مقالات

المسرح الروسي نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين

ڤ.ف. فيدوروفا

ترجمة : د. تحسين رزاق عزيز

اتسم المسرح في القرن التاسع عشر بالميل الكامل والشديد للمنولوج وبالمبادئ الفعالة التي تُعِدّ المخرجات المسرحية , أي ان الفنان بعد أن ينتهي من المشهد الذي أداه يتصنع الانصراف بشكل ملحوظ مما يستدعي تصفيق الجمهور له، وتلاشت خلف المشاعر المسرحية المعاناة الحياتية المعقدة والتأمل بالحياة , فبدلاً عن الشخصيات الواقعية المعقدة صارت تتراكم الأدوار المسرحية ذات النمط الجامد , وكان الموظفون الذين يديرون المسارح “الإمبراطورية” يسعون بشدة لتحويلها إلى أماكن للتسلية المبتذلة.

حدثان كيرا في الحياة المسرحية يرمزان إلى  نهاية القرن التاسع عشر , هما ولادة الكاتب المسرحي أنطون بافلوفيتش تشيخوف وتشييد المسرح الفني، فقد تجلت في مسرحية تشيخوف الأولى “إيفانوف” ملامح جديدة : كغياب تقسيم الشخصيات إلى أبطال وأشرار وإيقاع الأحداث البطيء في ظل توتر داخلي كبير.

كتب تشيخوف في عام 1895 مسرحية “النورس” الكبيرة , لكن العرض الذي قدمه مسرح الكساندريسكي لهذه المسرحية مُنِيَ بالفشل. وكان المسرح  يتطلب مبادئ عرض جديدة , ولم يستطع تشيخوف أن يصدح من على خشبة المسرح من دون الإخراج , وقيَّم هذا النتاج الرائد الكاتب والتربوي المسرحي نيميروفيتش – داتشينكو، الذي أسس بالاشتراك مع الممثل والمخرج ستانسلافسكي أول مسرح فني.

حدثت ولادة المسرح الفني في أكتوبر من عام 1898 عند  تنفيذ عرض مسرحية تشيخوف “القيصر فيدور ايونوفيتش” , حيث لم يرَ المتفرجون ممثلين يؤدون أدواراً بل أشخاصاً أحياءً حقيقيين يتكلمون فيما بينهم بنغمة عادية غير مرتفعة وكأنهم في المنزل. رأوا أشخاصاً يتحركون بحرية وحتى يديرون ظهورهم إلى الجهور (وهذا بدا وقاحةً من جانبهم) , وقد أثَّرَت عفوية وبساطة الأداء وطبيعة النغمات المنخفضة والتوقفات على الجميع بواقعيتها إضافة لذلك فإن حتى الذين أدوا أدواراً  ثانوية أو لا تحتوي على حوار لم يكونوا دمى بل كَوَّنوا صورة فنية صغيرة لهم. وكان أفراد الجماعة التي تبدع العمل المسرحي بتوجيه من إرادة المخرج متغلغلين وملتحمين بمسألة واحدة.

وهذا كوَّن الفرقة التي لم تكن معروفة في المسرح الروسي قبل ذلك والتي أبهرت الجميع بتوافقها العام , وجرى في ديسمبر العرض الأول لمسرحية “النورس” التي لم تزل منذ ذلك الوقت شعاراً لذلك المسرح , بُنيَ العرض المسرحي كله على المعنويات وعلى الحركات الروحية التي ما برحت تُلحظ في التعبيرات الخارجية، والصور غير الاعتيادية التي يجب عدم الاقتصار على عرضها وتصويرها بل يجب الاندماج بها ومعايشتها , وساعد عرض مسرحية “النورس” على ولادة المعادلة الشهيرة “لا تقتصر على تأدية الدور على الخشبة بل يجب أن تعيشه” , إبتدع ستانيسلافسكي توزيع الممثلين الذي لم يكن معروفاً في المسرح أبداً , فقد كوَّن بالاشتراك مع تشيخوف التنوع الذي حدد في كثير من الحالات الآفاق المستقبلية  لتطور المسرح الروسي , وهذا  تطلب تقنية جديدة في أداء الممثلين , إذ أن معايشة الدور على الخشبة أصعب بكثير مما يُتَصَوَّر , ويُكوِّن ستانيسلافتسكي نظامه الخاص بالواقعية النفسية الموجهة إلى استعادة “حياة الروح الإنسانية” , ويُعِدّ نيميروفيتش دانتشينكو مذهباً عن “الخطة الثانية” عندما يُعْرَف الكثير مما لم يقال من بين السطور ومن خلف الكلمات.

