مقالات

أثر الإحتلال النازي في تغيير تصرفات الناس في مسرحية ليونيد ليونوف “الغزو”

المسرحيات التي ظهرت في بداية الحرب العالمية الثانية والتي كُتِبَت وفق موجة أجواء ما فبل الحرب كانت بعيدة عن الوضع المأساوي للأشهر الأولى للحر ,. فقد تطَلَّب وقتاً لكي يتمكن الفنانون من إدراك ما يسمو بروح الشعب المقاتل ويرفع معنوياته من جديد ويكشف ما يجري على الجبهة وفي الخلفيّات و إن الإنعطافة الكبيرة في المسرح تمت في عام 1942 عندما كتب ليونيد ليونوف أفضل مسرحيات الحرب، وإن لم تكن الأشهر، مسرحية “الغزو” ، ومن ثم مسرحية “ليونيتشكا” في عام 1943.

لم تبتعد حبكة المسرحيتين عن الأنماط المألوفة في المسرح السوفيتي في سنوات الحرب، لكن أبطال مسرحيات ليونوف تميزوا بصفات فردية محددة واختلفوا في خطابهم وتصرفاتهم , لكن “ليونوف” للأسف لم يكن قادراً على الكتابة بحرية مطلقة بشكل يُظهر إبداعه ومهارته وبراعته كلها، إذ ان الأدب كان موجهاً ومُأَدلجاً من قبل السلطة السوفيتية.

تجري أحداث مسرحية “الغزو” في مدينة ريفية روسية , يمثّل الصراع في المسرحية مقارنة بين “ظاهرتين” : عائلة آل تالانوف والفاشيين الذين يقف الى جانبهم فايونين وموسالسكي  اللذان يطلق عليهما الكاتب تسمية “الذين كانوا مواطنين روسيين” , وقد نوّه المؤلف في توضيحه فكرة المسرحية  : “عرفنا شعبنا بصورة جيدة وأدركنا عظمته”.

تتجلى هذه العظمة  في الضربات الموجعة للعدو على أيدي سرية الأنصار ( المقاومة ) التي يقودها كولوسنيكوف وفي شهامة بروكوفي “الجندي الروسي إبن الثلاثة عشر ربيعاً” وجدِّه  ستاتنوف الفلاح العجوز المستهزئين بالموت، وبسالة  “الصبي ذي المعطف العسكري” الذي جاء بصورة غير متوقعة مع رفاقه الى المدينة بصفة محررين .

تتجلى العظمة الأخلاقية والسمو الروحي في سلوك الطبيب الروسي العجوز إيفان تالانوف وبتضحية آننا تالانوفا وبشجاعة وتفاني بنتهما التي تتطلع بوجه الموت بلا وجل ولا خوف , يتكامل الصراع الخارجي في المسرحية بالصراع الداخلي المرتبط بالمصير المأساوي لفيودور تالانوف العائد الى بلدته من المنفى عشية “الغزو المرعب” وكانت عودته من معسكر الإعتقال غير متوقعة للجميع إذ انها تصادفت مع غزو الألمان للمدينة , ورافق المحتلين الألمان التاجر فايولين مالك البيت السابق الذي تسكنه عائلة تالانوف الذي سرعان ما أصبح  عمدة المدينة.

يزداد توتر الأحداث من مشهد الى آخر، فالمثقف الروسي الشريف الطبيب تالانوف لا يرى معنى لحياته بمعزل عن المدافعين عن البلاد , تقف الى جانبه زوجته آننا بافلوفنا وابنته أولغا , ولا يمكن لكاتب سوفيتي آنذاك أن يتناسى دور رئيس المجلس البلدي للمدينة (كوليسنيكوف) فهو يترأس سرية الأنصار (المقاومة) .

هذه الشخصيات تمثل أساس المسرحية، لكن ليونوف وهو الأستاذ الماهر  في التصادمات الدرامية العميقة والمعقدة لا يكتفي بهذا المنهج فقط بل يُقحم في المسرحية شخصية أخرى – الإبن فيودور تالانوف – معمِّقاً بذلك الإتجاه السيكولوجي فيها.

يبدو قدر فيودور معقداً ومتشابكاً , فهو أناني ومدلل في طفولته , يعود الى منزل والده بعد أن يقضي في السجن ثلاث سنوات لمحاولته قتل حبيبته , فيودور متجهم بارد المشاعر شديد الحرص لا يهمه مصير البلاد , ويعذبه فقدان ثقة الآخرين به لهذا لا يشعر بالراحة في حياته  ويعاني من الوحدة والألم الروحي , ويزيد حياته أسى رفض كوليسنيكوف قبول فيودور في سريته , وهنا يستوعب القارئ والمتفرج قساوة أقارب فيودور وتجهمهم في وجهه كونه مطرود من المجتمع لكنه يعود لكي يقاتل الأعداء.

إذ يتعاطف فيودور مع أنيسكا الطفلة القروية التي ذهبت ضحية للفاشيين ويثأر لها ويقوم بقتل الزعيم الهتلري فيبيل , وينقذ حياة القائد الميداني المحلي للأنصار كوليسنيكوف بعد أن يقع في قبضة المحتلين الألمان ويقول لهم انه هو القائد الميداني لينقذ كوليسنيكوف من الموت المحتوم مضحياً بذلك بنفسه , هنا يصور ليونوف بشكل مقنع العودة السيكولوجية النفسية لفيودور الى ناسه و أهله.

تكشف المسرحية أن الحرب مأساة لعامة الشعب، معاناتها تدفع الناس الى الكره والتعطش للإنتقام والإستعداد للتضحية بالنفس من أجل تحقيق النصر , هكذا نرى فيودور في نهاية المسرحية.

يتضح من خلال مسرحية “الغزو” ان ليونوف لا يركز اهتمامه فقط على شخصية البطل بل يهتم اكثر بالطبيعة البشرية بكل تعقيداتها وتناقضات شخصياتها الإجتماعية والقومية والأخلاقية والنفسية , فهو فنان يعرف كيف يزاوج في وقت واحد بين القتال في الجبهة ضد المحتلين والمعاناة والمشاعر الإنسانية الفردية , واستعمل الكاتب هذا الإسلوب حتى في تصويره نماذج الشخصيات السلبية “المتعاونة مع الإحتلال النازي فايونين وكوكوريشكين اللذان بدلا تصرفاتهما بتبدل السلطة , فالإيمان بالحقيقة يجعل الشخصيات أكثر حيوية حتى في حالة تقديمها بشكل ساخر.

 

بقلم الدكتور

تحسين رزاق عزيز

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com