقالات الدكتور حسين شعبان حقّ القول برأيي عن إنشائيةٍ نوعيةٍ متميزة ، عن أسلوبيةٍ كتابيةٍ، لا تتزحزحْ عن قلمهِ ولا تبتعد عن عدل منطقه المرتقب ، إلاّ في حالة عدم الضرورة ، كما في حالة عدم مسايرته لبعض الأوضاع و الأفكار السائدة غير المنصفة. يسمو بموضوعاتهِ الى قناعتهِ الذاتية و الى تقييمه الفكري الخاص، حين يريد او يقرر لصوته ان يكون بجانب صوت جميع المتضايقين من زمان الضيق ، فإنني سأقول ،حتماً ، كلماتٍ ليست تقليديةً عن أوصافِ طيباتِ كتاباتهِ ، مهما كان تنوّعها. انه يفطن، دائماً، الى أية مبادرة ، شهمة، جريئة، تـأتي إليه من آخرين ، مما يدل على صفةِ تواضعِ الجيل الحالي أمام الجيل القادم . هكذا يتم تكييف صفحة مهمة من صفحات التاريخ العراقي بقلمٍ شعباني ٍ ، بقلمٍ حق و عدل .

ربما هذا النهج الذي يتأدّب، عليه ، الكثير من الكتـّاب، الشباب، على إرادةٍ إبداعية يحققها الدكتور شعبان في اغلب كتاباته سأكون القارئ الوحيد، الذي يرى فيها الاعتماد الكلي على صفرة و حمرة و خضرة الطريقة الإخراجية السينمائية ، المعتمدة من قبله في التعبير عن رأيه و أفكاره داخل سطور المقالات و الأبحاث . ليس هو من اولئك المخرجين ، التقليديين ، المتعجبين من لون و رائحة الزعفران حين يتم خلطه مع التمّن ، من عنبر الشامية . بالتأكيد هناك وصف مختلف عند المخرج السينمائي و طريقته الخاصة في تليين الصخر و جعله قادراً على ان يستوي ببصيرة مختلفة بنسبة ١٠٠٪ .. أقول ان حريتي في تقييم عالم الحرية الكتابية، الذي ينهض فيه الصديق الدكتور حسين شعبان يقوم عنده على (قوةٍ محددةٍ) و على (فعلٍ مستجدٍ) يمتلكهما عقله الفياض بمختلف الأفكار التقدمية ، معتمداً على (القوة) و على (الفعل) بطريقة الإخراج السينمائي ، في جميع أساليبهِ الكتابيةِ، الحرة. انها سليلة الأساليب السينمائية في صنع جوهر موضوعاته الفكرية الغنية بالمعاني الإنسانية السامية، بأساليب فيها نوع من الاثارة و التشويق .

هذه الرؤية يمكن تلمسها بوضوح ، ليس لدى كل خليقٍ في الإخراج السينمائي ، انما نجدها في الخليق الأرقى و حسب. بمعنى ان الدكتور شعبان لا يمتلك اسلوباً في الكتابة يشبه (كل) عمليات المخرجين السينمائيين . هنا اعلن ، بوضوح، ان أسلوبه الكتابي يشبه الأسلوب الإخراجي لأعاظم المخرجين السينمائيين من امثال رواد السينما السوفييتية و اليابانية و غيرهم ممن يقاسون مرارة الابداع الحقيقي .

قد تبدو غريبة نوعا ما ، فكرة تحوّل الكاتب الموسوعي، النشيط ، الدكتور حسين شعبان من اعتمادهِ على الأساليب الاكاديمية في كتاباته الراهنة عن مشكلات فكرية – تاريخية – اجتماعية – سياسية وغيرها من مختلف الاهتمامات، الى العمل في محورٍ يستند الى أسلوبٍ سينمائي مباشر . لا اقصد افادته من جميع المهن السينمائية ، إنما استعار احد ألقاب العمل السينمائي و أهمها ، (الإخراج السينمائي) . ان عضوية الدكتور حسين في نقابة السينما العالمية واضحة ،تماماً ، في الخماسية السينمائية ، التي اعتمدها اهم قادة و منظري السينما السوفييتية منذ أول قيام الدولة السوفييتية.

كتابات الدكتور حسين تتابع و تغذّي و تطوّر نفسها من خلال اعتمادها على العملية السينمائية الخماسية ، التي صاغ مبادئ فاعليتها ، المخرج السوفييتي (فسفولود بودوفكين) عام 1928 . ربما هو ليس عارفاً بهذا الاعتماد، لكنه بكل الأحوال ، انتهج نفس الأسلوب ، بكتابة مقالته . كان أسلوبه مشقّة إضافية لأنه موقنٌ أن أهم مميزات الحرية بالكتابة ينبغي لها ان تمرّ بالدروب البودوفكينية الآتية :

١- الدقة المعلوماتية .
٢- التفاصيل المعلوماتية.
3- الاتجاه نحو تبسيط الشخصيات العملية .
٤- التركيز على الحقائق الدرامية الخالصة .
٥- اختراع معاني المعلوماتية بواسطة العين السينمائية .