جرى في عام 1902 بتمويل من حامي الفنون والعلوم الروسي الكبير ت. موروزف إنشاء بناية المسرح الفني المعروف في موسكو. واعترف ستانسلافسكي أن “صاحب المبادرة الرئيسي والمؤسس للحياة السياسية الاجتماعية لمسرحهم هو ماكسيم غوركي , وجرى في عرض مسرحياته “طروادة” و”البرجوازيون الصغار” و” في الحضيض” تقديم الحالة الشاقة للعمال و”الطبقات الدنيا من المجتمع” وحقوقهم والدعوة إلى إعادة بناء ثورية. وكانت قاعات المسرح مليئة  المتفرجين عند عرض المسرحيات وارتبطت الإضافة اللاحقة لعروض مسرحيات غوركي باسم  فيرا فيدوروفنا كوميسارجفسكيا القريبة من الأوساط الثورية. فبعد أن أضنتها البيروقراطية  التي خنقت المسرح الإمبراطوري غادرته وأنشأت مسرحها الخاص بها في بطرسبورغ , الذي جرى فيه في عام 1904 العرض الأول لمسرحية “المصطافون” , وصارت مسرحيات غوركي الأبرز ضمن مجموعة مسرحيات مسرح كوميسارجيفسكيا.

ظهر في بداية القرن العشرين فن مسرحي جديد. فقد افتتح ڤ.أ. كازانسكي في بطرسورغ في عام 1908 المسرح الجديد في روسيا الخاص بالعروض المسرحية  ذات الفصل الواحد , وكان مسرح “السباكة” هذا الثالث من نوعه (بعد مسرح “مهزلة النيفا” ومسرح “الحديث”) وحملت إعلانات المسرح تسميات رهيبة : “موت في الأحضان” و”على شاهد القبر” وما شابه ذلك , وكتب النقاد ان المسرح اهتم بقضايا مثيرة وغير فنية , وتوافد المتفرجون نحوه من كل حدب وصوب , وكان لمسرح السباكة سابقة – هو مسرح “الأحاسيس القوية” الباريسي الذي كان على رأسه ناشر ومؤلف المسرحيات  اندريه دي لورد، وقد قلَّده المسرح الروسي في كل شي من الأدوار وحتى وسائل التأثير الخاصة على الجمهور.

لكن روح الحياة الروسية لم تذكرنا بأجواء أهالي باريس , إذ استولى الميل نحو ما هو مرعب وشنيع على فئات متنوعة من الجمهور الروسي , وبعد شهرين انخفض الاهتمام بالمسرح , ويكمن السبب الرئيس لذلك في أن مسرح الرعب لم يستطع مجاراة فظائع الواقع الروسي المعاصر آنذاك وتغير برنامج المسرح بشكل كبير , فبعد ثلاث سنوات أُلصِقت بالمسرح سمة فنية هي “مسرح المنمنمات” , وازداد عدد مسارح “المنمنمات” بعد عام 1910 بصورة ملحوظة , وصار الممثلون ينتقلون من اجل الفائدة المادية من الدراما إلى مسارح المنمنمات والكثير من مسارح الدراما كانت تسد نفقاتها بصعوبة وازداد عدد مسارح المنمنمات بشكل كبير كنمو الفطر عند المطر , ورغم التسميات المختلفة والسمات الفنية المنوعة للمسارح التي ظهرت جديداً كان طابع عروضها متشابهاً , وتكونت برامجها من عروض كوميدية وعروض الأوبرا والأبريت والباليه ذات الفصل الواحد.

اتسم أسلوب مسرح البولشوي  ومسرح مارينسكي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بالميل نحو العروض المبهرجة الخالية تماماً من الأفكار الفنية , ولم تسترجع الفُرَقُ الرائدة بملاكاتها الفنية في مسارح الأوبرا انجازاتها الخلاقة إلا بالنضال المعقد والمضني.

نظم س.پ. دياغيليف احد مؤسسي اتحاد “عالم الفن” مواسم روسية في باريس – عروض لفنانيّ البالية الروسي في الأعوام 1909-1911. وضمت الفرقة م.م.فوكين وأ.پ. بافلوفا وڤ.ف. نيجينسكي وآخرين. وكان فوكين مايسترو باليه ومديراً فنياً. وصاغ العروض المسرحية فنانون معروفون أمثال أ- بنوا ون. ريرخي . وجرى عرض مسرحيات “السُلْف” sylphide  (موسيقى شوبان) ومقاطع من أوبرا “الأمير إيغور” و”بورودينو” و”طائر النار” و”بتروشكا” (موسيقى سترافينسكي) وما الى ذلك. وكانت العروض نصراً لفن الرقص الروسي , فقد أثبت الفنانون أن الباليه الكلاسيكي يمكن أن يكون عصرياً ويثير مشاعر الجمهور. وكانت أفضل عروض فوكين “بتروشكا” و”طائر النار” و”شهرزاد”، و”البجعة المحتضرة” التي كانت فيها الموسيقى  والرسم والرقص متماثلة.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com