مقالات

السودان: الانتقال من تجهيز البنادق إلى إطلاق النار.

بيدر ميديا.."

السودان: الانتقال من تجهيز البنادق إلى إطلاق النار

مثنى عبد الله

 

يعكس الصراع الدائر الآن في السودان بين الجيش الوطني وقوات الدعم السريع ما هو موجود على أرض الواقع، من مراكز قوى في هذا البلد منذ الاستقلال وحتى اليوم. فكل من الفريق عبدالفتاح البرهان قائد الجيش والفريق حميدتي قائد قوات الدعم السريع، يُعتبران مراكز قوى بارزة في المشهد السوداني. فكلاهما يمثل امتدادات إقليمية، وتجمعات قبلية وعشائرية محددة، كانت على مدى التاريخ هي التي تحكم السودان.
كما يوجد انقسام واضح بين شرق البلاد وغربها من الناحية الاجتماعية، فهنالك انقسام بين قبائل دارفور وغرب السودان، وقبائل شرق البلاد. وتحت هذا الانقسام يمكن أن نرى توزيعا آخر على شكل انقسام أيضا، قائم على أساس قضية دينية. فبعض القبائل في شرق البلاد تتبع الطريقة الختمية، وأخرى تتبع طريقة الأنصار والمهدية. وليس غريبا أن هذه العوامل لا تزال فاعلة جدا في السياسة السودانية، وتتغير تحت مسميات مختلفة من حين لآخر، وبالتالي هذه خلقت واقعا تحته الكثير من الرمال المتحركة وليست أرضا صلبة، وقد حاول كل اللاعبين السودانيين الاستثمار في هذه الأرضية لتمرير مصالحهم. على سبيل المثال، عندما جاء نظام الإنقاذ والجبهة الإسلامية وحسن الترابي، حاولوا أن يأخذوا من طرفي الانقسام بهدف استرضاء الجميع وتكوين مكون جديد، فمثلا تاريخيا حزب الأمة كان يعتمد على غرب السودان والأنصار، فحاولوا أن يأخذوا جزءاً من هذا المكون، وجزءاً من المكون الآخر لتشكيل جبهة جديدة أو فاعل جديد في الساحة السودانية. وفي كل مرة تحصل تحولات إقليمية أو دولية في المنطقة، يتحالف الزعماء بهدف إعادة صياغة التحالفات القديمة، لذلك حصل التحالف بين الرئيس السابق عمر البشير وحميدتي، وعندما تحركت الرمال تحت الأقدام خذل حميدتي البشير وتحالف مع الفريق عبدالفتاح البرهان، اللذين اضطرا للتعامل مع قوى الحرية والتغيير، والتوافق على التسوية السياسية. السؤال هو لماذا حصل الصراع بين الرجلين؟

اختلاف الرؤى وتقاطع المشاريع والمصالح الخاصة، والانسداد السياسي الحاصل بعد تأجيل التوقيع مرتين على اتفاق سياسي، كلها قادت الطرفين إلى هذا الصدام المسلّح