هذه الخماسية تتغلّب لقطاتها الفيلمية من حيث اللغة و الرؤية ، السكون و الحركة ، الارتباط و السيطرة ، بجميع او اغلب المقالات و الأبحاث الشعبانية . يكتب خاطرة عن قضية يومية او بحثاً عن فكرةٍ فلسفيةٍ يونانيةٍ، تراها بنفس أساليب التحاجج و الحوار و النقد و المظهر ، بنفس نظائرها السينمائية، مستهدفاً جرّ القرّاء الى التركيز على نقطة اختراع او اكتشاف او إظهار (المعلوماتية). حين اراد الكتابة عن الشاعر مظفر النواب ذهب الى غابته ليحفر فيها باحثاً عن اسرارها. هيمن بسرعة على الطبيعة الشعرية المظفرية ليضع أوراق أشجارها العالية او المطمورة بطينِ ارضهِا تحت نظر و بصيرة الأجيال الشعرية الجديدة و القادمة ، العارفة بشيء او اشياء عن شاعرية هذا الشاعر العراقي و تسرمد هيمنته على الشعر الشعبي العراقي في مرتبة من المراتب و محاولاته الصعود الى هيمالايا الشعر الفصيح للاصطفاف ، متحيزاً ، الى جانب الجواهري و البياتي و السياب و بلند الحيدري و نازك الملائكة . ان عيني الدكتور حسين هي واحدة من العيون السينمائية القليلة القادرة ، بحق، على منح مدوّنة العدالة الشعرية للشاعر المريض ، مظفر النواب.

في جميع صفحات المقالة ، نجد الدكتور حسين يخترع خماسية اسلوبية ، شعبانية ، خاصة و خالصة ، لإظهار طاقته الداعمة للوجود المظفري – الشعري . أقام هذه الطاقة على أسس الاطارات التالية :

اولاً : البحث المستفيض عن منظومة الشعر الشعبي و حدود تجديده ، المتوفرة في داخل القصائد المظفرية .

ثانياً:،حماية أصول الميراث الشعري المميز في قصائد مظفر النواب.

ثالثاً: تحديد احجام المترسّخ الشعري في اجيالِ ما بعد قصيدة الريل و حمد و في احتمالات عيون الأجيال الشعرية القادمة.

رابعاً: تحديد نوع و مستوى الجماهير ، التي ينبغي ان يصل اليها الشاعر .

خامساً: السعي البصري ، المتعددة التراكيب، لأساليب العين الشعرية .

لم يعسر جهد الدكتور في اندماج خماسيته الأسلوبية في الكتابة و البحث ، داخل امتياز و صيغة خماسية العين السينمائية الإخراجية ، وقد تمكن بقلمهِ العضوي الجدلي ، ان يجعل جميع قراء مقالته في حالة من الوعي الثوري الاعلى في طريقة التفكير الشعري المظفري .

الشيء المركزي في التعامل بين مظفر النواب الشاعر و الدكتور حسين شعبان الناظر الى العقل الشعري بعينين استثنائيتين . بعينين مرتبتين على فهم المغزى التفسيري للنضال الشعري الحامل للقضايا الاجتماعية بعيونٍ مشتركةٍ ، مظفريةٍ + شعبانيةٍ + جماهيريةٍ .

هنا يرتقي الدكتور شعبان الى ذرى هيمالايا الشعر الشعبي بفاركَونٍ واحدٍ من فاركَونات مجرورة أو مندفعة بقطارِ ليلِ الوقائع العراقية ، العاطفية ، الاجتماعية و الشخصية في القصائد الشعبية ، المظفرية .

لن يجازف اي حزب من الأحزاب الوطنية و لا يخاطر أي تجمع من التجمعات الأدبية من خطر الوقوع في حالة من التواكل على الفراغ أو في حالةٍ من العزلة او في وضعٍ خطيرٍ من أفقٍ ضيقٍ اذا ما ساندوا الجهد الشعباني – العلمي و امثاله في ان تكون النخبة الشعرية – الشعبية ، نخبة حسنة التنظيم في إلتماس مركزية تطوير الشعر الشعبي العراقي في مجهود مظفر النواب بدءاً بقصيدة (للريل و حمد). بل انني عهدتُ علّو روح المواطنية العراقية و روح الجماهير الشعبية من نصيب النخبوية – الشعرية – من أجل هذا ، كله، حاولتْ جياد السلطات العراقية المتعاقبة أن تقلب عربات شعره ذات العجلات الحمراء الثائرة وذات العبق الفوّاح من خبز الفلاحين.

