مقالات

كتاب وحكاية: مذكّرات صهيوني.

بيدر ..

كتاب وحكاية: مذكّرات صهيوني

يوميّات إيغون ريدليخ في معسكر تيريزين

الدكتور عبد الحسين شعبان .

حين استضافني “اتّحاد الأدباء والكتّاب” في العراق (بغداد 20/12/2017) للحديث عن تجربتي الفكريّة والثقافيّة، فضّلتُ الكلام عن الكُتب ومن خلالها سردتُ شيئًا عن رحلتي مع الحرف والكلمة، وكان ممّا جئت عليه هو الكتاب الذي نحن بصددِه وأعني به “مذكّرات صهيوني”، وهو عنوان وضعتهُ لمقالات بقلم ييرجي بوهاتكا، الكاتب والصحافي (كما ورد في تعريفه) والموسومة “عندما كشف النقاب في يوميَّاته” أو “عندما تحدّث في يوميّاته” والتي عرضَ فيها برؤيةٍ نقديّة مذكّرات أو الأصحّ “يوميَّات” إيغون ريدليخ عضو قيادة المنظمّة الصهيونية ماكابي هاكير في معسكر تيريزين.

جدير بالذِّكر أنَّ التقريظ لمذكّرات ريدليخ كان قد نُشر في مجلّة تريبونا(1) Tribuna “المنبر” وعلى أربع حلقات، وقد لفتت انتباهي إليها إحدى المُستشرقات لمعرفتها باهتماماتي بالقضيّة الفلسطينيّة، فبادرتُ بترجمتها وإعدادها للنّشر، وكان ذلك عشيّة عودتي إلى العراق بانتهاء دراستي وقد أرجئت النّشر في حينها لالتحاقي بالخِدمة العسكريّة الإلزاميّة، ولكن يدُ الزمن كانت قد عبثت بها بعد مصادرة مكتبتي و3 مخطوطات من جانب الأجهزة الأمنيّة  كنت قد جهّزتها للطبع في حينها، وذلك عند كبْس منزلي بعد مغادرتي بغداد إلى المنفى مرّة أخرى.

في دمشق خطرت ببالي فكرة إعادة ترجمة النص المذكور لإعداده للنشر، خصوصًا لِما له من دلالة فكريّة وعمليّة في ظرف يستوجب فيه معرفة بعض الحقائق التي ظلّت خافية إلى حدٍّ ما، فما بالك حين يتمّ الكشف عنها هذه المرَّة وعلى لسان أحد قادة المنظّمات الصهيونية. وكنت قد اتّصلت بالصديق موسى أسد الكريم “أبا عمران” لمساعدته في تأمين النصّ المذكور فقام مشكورًا بإرسال الأعداد الأربعة من مجلّة تريبونا، على الرغم من مضيِّ سنواتٍ على صدورها(2).

أعدتُ قراءة التقريظ المكتوب من جانب ييرجي بوهاتكا على نصِّ إيغون ريدليخ فوجدتهُ أكثر إثارة ممّا قرأته في المرَّة الأولى، ولذلك توقّفت بتأمُّل عنده لأكتب تقديمًا له، أشبه بخريطة طريق: كيف يُقرأ النص؟ وما هي الاستعارة الدلاليّة منه؟ وكيف يمكن توظيفه نضاليًّا كجزء من الكفاح ضدّ الصهيونيّة على الجبهة الفكريّة والحقوقيّة والقانونيّة، لا سيّما على المستوى الدبلوماسي والدولي وبشكل خاص على صعيد المجتمع المدني العربي؟

منذ مطلع الثمانينات كنتُ أكتب مادّة أسبوعيّة لمجلّة “الهدف” الفلسطينيّة التي أسّسها غسّان كنفاني وأعقبه فيها بسّام أبو شريف ومن بعده صابر محي الدين، وقد بَدأَت علاقتي الحميمة مع مجلة “الهدف” منذ لقائي الأّول واليتيم مع غسّان كنفاني في العام 1970 في بيروت، علمًا بأنَّني كنت على علاقة وطيدة بالجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين وبالمقاومة الفلسطينيّة منذ العام 1967 في بغداد، وتعزّزت واستمرّت بالعديد من قيادتها ورموزها ومناضليها إلى يومنا هذا، ولذلك قرّرت نشر المادَّة في مجلّة “الهدف”، وحين علِمَ بها الصَّديق هاني حبيب مدير التحرير حينها خصّص لها مكانًا متميّزًا في المجلَّة، وسعى للاعتناء بإخراجِها لتظهَر بما تستحقّه، كما قام بنشر خبر عنها قبل نشرها، إدراكًا منه لأهميّتها للنضال الفلسطيني.(3)

