متفرقات

بصري بين الجبال 1 من 12 .

هيئة التحرير .

بصري بين الجبال 1 من 12


عبد الحميد برتو .

لماذا كتاب تجربتي؟
جرت العادة وعلى نطاق واسع أن تقتصر الكتابة على حالتين إثنتين، هما: الإتفاق المطلق أو الإختلاف الأكثر إطلاقاً. تراجع اسلوب التحري عن الحقيقة، تحت وطأة تراجعات إجتماعية عميقة. أسعى هنا الى الإقتراب من عدة حقائق عند الآخر. يشغلني كثيراً موضوع الحياة المشتركة بين المجموعات، وداخل الجماعة الواحدة على حدة، والعلاقات المتبادلة بين الفرد والجماعة.

من هذا المنطلق، تنامت لدي رغبة في مناقشة التجارب الشخصية في الميدان العام ـ الإجتماعي. أخبرني الصديق محمد الحجاج المقاتل السابق والأستاذ الدكتور الباحث الجامعي الحالي، قبل أربعة أعوام، بأن كتابه الموسوم بـ “تجربتي” موجود على صفحته في الفيسبوك. ولأنها تجربة تهمني لعدة أسباب، منها: أنها تتناول تجربة وطنية تدور حول أساليب الكفاح والعمل السياسي والنظرة الى دور الفرد فيها. وربما أغرتني في البدء تسمية الكتاب ـ تجربتي. فهي تحمل معان متنوعة في أحد جوانبها، أنها ليست حكماً مطلقاً على الظواهر والحالات والمصادفات وحتى الأشخاص.

وجدت في كتاب “تجربتي” للحجاج توصيفاً يستحق التوقف عنده لأحداث كبيرة مرت على البلاد عامة، وعلى الحزب ـ الحزب الشيوعي العراقي ونهجه السياسي وسلوكه العملي وأساليب نضاله خاصة. في ثنايا الكتاب وصف لطبقات النفس البشرية، بطريقة غير مقصود، إستلها الكاتب من خلال إيقاع حركة الحياة اليومية. ربما هذا الجانب أثار إهتمامي أكثر من غيره، هذا طبعاً الى جانب نظيره الآخر الذي لا يقل عنه أهمية الذي يدور حول العلاقات المتبادلة بين الفرد والجماعة. مثل هذا الأمور شغلت حيزاً كبيراً من لدن علماء الإجتماع والسياسة، خاصة علم إجتماع التنظيم. هذا العلم الذي مازال في ريعان شبابه، ويحظى بإهتمام متزايد، ويغذي المعنيين بفهم النفس البشرية من خلال شبكة علاقاتها الواسعة بالكثير من المعطيات. وربما يعطي بعض التقديرات والتوقعات.

تحت هاجس الرغبة بمزيد من التعرّف على تجارب الأصدقاء بإعتبارها تحمل شيئاً من الخصوصية الى جانب الجدوى العامة. قرأت الكتاب بتمهل. وهو يأخذني الى مواقع وأحداث وأشخاص أعرفهم عن قرب ولفترات مديدة. بل سجلت بعض الملاحظات التي إعتقدت أنها تحظى بأهمية أكبر أقلة من زاوية الرؤية الخاصة للكاتب. وأنا في هذا الجو داهمتنا إنتفاضة اكتوبر/ تشرين الأول 2019 التي قدمت دروساً عظيمة على مختلف المستويات وبكل الإتجاهات. كانت وظلت الى يومنا هذا بلسماً لآلام كل من يثق بشعبه وعدالة مطاليبه. في هذه اللحظات يبدو الإعتقاد بأن الخواتم ليست كل شيء، وليست حكماً مطلقاً على نوايا وأمجاد الظاهرة، التي بدت وكأنها حدث خارج سياق توقعات العاملين في السياسة بشكلها الرتيب المفتقد الى الحس المرهف والشجاعة الضرورية والقدرة على إستخدام الأدوات المعرفية.