اكتفى هذا الشاعر في كل لحظةٍ من حياته المذهلة ،البالغة حتى الآن 86 عاماً، بأن يتشارك ضميره الماركسي مع أبناء الشعب في حبهم وغضبهم، في بؤسهم وبهجتهم، من دون أن يغتبط بربيع الحياة وظلال الحياة المريحة ، الوارفة، المترعة، وهو ابن عائلة بورجوازية ثرية، لكنه بقيَ متشابكاً مع ارتعاش أرض الفقراء والكادحين ، مداوماً على مواصلةِ إبداعِ كمالهِ الشعري داخل العواصف النضالية وخارجها، متحملاً أمواجها من دون ألمِ رياحها وقسوة غبارها فقد ظل قلبه مرتبطاً بالفقراء من الشعب ، ممّن ظلوا هاتفين باسمه عن الريل وحمد، وعن موت العصافير ، وعن الضابط الشهيد في مصر ، وعن القدس عروسة العرب والمسلمين ، وعن سعود وعن منجل صويحب و عن البراءة ، وعن كل الأحزان والحروب وصفير الطلقات حتى غدا اليوم شاعراً وحيداً في عمقِ انتمائهِ الشعبي حيث يجد ان نور الشعر الشعبي خير من كل ظلمة و ظلام .

تحوّلتْ ذاته النجيبة إلى مجردِ صمتٍ على فراشِ المرض بعد أن كان فارساً شعرياً يضرب بسيف الهجاء كل جمهوريات وممالك البؤس والقمع والجوع والشقاء في أرض العرب على صهوة جواد قصائده الجوّالة ، يهجو في أبياتها المضيئة ، بجرأة ، كل الحكام العرب ..

استطاع الدكتور ان يخوض بين التخوم الكبرى و الصغرى ، بين الجبال الكردستانية و الأنهار الجنوبية ، لمعرفةِ كل تغييرٍ في حياة الناس و كل تبدّلٍ بمستوى حياتهم . وقف الدكتور حسين بجانب شريكه في كتابة الحروف و نشرها بين الناس وقد وجد ثمة خارطة واحدة تتحرك عليها جميع الحروف المظفرية . انها خارطة العدالة الاجتماعية ، المحمولة من قوى اليسار العراقي، الممتدة جذوره ،عميقاً ، في اشعار مظفر النواب و في أبحاث حسين شعبان . صحيحٌ ان جميع تلك الجذور مسيّسة، لكنها كانت و ما زالت موئلاً كبيراً لنمو اشعار النضال في قصائد الشاعر مظفر النواب .

قصائده ، جميعها، مع أبحاث حسين شعبان ، تملك القدرة على اختبار احياء الفقراء في المدن و الارياف العراقية، لمدى قياس الحب بين القصيدة و قلوب الناس .

الشيء الذي يجيبنا حول هذه المسالة هو (التحديق المركزي) من جانبي في المقالة الشعبانية المذكورة . لأنها استندتْ الى الأساس الثوري في تفكيك القصيدة الشعرية المظفرية و تفكيك القدرة التخيلية – السريالية – الواقعية ، في قصيدة الريل و حمد و غيرها من الأشعار الحميمية ذات القيم الثورية ، التي تدركها حساسيات الأشعار المظفرية بنفس حساسيات فريدريك انجلز عن الأيديولوجيا الماركسية . بالرغم من ان جميع اشكال الحرية مطلوب فوح شذاها بكل جانب و صوب في وطننا. هذا هو جوهر النظرة السينمائية عند الدكتور حسين شعبان ، التي تمتلك قدرة تحريضية هائلة على التعبئة الشعبية من خلال انطلاق القصيدة الشعرية المظفرية ، خاصة اذا ما عرفنا ان طريقة الكتابة بأساليب مخرج سينمائي جعلتْ المقالة المذكورة ، تحمل نضجاً حسّاساً يظهر جميع حسّاسيات القصيدة المظفرية الناضجة .

حلّق الدكتور حسين شعبان في الحديث عن الشاعر مظفر النواب بادئاً بعلامةٍ تذكاريةٍ عن انقلابٍ عسكريٍ قام به البعثيون ، ثانية ، في تموز عام ١٩٦٨ من دون إسقاط ذكرى هروب مظفر النواب و أصحابه من نفق سجن الحلة . حيث بدأ الدهر السينمائي بالأسلوب الشعباني . كان لقاءاً ، علنياً ، بين الشاعر الهارب من السجن والشيوعي حسين شعبان ، المستعد الى الانضمام لقائمة أسماء الهاربين . ثم جاء في ميسور ذاكرة الباحث ، التطرق الى سفرة طلابية لإنقاذ (سعدون الهاشمي) من سدة الهندية الى بغداد ، كما جاء في مقالةٍ شعبانيةٍ أخرى عن قضية مدير البنك المركزي السابق سنان محمد رضا الشبيبي. ثم انتقل الحديث الى اللقاء الثاني بين مظفر النواب و حسين شعبان في براغ عام ١٩٧٠ ثم اللقاءات بينهما في دمشق.