ما إن اكتمل نشر المادّة الموسومة “مذكّرات صهيوني” على خمس حلقات (خصّصتُ الحلقة التعريفيّة الأولى للمُقدِّمة) حتى هاتفني الأخ والصديق تيسير قُبّعة(4) عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية ومسؤول العلاقات قائلًا “الحكيم بدّو يشوفك” فما رأيك أن نلتقي عنده على الغداء؟ واتّفقنا على موعد والتقينا في مكتب العلاقات مع الدكتور جورج حبش، الذي استمع بصورة مفصّلة لشروحات قدّمتها عن اليوميّات “المذكّرات” ومعسكر تيريزين الذي كنت قد زرتهُ وكذلك معسكر أوشفيتز الذي سبق لي أن زرته أيضًا كما سيأتي ذكره، وعن موقف البلدان الاشتراكية السابقة من الصهيونية والنشاط الصهيوني، وكان حينها قد تأسّست اللجنة الاجتماعية السوفييتيّة لمناهضة الصهيونيَّة” بمبادرة من يوري أندروبوف الذي تولّى الأمانة العامّة للحزب الشيوعي السوفييتي، لكنّه لم يستمرّ طويلًا فقد وافتهُ المنيّة سريعًا، كما تطرّقنا إلى موضوع تأسيس “اللجنة العربية لدعم قرار الأمم المتحدة 3379” على هامش ندوة نظّمها “الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الفلسطينيين”، بمبادرة من الدكتور جورج جبّور وكاتب السطور، وأصبح جبّور رئيسًا لها وكاتب السطور أمينًا عامًّا(5).

واستفسر الحكيم عن إمكانيّة الحصول على نصِّ المذكّرات “اليوميّات” الأصليّة كاملةً وبلُغَتِها الأصلية، خصوصًا وقد استوقفه وجود إيغون ريدليخ في معسكرَي تيريزين وأوشفيتز (أشهر المعسكرات النازيّة) والذي تعاون مع جهاز الغاستابو لنحو أربعة أعوام، ومع ذلك فقد تمَّ إعدامه هو وزوجته وابنه في العام 1944 دون أن تشفّع له الخدمات الكبرى التي قدَّمها للنازيّة بما فيها تعاونه ضدّ أبناء جِلدته بالتواطؤ على إرسالهم إلى المجهول مقابل إرسال بضع عشرات أو مئات من اليهود القياديِّين والمتموِّلين إلى فلسطين، علمًا بأنَّه لم يُخفِ شعوره بالخجل والعار الذي يترشّح من نصوص اليوميّات المكتوبة بعناية فائقة على الرغم من أجواء الرعب واليأس وتبدُّد الآمال الخادعة.

وقد توقّف الدكتور جورج حبش عند المعلومات المثيرة والصادمة التي وردت في “اليوميّات” والتي كتبها إيغون ريدليخ خلال مسؤوليّاته الإدارية العديدة في معسكر تريزين، لا سيّما تلك التي تتعلّق بالصّفقة اللّاأخلاقية بين النازيّة والصهيونيّة، والتي تضمّنت التضحية بعشرات الآلاف من اليهود مقابل وعودٍ زائفة. وقد تمّ العثور على تلك المذكّرات في سقفٍ لأحدِ البيوت الحجرية في شارع غودوالدوف في مدينة تيريزين العام 1967 على يدِ عمّال بناء، وقد كانت الدَّهشة كبيرة جدًّا، فمع  أن “المذكرات” كُتبت بطريقة حذرة خوفًا من وقوعها بِيَد جهاز الغاستابو، لكنها تفصح عن الكثير من المعلومات بصورة مباشرة أو غير مباشرة، سواء بالإيحاء أو التلميح أو قراءة ما بين السطور بتأويلٍ للنصّ أو تفسيره، وحتى لو جاء المضمون يتعلّق بالإدارة أو التنسيق مع المحتل، لكنه يكشف التعاون والتنسيق بين القيادات النازية والقيادات الصهيونية، فيما يتعلق بمأساة اليهود الذين كانوا يغيّبون بالآلاف ويُرسلون إلى حتفهم بمساومات يشعر ريدليخ بالذات بخجله منها.