بديهي أن تشغل الإنتفاضة، وما يحيط بها، موقعاً رئيسياً بل الموقع الأول عند النقيضين: مؤيدوها وخصومها. وأن تأخذ الوقت كله، لصالح متابعة إيقاعاتها، وما يحاك لها من داخلها وخارجها، ومحاولات إضافة ما يمكن أن يكون في صالحها أو ضدها. ولا تبدو مسألة المَآلِ المرتقبة تقرر طبيعة النظرة إليها. ومن أجل أن يبقى الحدث بكامل بهائي. يكتم الإنسان أو لا يتحدث حول المخاوف. لأن الموقف في غاية الحساسية والخطورة. فالعمل ضد الإنتفاضة مازال بكامل زخمه. ولكن من جانب آخر ينبغي الإعتراف بأن الإنتفاضة وفق منطق العلم لا يمكن أن تدحر بعض القوانين الأساسية في علم الثورة. إن الحرص على الإثنين الإنتفاضة والقوانين الإجتماعية. يدع أمام المرء إمكانية حق إستخدام التلميح غير الضار. وإذا جادت الإنتفاضة بقوانين جديدة لعلم الثورة، فهذا بلسم إضافي للثورة الإجتماعية وتجريداتها النظرية وإعادة الإعتبار إليها.

حين يقرر الإنسان عملاً ما. ينبغي البحث عن فرصة له. والفرضة تخلق ولا تعرقل العيش ضمن حلم الإنتفاضة. هذا هو حالي عندما قررت الكتابة عن الكتابة، سيما وإن كتاب “تجربتي” بمعنى ما له علاقات مع الوضع الراهن. ذلك من خلال التعرض لأساليب النضال. بديهي في مثل هذا المقام لا ننشغل ببعض الجزئيات في سردية الكتاب. هذا دون تجاهل القول بأن الشيطان يسكن في التفاصيل. أو التأكيد المبدئي القائل: إن التفاصيل قد تأخذ أهمية القانون العام في بعض الحالات. إذن سأتمسك وفق الممكن لحدود بعيدة بهذه الأسس. وأكتفي بالتعامل هنا مع حقيقة أني أقدم عرضاً موجزاً لأهم الموضوعات التي تناولها الكاتب.

يقع الكتاب في 179 صفحة موزعاً على موضوعات رئيسية، هي: المقدمة، العودة الأولى، الإنقلاب العسكري التركي، أهمية البغل، النقطة الأولى، الوصول الى مقر قاطع بهدنان، المفارز الأولى، معركة كلي رمان، توفير الأجواء لطرق جديدة، ذكريات من الرحلة الى دمشق، حدث في دمشق، العودة الثانية، التوجه الى جبل قنديل، ما قبل أحداث بشت آشان، معارك بشت آشان، الرسالة الثانية، عبور نهر دجلة وفقدان طفل، المرحلة الصعبة، وداع الجزائر الى ليبيا والنشاطات العلمية اللاحقة، قرار العودة الى الوطن، النشاط العلمي بجامعة البصرة، ملاحظات سياسية أخيرة.

لاح لي أن الكاتب كان على عجلة من أمر إصدار كتابه. مما أضر بلغة الكتاب، وتتابع الإحداث فيه. ولما إتخذ الكتاب بمعنى ما صفة تقترب من حالة رسالة حزبية مفتوحة. فلا نتوقف هنا مع القضايا التي تتعلق بشؤون اللغة كثيراً. هذا ليس إنتقاصاً، بل دعوة لتوخي الدقة في هذا المجال قدر الإمكان. إن هذه الملاحظة فرضت نفسها عليّ. تعاملت معها على أساس أنها قابلة للتجاوز بحكم طبيعة موضوع كتاب ـ تجربتي. وليس من الضروري إكثار الحديث عنها هنا، كما ليس من المناسب تجاوزها تماماً ودون إشارة.

سجل الحجاج تجربته الشخصية في حمل السلاح ضد نظام حزب البعث في العراق. تناول فيه تجربته بخوض الكفاح المسلح ضمن صفوف أنصار الحزب الشيوعي العراقي بكردستان. وَجَدْتُ في الكتاب الكثير مما يمكن أن يستفيد منه كلُّ مَنْ يهتم بتلك التجربة. لاشك في أن تسجيل أية تجربة شخصية ضمن فعل عام يستحق الإهتمام والنظر إليه بجدية. ليس من الزاوية الإنسانية فقط، أي حياة شخص ضمن جماعة. وإنما دور الجماعة تجاه نفسها وإتجاه الفرد والمجتمع أيضاً.