في أعوام التسعينات يدرك الاثنان شرف اللقاء في لندن و بصحبته ميسون الدملوجي و سعدي الحديثي. كانت مخامر أحاديثهم ، كلها او اغلبها ، عن الهموم الشعبية العراقية و عما يدور في بيوت المواطنين من غدرٍ حكوميٍ و ذلٍ و هوانٍ حين يختلي البوليس البعثي بالمناضلين في المعتقلات و السجون و نزول عذابٍ فاشي على الشيوعيين العراقيين، لم ينزل من قبل ، لا في معسكرات فاشية إيطالية، موسولونية و لا في معسكرات نازية هتلرية .

تتواصل العين السينمائية ، عين الباحث العلمي ، عين الدكتور حسين شعبان، في تفاصيل الأحاديث عن مواضع الحركة المظفرية بين دمشق و ليبيا و عن رحلةٍ نضاليةٍ ، طويلة، خالية من ركوبٍ فرسٍ، لكنها خالية من لجامٍ رفضه الشاعر النواب و سيظل يرفضه الى الأبد ، حتى يظل سخطه الشاعري، صارخاً بحدّةٍ، ضدّ كل شكلٍ من اشكال النزعات البوليسية في الأنظمة العربية المعادية لشعوبها.

مارس الدكتور شعبان (القطع السينمائي) في مشهدٍ من مشاهد عروضه مع الشاعر ، ثم سرعان ما يعود الى القدر التسلسلي، بمقالتهِ، ليعيد مَنْتَجته بمزيدٍ من حكايات العز و المنعة و معتمراتها مع مظفر النواب ، بالحديث عن المرض اللعين ، المتمكن من اجبار الشاعر على إيقاف صبوحات شعره . الباركنسون هو الداء الذي أخلى اللقاءات مع الشاعر مظفر النواب من إلقاء الشعر الشعبي و الفصيح . صار الصوت في أزمة .

لا ينبغي نسيان حقيقة ان مقالة الدكتور حسين شعبان لا تتذهّن ، عمداً، توجهاً سينمائياً ، لا يقبل التجزئة ، جاءت به ذكرياته . في الحق و الحقيقة اجد نفسي مضطراً الى القول بان رؤية الدكتور شعبان قد حملتْ مأثرة عظيمة . المأثرة هذه ساهمت في تنمية المؤشرات الإجمالية عن الدور الشعري التراكمي، الذي انجزه الشاعر العراقي مظفر النواب في الحركة الشعرية – الأدبية العراقية . ان جوهر القدرة الإبداعية – الانسانية جعلتْ احترام و حماية حقوق الشاعر مظفر النواب هي جزء من احترام و حماية حق الحياة لكل الأنواع الانسانية ، في كل زمان و مكان .

ذلك هو جوهر ما تعمّد الدكتور حسين شعبان من إيضاحه في مقالته النموذجية . برهن فيها ان شجرة الشعر الشعبي ما زالت تختزن معظم طاقتها في الشجرة المظفرية و في فروعها وأوراقها و جذورها و أغصانها ، مهما حاولت المدارس الشعرية الاخرى في التضييق على المركزية المظفرية و حجبها عن مواصلة دورها في مواصلة التنوع الشعري .

ربما فتحتُ مخزونات رؤية الباحث الدكتور حسين شعبان و ربما صعدتُ على سلّم مرتبك او انني دخلتُ رواقاً لا يعجب صاحبي الدخول إليه ، لكنني استطيع جزم قولي انه قد احرز نجاحاً كبيراً في استخدام عينٍ سينمائيةٍ ، مركزيةٍ، تمكّن بها من النفاذ ، بمقالةٍ واحدةٍ ، الى سيرة حياة الشاعر العراقي ، مظفر النواب.

اقول : ان هذه العين لم تكن واسعة فحسب ،

كانت عيناً ثورية ،

كانت عيناً سينمائية ، حقاً،

بل كانت عيناً اخوية مليئة بالصدق و المحبة.

بهذه العين توصّل الى ان ارادة الشاعر الشعبي مظفر النواب و خياله الشعري و مخاوفه الوطنية هي جزء من خيال و ارادة و مخاوف الشعب العراقي ، بجميع طبقاته الاجتماعية .

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com