وبقدر ما تبيِّنُ اليوميّات دوره فهي تعبّر عن طريقة التفكير الصهيونية الخاصة بالتربية والتعليم والتنشئة والعلاقات وغير ذلك من وسائل ميكافيليَّة يتمّ فيها تبرير الوسيلة بزعم الوصول إلى الغاية، علمًا بأن الغاية هي من شرف الوسيلة، ولا غاية شريفة إن لم تكن الوسائل شريفة، وحسب المهاتما غاندي فالوسيلة إلى الغاية هي مثل البِذرة إلى الشجرة، فهما مترابطان عضويًّا ولا يمكن فصمهما.(6)

كنت أتوقّع أنَّ الحصول على نصّ اليوميّات عمليّة سهلة ويسيرة، ولذلك أجبتُ الدكتور حبش بترجيح إمكانية تأمينها، ولكنّني فوجئتُ بصعوبة ذلك بعد الاتصال بصديقنا القديم موسى أسد الكريم والطلب إليه توفير نسخة من نصّ المذكّرات باللغة التي كُتبت فيها، علمًا بأنَّ مُحدّثي من براغ أبلغني بعد أسبوعٍ من تكليفه الصداقي أن ييرجي بوهاتكا هو اسم مستعار لضابط كبير ومسؤول عن ملف النشاط الصهيوني في “تشيكوسلوفاكيا” وكان قد أُقيل من منصبه العام 1968 ثم سُمح له الكتابة بإسمٍ حركيّ لم يتمّ الكشف عنه. والتقى الكريم بزوجته التي كانت تعيش في إحدى المصحّات بعد وفاته بعامين، وحاول الحصول على نسخة من المذكّرات حتى وإنْ دفع ثمنها، وكانت تلك إشارة من الدكتور حبش، لكنّها بعد أن وعدتهُ عادت واعتذرت من الاستجابة لطلبه، ثمَّ امتنعت عن الحديث في الموضوع، بل إنها تهرّبت من مقابلته وأوعزت إلى عاملة الاستقبال في المصحِّ الطلب منه عدم الاتصال بها رغم المحاولات العديدة التي بذلها(7).

وخلال زيارتي إلى براغ في العام 1985 بعد انقطاعٍ دامَ نحوَ ثماني سنوات استفسرتُ من الصديق حسين العامل الكاتب والمُترجم العراقي المُخضرم فيما إذا كان لديه معلومات عن ييرجي بوهاتكا، خصوصًا وأن لديه علاقات متميّزة مع الإدارات التشيكية حيث عاش في براغ منذ أواسط الخمسينات، وبعد تدقيق أبلغني أنَّ ييرجي بوهاتكا كان قد ألّف كتابًا عن “النشاط الصهيوني في الدول الاشتراكية“، واستلم حقوقه البالغة 50 ألف كورون آنذاك، وهو مبلغ لا بأس به في حينها، وقام بتصحيح المسوّدات، واطّلع على صورة الغلاف وعلى الكتاب مطبوعًا في المطبعة، لكن الكتاب اختفى قبل يومين (من صدوره)، إلّا أنّه لم يتعرّف على اسمه الحقيقي الذي ظلَّ لُغزًا مجهولًا، ونقلتُ تلك المعلومات إلى الدكتور حبش الذي أصيب بدهشة وذهول مثلي وربّما أكثر منّي، لا سيّما أن ذلك جرى في ظلِّ النظام الاشتراكي السابق.

وأعود إلى أصل الحكاية فحسب موسى أسد الكريم يكون ييرجي بوهاتكا قد توفّي بين العام 1982 و1983، وإن زوجته كانت ما زالت على قيد الحياة، حيث تعيش في مصحّة خارج براغ، وأغلب الظنّ على ما أتذكّر في كارلو فيفاري، وقد واصلتُ خلال العقود الثلاثة ونصف الماضية، السؤال عن ييرجي بوهاتكا، لكنّني لم أعثر حتى الآن على ما يُستدلّ عليه على الرّغم من التنقيبات العديدة عنه. وحسبما يبدو فقد ظلَّ يحمل اسمه المستعار بدلًا من اسمه الحقيقي، وإن كانت بعض المقالات قد كُتبت، فهي بهذا الاسم وليس باسم آخر، ولم أعثر على من التقاه أو تحدَّث إليه أو عرَفَ شيئًا عنه، وقد سألت الرفيق نعيم الأشهب والرفيق مازن الحسيني القياديَّان في الحزب الشيوعي الفلسطيني والعاملان في تشيكوسلوفاكيا منذ عشرات السّنين، وكذلك سألت موفّق فتّوحي رئيس الجالية العراقية، والرفيق نزار طرابلسي القيادي في الحزب الشيوعي السوري والتشيكي حاليًّا، إضافةً إلى نوري عبد الرازق الذي قضى ردحًا من الزمن في تشيكوسلوفاكيا، وكُلُّهم لم يعرفوا شيئًا عنه بمن من كان على علاقات خاصة مع التشيك.

