صحة

إعتذار لليدين

إعتذار لليدين

صباح مطر

 في هذه الأيام العصيبة أقف موقفاً جدياً وجديداً تماماً من أحد اعضاء الجسد المهمة، وهما اليدان.

تلك الأعجوبة الحقيقية.. رفيقتا الحياة والأوجاع والمسرات. رفيقتا أزمنة العطاء والأخذ. يداي اللتان عرفتا بكل شيء كان وسيكون. صانعتا الحياة بكل تفاصيلها الدقيقة. لو تكلمت واحدة منهم فقط؛ فقط واحدة.. ماذا ستراها تقول؟

أي قصة سأسمعها شخصياً من يد واحدة أو من الاثنين مجتمعتين؟

في اليوم الذي تسلقتُ به الأرض وقبل أي محاولة للنهوض أو التعثر، تشبثت يداي بثوب أمي المزهر في محاولة لسحبه إلى وجهي.. إنها وببساطة الرغبة في تنشّق عبق الأم والحياة. واليوم الذي تلاه أمسكت بقطعة خبز صغيرة لقضمها وإشباع جوعي الذي سيستمر ما حييت؛  وإلى كل شيء. وفي الأيام التالية تعلمت الكتابة والرسم والأكل والبكاء واللعب.. وتعلمتُ أيضاً تحسس الطريق إلى ملامحي دون الحاجة لأنعكاس مرآة.

أكتشفْ أناملي ملامحي في خطوة عظيمة منها لاكتشاف العالم فيما بعد..

عملتُ في مجمل الأيام من دون أن أشعر بالضغط الذي كنتُ أسلطه على تلك الصديقين الوفيتين من دون أن تتذمرا.

أحسد نفسي على تلك النعمة العظيمة، فما أصعب البكاء دون أن يكفكف دموعك أحد. غير اليدان وهما يعانقان الحواس المتأججة في لحظات صدقٍ وتجلٍ عظيمة.. تغرف الأنامل من بحيرات الدمع المالحة وتسحبها بحركة دائرية إلى خارج حدود الحزن والوقت.. فهل هناك أكثر وفاءاً من تلك الرفيقتين؟

أتذكر الأيام التي كنتُ أنكب فيها بشغف عالٍ على الكتابة. حيث تتلبسني حالة شبيهة بالغيبوبة أو النعاس اللذيذ. ثم تقودني يداي إلى عوالم لا تشبه عالمنا الحقيقي.. انصاع لهما من دون أعتراض أو تذمّر، لأنني أدرك بأننا معاً سنصنع معجزة ما. ثم نتركها بعد ذلك مستسلمة لمساحات ورق أبيض يشبه الثلج والصدق.

أعترف بأنني ومن بعد كل رحلة من هذا النوع أقبّل حكمة عظيمة تسكن من دون أرادتي في تلك اليدين العارفتين بكل شيء.

كم أنا ممتنة لهما في مساعدتي على رسم حياتي بكل خطواتها الدقيقة. وكم أنا ممتنة لهما في مساعدتي على الخوض في عوالم الخيال الساحرة. وكم أنا ممتنة لهما علي إتقانهما رسم ما تعلمته من حروف وأرقام. وكم أنا ممتنة لهما على إيصالي بسبل الحياة والعمل والنجاح المتواضع الذي حققته على كل صعيد أحبه. وأخيراً كم أنا ممتنة لهما على انجازهما لكل عمل تثمنه انسانيتي وانسانية العالم.

مع تلك المعجزتين العظيمين والصديقتين الوفيتين تصبح الحياة بكل ما فيهما ممكنة ومحتملة ايضاً. فكيف لي أن اعاديهما في هذا الزمن الصعب؟

كيف سأتمكن من فصم الصلة مع ما هو اساسي ومقدس في حياتي؟

يقول الأطباء في هذا الزمن المرعب، ” يداك عدواك فاحذرهما جيداً. تجنب اتصالهما بوجهك تحت أي ظرف لدرء العدوى الفايروسية”

وما إلى ذلك من النصائح والإرشادات الطبية.

أسأل نفسي التي ما انفكت بالأمر موخراً؛ ” ترى كم بخسنا حق هاتين الرفيقتين العظيميتن؟ ولماذا لم ننتبه إلى الآن بأن أيادينا صانعات الحياة والأبداع والبهجة؟

ولماذا لم ننتبه إلى الآن إلى كم الأسرار المُخّزنة في كل خطوط الكف العميقة؟

لماذا لم ننتبه إلى الآن كم أرهقنا هاتين اليدين في حياتنا؟ كم استهلكناها في حركات لا تُعَد ولا تحصى؟

ولماذا لم نكن ممنونين لهما تحت أي ظرف؟

أعترف الآن بأنني بخست ثمن هاتين اليدين كثيراً. ومن أجل التكفير عن ذنبي الكبير أحاول تقبيل هاتين المعجزتين الرائعتين بالرغم من صعوبة التحدي أمامنا في هذا الزمن الصعب. إذ لا شيء يجعل الحياة مستمرة، جميلة ومعطاءة وجاهزة لأي ظرفٍ صعب ذو تحدٍ كبير غير العمل الذي تنجزه كل الأيادي مجتمعة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com