مقالات

«كوفيد» التاسع عشر.. الحاكم بأمره

جيهان فوزى

جيهان فوزى

حكم الأرض بمن عليها، تسلل خُفية، تنقّل بين أرجاء الكرة الأرضية دون جواز سفر، لم يستطع أحد أن يعيق أسفاره السريعة متجولاً فى دول العالم، ينظر إلى خيلائها مستهزئاً! أنا الأقوى وأنتم مجرد عبيد، تخضعون لإرادتى وتمتثلون لأوامرى، ليس عليكم سوى الطاعة، أنا الحاكم دون أن ترونى، وأنتم المؤتمرون رغم قوتكم وسطوتكم وجبروتكم، لى عليكم كل الحقوق، وليس لكم علىَّ حق، جئت لاختبار قوتكم وغطرستكم وانتصاراتكم الزائفة، فوجدت الحيرة والانقسام والضعف والترهل فى أنظمتكم ومؤسساتكم وسلطان حكمكم، أصبت منكم دون اختيار أو تمييز، الرئيس والأمير والوزير والخفير، الغنى والفقير، القوى والضعيف، وأنتم صاغرون ضائعون، فهل تستطيعون إيقافى؟! حاولوا وسنرى.

كوفيد التاسع عشر (فيروس كورونا) الذى يحكم الأرض، يخاطب البشرية من عليائه، دون أن ينطق بكلمة، أفعاله دالة عليه وعلى جبروته، لم يرحم أحداً ولم ينصت لصوت الآلام المنبعثة من كل مكان، لم تُثنِه دموع المكلومين بأحبائهم الذين يموتون دون وداع، ولم تأخذه بهم شفقة، إنه لأمر شديد القسوة على النفس أن ترى أحباءك يموتون دون وداع، وأنت عاجز مشلول، معدوم الحيلة، قدرتك على الإبداع توقفت أمام شراسة وضراوة هذا الكائن غير المرئى، سخر من العالم وتبختر، لتصبح أنظمته الاقتصادية بكل قوتها على شفا الانهيار، وقد بدأت تظهر ملامح هذا الانهيار فى أول استهلال لم يحدث فى تاريخ الذهب الأسود أن تهبط أسعاره «بالماينس»! فبدلاً من أن تدفع مقابل شراء النفط، يُدفع لك!! هل كنت تتخيل ذلك؟ جبروت كورونا تجاوز كل الخطوط الحمراء، وكل الألوان، أنا كوفيد التاسع عشر الذى عرَّى العالم، كشفت هشاشته وضعف أنظمته الصحية فى مواجهتى. وتجاهله للاهتمام بها وتطويرها، واتجاهه إلى سباق التسلح بجميع أشكاله وأنواعه، ومنافسته على صناعة الموت وتطوير الأسلحة الفتاكة والتباهى بامتلاكها، فخدم كل ما يدمر البشرية، وأهمل كل ما يجعله متعافياً، منعماً بالصحة، لأنها أدنى درجات اهتمامه، وجاء الوقت ليعيد حساباته، وترتيب أولوياته.

حان للطبيعة أن تستفيق من غيبوبتها الطويلة وتتنفس الصعداء، أن تعود متعافية، وتنقى من التلوث. منذ عقود طويلة لم تعد قضايا المناخ وتدهور الأوضاع البيئية مسائل ترف، يوم ارتفع مستوى الإنتاج الصناعى إلى أقصاه بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد ذلك مع انتشار مفهوم العولمة وسياسات تبجيل النمو الاقتصادى للدول والشركات، هذا التطور بمجالاته المختلفة كانت فاتورته باهظة الثمن على البيئة وبالتالى على الفاتورة الصحية لسكان الأرض، وصولاً لتهديد حياة البشر بصورة مباشرة، لطالما كان التحدى بالنسبة للناشطين البيئيين فى كيفية توسيع دائرة الرأى العام الواعى لقضايا البيئة، فمنذ الثورة الصناعية وحتى اليوم عانت الأرض منا، من إطلاق كميات هائلة وغير مسبوقة من المركبات السامة فى الهواء مثل أول أوكسيد الكربون، وأوكسيد النيتروجين، وبخار الماء، والميثان، وغيرها، هذه المواد التى تسمى مجتمعة «غازات الدفيئة» تؤدى مستوياتها المرتفعة فى الغلاف الجوى إلى تحويل الأرض إلى مكان غير قابل للحياة. ومع توقف معظم حركة السفر بشكل شبه كامل، والعزل المنزلى، الذى طبقه أكثر من 3 مليارات إنسان حول العالم كُشفت الآثار الإيجابية فى البيئة، فانخفضت مستويات أول أوكسيد الكربون بمقدار النصف عن العام الماضى، وأظهرت انبعاثات ثانى أكسيد الكربون تراجعاً كبيراً، حسّن كثيراً من طبقة الأوزون التى كانت تهدد العالم بتغيرات مناخية قاتلة للإنسان والحيوان والطبيعة.

يقول كوفيد التاسع عشر: لأول مرة تشعر الطبيعة بالرضا، ويعود لها ألقها وحيويتها، وتخرج الحيوانات من أوكارها، تتجول فى الشوارع الخاوية من البشر فى خيلاء، دون خوف أو إحساس بالتهديد لحياتها، مطمئنة هادئة، فاحتلت العديد من مدن العالم منطلقة نحو حياة نظيفة خالية من الإزعاج والتلوث، فهل من فضل لى عليكم يا بنى البشر؟!

اعترفوا يا بنى البشر بأن وعياً جديداً بدأ يتشكل بعد «هجومى الشرس» على الأرض، وأن ثمة تغييراً سيطال السياسات العامة للعالم فى المرحلة التالية للانتصار علىَّ، وأن تحديدكم للأولويات الجديدة سيعيد الاعتبار لحياتكم وصحتكم، وصحة البيئة والمناخ الذى تعيشون فيه.. أنا «كوفيد التاسع عشر».. تسللت إليكم وأنتم غافلون، وسأخرج منكم وأنتم واعون، مدركون لخطورة ما كنتم تفعلون.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com