ولكي تُستكمل الحكاية، فحتّى المذكّرات ذاتها وبعد هذه السنوات الطويلة بقيت سرًّا مجهولاً يصعب الحصول على معرفة دقائقه بالرغم من أنّ الكتاب طُبِعَ أكثر من طبعة وبأكثر من لُغة لكنّه اختفى على نحوٍ شبه تام من المكتبات بما فيها القديمة والتي كانت تُعلن عن وجود عدد من النُّسخ لديها ولكن عند الطلب لشرائها تعتذر هذه المكتبات لعدم توفّرها، وقد حاول الصديق عصام الحافظ الزّند، البحث عن يوميَّات إيغون ريدليخ حتّى عثر عليها مؤخرًا بعد جُهدٍ جهيد، فوصلتهُ نُسخةً من طبعةٍ تعود إلى العام 1992، وقد استعنت بها عند مراجعتي للنصّ الذي سبق لي وأن ترجمته وأعددتهُ للطّبع في العام 1985، وكان أن طلبها من أكثر من مكتبة أمريكية، إلّا أنَّ النسخة الوحيدة التي نحن بصددها كانت متوفّرة في مكتبة أمازون، ويُعتقد أنها ليست كاملة، حيث تمّ حذف أجزاء منها أيام النظام الشيوعي، ولكنّني حين قارنت ما توفّر لديّ من ترجمة لما كتبته ييرجي بوهاتكا وجدتها أقرب إلى النصِّ الأخير الذي نشر بالإنكليزية، وهناك نسخة عِبريّة أيضًا، ويقع الكتاب في 175 صفحة، إضافة إلى عدد من الصُّور وخريطة لمعسكر تيريزين(8)، كما هناك نُسخة تشيكيّة طُبعت في العام 1995 وهي الأخرى مفقودة، الأمر الذي يرجّحُ لديَّ أنَّ المدعو ييرجي بوهاتكا كان قد قرأ مخطوطة المذكّرات (اليوميّات) قبل نشرها بصيغتها المعروفة، بحكم موقعه حسبما يبدو في إدارة المخابرات التشيكية المسؤولة عن مكافحة النشاط الصهيوني، وذلك هو التفسير الذي توصّلت إليه.

لم يكتفِ الحافظ وكذلك زوجته ماريّا الحافظ(9) في البحث عِبر الإنترنت أو من خلال مكتبات عامّة وخاصّة عن يوميّات إيغون ريدليخ والتفتيش عن تقريظ ييرجي بوهاتكا، بل بادر الحافظ بدأبٍ ومسؤوليّةٍ صداقيّةٍ إلى الاتّصال بمتحف تيريزين للسؤال من مديره عن كتاب ريدليخ الذي سبق وأن صدرَ باللغة التشيكيّة عسى أن يجده فيه، بعد أن يئسَ من الحصول عليه، إلّا أنه فُوجئ بأنَّ المدير ذاته لم يسمع أو يعرفَ شيئًا عنه، وبعد اتصالات عديدة وجَدَ نسخة وحيدة في مكتبة “جامعة تشارلس” لكنّها تمنع استعارتها خارجها، الأمر الذي يعني أنَّ الكتاب نادرٌ من جهة وأنَّ ثمَّة وراء الأكمَّة ما وراءها، بخصوص هذه اليوميّات، إضافةً إلى لُغزِ مَنْ قام بتقريظها لدرجة أنَّ اسمه بقيَ مستعارًا على الرغم من مرور أكثر من نصف قرنٍ من الزمان.