من الضروري النظر الى أن تدوين مثل هذه الحالة ينطوي على فؤائد كثيرة. تساهم في تقوم التجربة ذاتها، وتكون حصيلة أعمق عنها. تغتني كلما كانت صفات الكاتب أكثر رُقياً ووعياً وتجرداً. يتوفر فيها قدر مقبول من محاولات التقرب الى الواقع نفسه. والتحرر مما تمليه خصوصيات الأنا، وتطلعات الإنسان الخاصة والعامة، وتأثير المخاطر والمحيط وطبيعة شركاء التجربة نفسها.

ربما لم يتوفر الوقت المناسب لتحليل التجرية الأنصارية للحزب الشيوعي العراقي. من قبل المخططين لها أو المشاركين فيها. وهل كان الطرفان ينظران لها من ذات الزاوية. وهل كانت الأهداف المتوخاة منها ذاتها في قيادة الحزب وقاعدته وكوادره واحدة وواضحة الحدود. مما لا ريب فيه أنها تجربة تستحق التحليل المعمق والهادف، وبناء خلاصات منها وعليها. ربما الجانب الوحيد الذي تردد كثيراً وأحياناً على عجالة، هو ذكر أسماء الشهداء الأبطال. ترافق الأسماء صور فردية وجماعية، مع شيء من الكتابات عنها، وهذا أمر طيب بلا ريب، ولكن من الممكن تناوله على الطريقة التي يهتم بها الإحصاء الإجتماعي. والعمل على إستخلاص روح كل تجربة فردية كانت أم جماعية.

صدرت كتابات فردية على هيئة مذكرات أو مقالات مطولة أو مقطوعات أدبية وصل قسم منها حد الرواية ذات الطابع الفني المتكاملة. وإن كانت محدودة العدد. وفي الغالب سقطت بعض المساهمات في لجة قصائد المديح أو الهجائية المنفعلة. كل حسب موقفه والظروف التي صادفته وأحاطت به. ولا تبدو مبالغة في القول أن الشعار أو المقولة الشعبية القائلة: “لو كلها لو سبع يأكلها”. كانت السائدة وأبرز.

تناولت قبل فترة ليست بعيدة عملاً روائياً جميلاً للكاتب يحيى علوان. وهو نصير مثقف عاش فترة مديدة ضمن التجربة الإنصارية للحزب. ربما إنفردت في تجنيس كتاب النصير يحيى علوان. إطلقت عليه صفة رواية بحق ومشروعية. جاء تناول الرواية تحت عنوان: (مطارد بين … والحدود). نَشَرْتُ المادة عبر عشر حلقات، موسومة بـ: “إنشودة للإنعتاق .. تغريدة لأفق مفتوح”. لاشك في أن هناك فوارقاً جوهرية بين العملين: الحالي والسابق، من حيث اللغة والإناء الذي قدمتا فيه كل منهما. هناك فروق كبيرة بين العمل الإبداعي المنفتح والعمل التسجيلي والتوثيقي. تقدم التجربة المديدة شيئاً مختلفاً عن التجربة الحالية القصيرة نسبياً. والتجربة الأولى كانت متصلة، والثانية جاءت منشطرة الى فترتين إثنتين. هذه الفوارق الكمية والنوعية قد تحمل بعض الدلالات في تقوم التجربة الأنصارية ككل من زوايا مختلفة. هذه النقطة أي التقويم التجربة الأنصارية ليست موضوعنا الآن.

لابد من القول في البدء أنني أعرض الآن تجربة شخصية تسجيلية. وهي، كما أرى، ليست تقديراً عاماً عن التجربة الأنصارية. ولكن من جانب آخر، فإن التجارب الشخصية تسلط أضواء مهمة على كل تجربة عامة بشكل ما. تعطي مؤشرات فردانية ذات دلالة عن التجربة أيضاً. وقد نستشف ذلك من عنوان الكتاب نفسه الموسوم بـ “تجربتي”. لا أنفي في حالات معينة أن التصور الفردي قد يجعل التجربة أكثر بهاءً أو أكثر بؤساً. كم رواية عن معركة ما كانت أكثر تأثيراً من المعركة ذاتها. من المهم التعرف على وجهات نظر الناس الذين يقفون على مسافات وإرتفاعات مختلفة في ذات تجربة، ومن خارجها كذلك.