لا بد من القول بأن حميدتي كان رجلا ثانويا عندما تأسست قوات الدعم السريع. كان زعيما لقبيلة المحاميد في شمال دارفور، واستطاع أن يزيح المسؤول الأول عن هذه الميليشيات، وأن يصبح الذراع اليمنى للبشير الذي اعتمد عليه كثيرا. آنذاك أصبح قوة تابعة للدولة، يأخذ الدعم من ميزانية الدولة حسب الهيكلية الغريبة التي أقامها نظام البشير، لكن في الوقت نفسه للدعم السريع سيطرة على تجارة الذهب في مناطق كثيرة، وحتى خارج حدود السودان في تشاد وافريقيا الوسطى، ولديه اليوم مصالح في أماكن كثيرة في وسط افريقيا، وقد زاد هذا الوضع من طموح الرجل، ما دفعه لرفض فكرة أن يكون هو وقواته تحت أمرة القائد العام للقوات المسلحة عبدالفتاح البرهان، بل اقترح أن يكون تابعا لرئيس الدولة المدني حسب الاتفاق الإطاري، الذي يقول إن رئيس الدولة القادم ورئيس الوزراء هما مدنيان وليسا من العسكر، لذا فضّل أن يكون خاضعا لقائد مدني وليس للبرهان. وأيضا لكي يطمئن على مستقبله، فقد اعترض على مسألة المواقيت الزمنية. وطلب أن تكون فترة دمج قوات الدعم السريع بالقوات المسلحة لمدة 22 عاما. وكان يبغي من وراء ذلك تحسين وضعه التفاوضي، والتأكد من أنه عندما يُسلّم آخر بندقية من بنادق جنوده، أن لا ينقلب عليه أحد ويقاتله، وكان يطالب بأن تكون هنالك عملية ديمقراطية، وانتخابات تأتي بحكومة جديدة بعد السنتين الانتقاليتين، وهذا بالنسبة له ضمان كاف كي يُسلّم آخر بندقية. أما بالنسبة لقائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان فهو يرى، أن الجيش هو المؤسسة العسكرية العريقة، بينما قوات الدعم السريع هي مؤسسة عسكرية، أوجدتها وفرضتها ظروف معينة، ليست اعتيادية، وبالتالي يجب عليها الآن أن تصبح جزءاً من الجيش وليست رديفا له، وما منح البرهان هذا التصور هو ما نصت عليه اتفاقية جوبا، التي أقرت بدمج الحركات المسلحة في الجيش، لذلك أصبح الجيش يشعر بأنه هو الذي يجب أن يتولى استيعاب كل الأمور.
إذن اختلاف الرؤى وتقاطع المشاريع والمصالح الخاصة، والانسداد السياسي الحاصل بعد تأجيل التوقيع مرتين على اتفاق سياسي، بسبب خلافات حول شروط دمج قوات الدعم السريع في الجيش، وهو بند أساسي في اتفاق السلام المعروف بالاتفاق الإطاري، كلها قادت الطرفين إلى هذا الصدام المسلّح. فبينما يتهم البرهان قوات الدعم السريع بالتمرد، بعدما سيطرت على مطار مروي شمال البلاد، فإن حميدتي يتهم البرهان بالتفرد بالسلطة واتخاذ القرار، ومحاولة حل قوات الدعم السريع ودمجها بالجيش، علما أن الخلاف بين الرجلين لم يبدأ مع العملية السياسية، إنما كان خلافا قديما تدخلت فيه أطراف من العملية السياسية عدة مرات لتهدئة المواقف، وبذلك كان الصدام متوقعا، لكن توقيتاته لم تكن معروفة. صحيح أنهما اتفقا على العملية السياسية، لكن يبدو أن الدافع كان هو أن كل طرف يريد أن يحقق أهدافه من وراء ذلك لا أكثر، ما يعطي انطباعا واضحا بأن كل ما كانا يفعلانه من قبل هو شكل من أشكال التعامل التكتيكي، من أجل اكتساب مواقع قوة جديدة تمهيدا للانقضاض مرة أخرى. لكن اليوم هنالك خوف من أن تصطف قوى ميليشياوية مسلحة داخلية، وهي كثيرة في السودان، إلى جانب الطرفين في الصراع، ربما بعضها لديها مصالح مع الجيش فتسانده ضد قوات الدعم السريع، وأخرى قد تنجر إلى دعم قوات الدعم السريع ضد الجيش، تبعا لمصالحها ولنقاط الالتقاء الدينية أو المكوناتية بينها وبينه.. السؤال ما مصير البرهان وحميدتي في حالة انكسار أحدهما؟ إذا ساءت الأوضاع بالنسبة لقائد الدعم السريع حميدتي، فإن من السهولة له الخروج من السودان واللجوء إلى أية دولة من الدول المجاورة التي لديه فيها مصالح واستثمارات، فهذه تشكل حاضنة جيدة له، بينما قائد الجيش عبدالفتاح البرهان لا يبدو لديه خيار سوى حسم الصدام المسلح لصالحه، لأنه حتى لو قبل الجلوس إلى مائدة التفاوض مع حميدتي، فربما لا تقبل قيادات الجيش بذلك، وعليه قد يحصل انقلاب عسكري ضده يزيجه من قيادة الجيش، خاصة أن هنالك معلومات تقول بأن ضغوطات مورست عليه من قبل النافذين في الحركة الإسلامية السودانية، عبر كوادرهم داخل الجيش أن لا يجلس للتفاوض مع حميدتي أبدا، لكن حتى إن حسم الجيش المعركة لصالحه، فهل سيتمكن من القضاء التام على قوات الدعم السريع؟ لا يبدو ذلك ممكنا لأن هذه القوات منتشرة على مساحة واسعة في السودان، وربما ستعاود تجميع نفسها وإعادة الانتشار في مناطق أخرى، أقرب إلى طبيعتها التي تكونت ونشأت فيها، وهي مناطق غرب السودان، كما أن زعيم هذه القوات لديه تعاط مع الدول المجاورة لغرب السودان، وربما يستمد منهم الدعم لإعادة التموضع والسيطرة.
وأخيرا، يتضح جليا أن سنوات العمل المشترك بين البرهان وحميدتي في التعامل مع الوضع السابق في دارفور، وفي العمل لمواجهة الحركة الاحتجاجية التي سبقت سقوط نظام البشير، كلها كانت فترات من أجل تجهيز البنادق، والإعداد للتفرد بالمشهد أحدهما على حساب الآخر. وهذا للأسف ديدن كل القائمين على الانقلابات التي حدثت في هذا البلد العربي.
*كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com