وكنت بعد نشر المقالات الخمسة في مجلة “الهدف” أن اتّصل بي الصديق خالد عبد المجيد الأمين العام لجبهة النضال الشعبي الفلسطيني، وطلب منّي جمعها لنشرها في كتاب خدمةً للقارئ وللحفظ أيضًا، وذلك عِبر دار تمّ تأسيسها من قبل جبهة النضال الشعبي، واستأذنته لأسأل مجلّة الهدف التي هي مَنْ بادرَ بنشر المادَّة لأوَّل مرَّة دفعًا لأيِّ إحراج ومن باب اللياقة الدبلوماسية. وبالفعل رحَّب رئيس تحريرها الصديق صابر محي الدين، فصدر الكتاب بطبعة أولى عن “دار الصمود العربي” في دمشق ونيقوسيا العام 1986، وقد نفَذَ خلال أسابيع، وصدرت طبعته الثانية خلال فترة قصيرة، وكان قد صمَّم غلافه الفنّان العراقي المُبدع الصديق مكِّي حسين.

 

المصادر والهوامش

 

(1)  انظر مجلة Tribuna الأعداد 1 و2 و3 و4، كانون الثاني (يناير) 1974 (باللغة التشيكية).

(2)  موسى أسد الكريم من مواليد البصرة، وكان قد تخرّج من دار المعلّمين العالية (فرع الكيمياء)، عمل في الحزب الشيوعي العراقي، واضطرّ للهرب إلى إيران في أواخر الأربعينات من القرن العشرين بعد أن كان قد اشتغل مدرّسًا لبعض الوقت، وفي إيران تعرّض للاعتقال والسّجن عدّة مرّات، وعاد إلى بغداد بعد ثورة تمّوز (يوليو) العام 1958. عمل لفترة قصيرة في إذاعة بغداد، ثمَّ عيِّن مُلحقًا صحافيًّا في بيروت وبعدها مُلحقًا ثقافيًّا في براغ، وقبيل انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963 تمَّ فصله، ولكنّه استقرَّ في براغ حتّى وفاته في نهاية العام 1985، وقد رثاه الجواهري الكبير بإلقاء كلمة مؤثّرة على قبره واصفًا إيّاه بامتلاك مفاتيح الحرف العربيّ، فقد كان يُتقن العربيّة ويتمتّع بذاكرة خصبة وحافظة للشِّعر قراءةً وتذوّقًا، وبالأخص شعر الجواهري، كما كان يجيد الفارسيّة والانكليزيّة والتشيكيّة. وفي السبعينات من القرن الماضي عمِلَ في الإذاعة التشيكيّة – القسم العربي وكان قد عرف براغ ودروبها وخفاياها وخباياها وأسرارها ومفاتنها، لاتّساع خبرته وعمق تجربته، ومن أصدقائه عبد الفتاح ابراهيم وفيصل السامر ونعمة النعمة ونوري عبد الرزاق ومهدي الحافظ وعزيز الحاج وعبد اللطيف الشوّاف وشمران الياسري “أبو كاطع”، وعبد الستّار الدوري، وعشرات من خيرة المثقّفين والسياسيّين العراقيّين.

(3) استشهد غسان كنفاني في بيروت في 8 تموز (يوليو) العام 1972، وكنت قد التقيته في صيف العام 1970 عن طريق الحزب الشيوعي اللبناني بواسطة خليل الدبس وخليل نعّوس والأخير اغتيل في 20 شباط/فبراير العام (1986)، وقد اغتيل بعده بأربعة أيام المفكّر والصحافي الشيوعي القيادي سهيل الطويلة (رئيس تحرير جريدة النداء). وكنتُ قد تعرّفت  على شعراء المقاومة من كتاباته، وخصوصاً محمود درويش وسميح القاسم، إضافة إلى روايته الشهيرة “رجال في الشمس”. وبادر في ذلك اللقاء اليتيم إلى إهدائي روايته “أم سعد”  وهو من الكتب التي أعتزُّ بها، وبقي معي في براغ، وحين عودتي حملتَهُ في حقيبتي اليدويّة، ولم أضعه في حقائبي مع حاجيّاتي وكتُبي التي شحنتها إلى بغداد.

واستمرت علاقتي بمجلة الهدف بعد استشهاد كنفاني حيث تولّى رئاسة التحرير بسّام أبو شريف، الذي كنت قد تعرفّت عليه في المؤتمر العاشر لاتحاد الطلاب العالمي (مطلع العام 1971)، ثم التقيته كثيراً، وإذا بطردٍ ملغوم يُرسل إليه لينفجر بوجهه بتاريخ 25 تموز (يوليو) 1972، فيأخذ إحدى عينيه وأربعة من أصابعه، ويفقد جزءًا من سمعه، وبقيت بعض شظاياه “تطرّز” صدره، ولا يزال يحملها إلى الآن. وكانت براغ محطة أساسية لعلاجه، إضافة إلى تردّده عليها بصفته نائباً لرئيس اتحاد الصحفيين العالمي. وقد وقع حادث التفجير بعد أسبوعين من اغتيال غسان كنفاني.