وفق تقديري أن مَنْ يُعلن منهجه في البدء، سيكون الأقرب الى الموضوعية، من حيث رسم الصورة العامة للفترة أو التجربة المعنية. كان الكاتب واضحاً في هذا الصدد. أسس نظرته النقدية على أسس تقوم على التحري عن كل شيء حوله، مسترشداً بمنهج عام يحكم خطواته في قراءة ما مر عليه في تجربته الجديدة، التي تحمل بعض المخاطر الجدية على أي حال. إن تأكيده على عبارة ذائعة الصيت في أوساط الإشتراكية العلمية والأحزاب الشيوعية على وجه التحديد، تؤكد للقارئ صيغة تناوله لتجربة الذاتية.

كتب محمد الحجاح في السطر الأول من كتابه معلناً المبادئ التي يقوم عليها فكره. واضعاً مقولة فردريك إنجلز كخارطة لخط الكتاب: (إن نظریتنا لیست عقیدة جامدة، بل مرشد للعمل). يبدو أن العالم الشاب المختص في علم الوراثة، سعى في كتابه الى إتباع طريقة البحوث العلمية التي تقوم على تعريف القارئ بمنهج الكتاب.

ولكن سرعان ما أعلن الكاتب أن عبارة إنجلز عانت التشويه في التجربة العملية بصورة عفوية أو متعمدة. مشيراً الى مقومات بناء مجتمع متحضر یواكب عصره. يتم من خلال نشر الوعي ووجود قيادة حكيمة. تولد القيادة من رحم مجتمعها. وعليها مسؤوليات، منها: إیمانها المطلق بشروط الدیمقراطیة ومتطلباتھا الأساسیة المتمثلة بحریة الفكر، إقفاء تجارب المعرفة العالمیة، قیادة تفھم جدلیة التاریخ الإنساني بكل جوانبه، وتعتمد على التسلسل المنطقي للأحداث بدلاً من القفز علیھا أو الإبتعاد عنھا. معتبراً ما تقدم من مواصفات وشروط هي من أدوات تحريك عمليات التقدم في المجتمع ورفع مستويات رفاهيته.

قال: “وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نبني مجتمعاً متحضراً يواكب عصره، إلاّ بنشر الوعي والإنغماس التام بروح الوطنية الخلاقة، ويتطلب ذلك بالأساس الى قيادة حكيمة تضع في أولوياتها المصالح العامة والإبتعاد كلياً عن المصالح الضيقة لتصيغ القوانين التي تستند على العلوم بمختلف أنواعها لا على إحتقارها. قيادة تؤمن بأن حركة التاريخ ليست صدفة وإنما تقوم على أسس كما يجري في الخلية الحية التي لو إختل جين منها في عمله لنتج من ذلك التشوهات في الجسم الكبير ـ وحتى موته”.

وأضاف: “ولا يمكن أن توجد مثل هذه القيادة المنشودة إلاّ إذا ولدت من رحم مجتمع يتمسك بحقوقه، ويعرف كيف يدافع عنها، قيادة تنبثق من وجود أحزاب منظمة واعية لطبيعة المرحلة التي تعيشها، وتؤمن إيماناً مطلقاً وبوعي بشروط الديمقراطية ومتطلباتها الأساسية وحرية الفكر، مقتفية بتجارب المعرفة العالمية، لتكون العنصر الفاعل والمحرك والمسرع”. (تجربتي ص 2 ـ 3)

دعا الكاتب الى الإستفادة من تجارب المجتمعات الأخرى التي سارت نحو التقدم، وجعلت ذلك الهدف مناراً تھتدى به، ولكنه لم يحدد على وجه الدقة تجربةً محددة. وأكد على ضرورة تمكین أصحاب الكفاءات والخبرة لأخذ مكانھم في العمل بجمیع الإختصاصات.

إن ما إنطوت عليه مقدمة الكتاب من تحذيرات ونصائح ومقترحات. تحمل بوضوح حيناً حالة من عدم الإرتياح من الجو العام الداخلي المحيط، وفي أحيان أخرى تلميحاً، ولكن في ذات الإتجاه. سوف نفهم ونتعرف على دواعي إتجاهات مقدمة الكتاب في صفحاته القادمة. إن الإنطباع الأول، الذي تركته المقدمة، يفيد بل يؤكد بأن الكاتب يشعر بحالة من الإستياء فيما يتعلق إيقاع ومعنى التجربة التي إقتحمها.
يتبع …

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com