انظر: عبد الحسين شعبان – في الأنا والآخر يكتمل النقد المزدوج، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في ذكرى تأسيسها الـ52، مجلة الهدف، العدد 9 (1483)، كانون الأول/ديسمبر 2019. قارن كذلك صحيفة “الزمان” العراقية، بغداد – لندن، العددان 6555 – 6556، 11 – 12 كانون الثاني (يناير) 2020. انظر كذلك: عبد الحسين شعبان – تيسير قُبّعة: غيمةٌ فضّيةٌ في فضاء الذاكرة، صحيفة “الزمان” العراقية، حلقتان بتاريخ 29/6/ – و2/7/2016.

(4) انظر: عبد الحسين شعبان- تيسير قُبّعة: غيمةٌ فضّيةٌ في فضاء الذاكرة، المصدر السابق.

(5) تأسّست اللجنة العربية لدعم قرار الأمم المتحدة 3379 العام 1986 وضمَّت شخصيّات مهمّة: إنعام رعد (لبنان) وناجي علّوش (فلسطين) وعبد الرحمن النعيمي (البحرين) ود. غازي حسين (فلسطين) وعبد الفتاح ادريس (فلسطين) وعبد الهادي النشّاش (فلسطين) وغطاس أبو عيطة (فلسطين) وصابر محي الدين (فلسطين) وسعدالله مزرعاني (لبنان) وجورج جبور (سوريا)، وعبد الحسين شعبان (العراق). وقد أصبح اسمها “اللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية”، وقد اختير رئيساً لها إنعام رعد خلَفاً لرئيسها السابق جورج جبّور، كما اختُير أميناً للسر الدكتور غازي حسين بدلاً من أمينها العام السابق كاتب السطور بعد سفره من دمشق.

(6) أُطلق اسم غودوالدوف على عدد من الشوارع والساحات بما فيها مدينة حملت الإسم ذاته تيمّناً  بالقيادي الشيوعي التشيكي كليمنت غودوالدوف (1896 – 1953)  Klement Gottwald وقد تم تغيير اسم مدينة زلين Zlin إلى مدينة غودوالدوف من العام 1949 الى العام 1990، وكان قد أصبح رئيساً لتشيكوسلوفاكيا من 14 حزيران (يونيو) 1948 لغاية 14 آذار (مارس) 1953، وتوفّي إثر نوبة قلبيّة. وقد استعادت المدينة اسمها  التاريخ السابق.  جدير بالذكر أن صناعة الأحذية  نشأت فيها وحملت اسم شركة باتا – Bata Shoes في نهاية القرن التاسع عشر، وهي من شركات الأحذية العالمية التي أصبح لها شُهرة كبيرة وما تزال لحد الآن.

(7) للأسف لم أتوصل إلى الإسم الحقيقي لييرجي بوهاتكا، فبعد أسابيع من المراسلات والاتصالات أُصيب موسى أسد الكريم بمرض عُضال ولم يمهله هذا المرض الخبيث طويلًا، وكنت قد استفسرت من عدد من الأصدقاء عن اسمه، لكنّني لم أحصل على جواب شافٍ أو معلومة دقيقة.

(8)  The Terezin Diary of Gonda Redlich – Editor: Saul S. Friedman, Translator: Laurence Kutler, Foreword by: Nora Levin, The University Press Of Kentucky, 1992.

(9) كان الرئيس ياسر عرفات حين يأتي لزيارة جمهورية تشيكوسلوفاكيا يطلب ماريّا الحافظ للترجمة إلى العربيّة، فقد كانت رئيسة القسم العربي في الإذاعة التشيكيّة كما قامت بترجمة عدد من الأعمال الأدبية لـ غسان كنفاني ومحمود درويش وعدد من الأدباء الفلسطينيين والعرب.

 

نُشرت في مجلة “الهدف” الفلسطينية، العدد 1495 في 26 – 12- 2020

وهي مقّدمة جديدة لكتاب كان قد نشره الباحث في العام 1986  طبعتان، وهو حالياً قيد الطبع مجدداً بطبعة ثالثة مزيّدة ومنقّحة.

 

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com